|
تعاليم زرادشت وفلسفة الديانة الپارثية
الزرادشتية واحدة من أهم ديانات الشرق القديمة وأكثرها شيوعًا وانتشارًا في الأزمان الغابرة. هي ديانة اخترعها العقلُ المشرقي في رحلة بحثه عن ماهية الحياة والموت والخير والشر؛ ديانة لا تزال تجد مَن يعتنقها ويخلص لها إلى الآن.
الدكتور س.أ. كاپاديا S.A. Kapadia، مؤلِّف هذا الكتاب[*]، الذي سعى إلى البحث في تعاليم زرادشت وتدوينها، هو طبيب ورجل قانون إنكليزي من أصل هندي يعتنق الزرادشتية – التي يختلف "زرادشتها" عن "زرادشت" نيتشه (السوپرمان)، بل هو على النقيض منه: إذ يُحكى أنه حين كان زرادشت (الپارثي، أي "الفارسي") جنينًا بعدُ، حلمت أمُّه التقية دُغدهوفا Dughdhova بعظمة وليدها القادم ومعراجه المرتقب إلى السماوات، حيث قُيِّضَ له أن يتلقى كتابَه المقدس: زند آفستا Zend-Avesta. زرادشت هذا ولد مبتسمًا. وقبل أن يبلغ سنَّ الرجولة، مسَّتْ مشاعرُ الرَّوْع والمهابة قلوبَ جميع مَن كان على صلة به. وكما فعل البوذا Buddha، وريثُه الشهير الذي ظهر في عصر لاحق، فقد خرج من عزلته، وبدأ بالدعوة إلى اعتناق تعاليمه الدينية المتصلة بالتوحيد، مستنكرًا عبادة الأوثان.
زرادشت (628-551 ق م) ولقد ظهر زرادشت أول ما ظهر أمام قصر الملك فيشتاسْپا Vishtaspa، وبدأ ينشر رسالته الدينية عن طريق المحاججة والإقناع، فأعلن عن تفويض أهورا مزدا Ahuramazda (الرب) له، وذلك ليبعث الروحَ في معتقدات الآريين القديمة، وذلك لإعادتها إلى نقائها العقلي النبيل المتصل بمفهوم التوحيد. يُعتبَر أسفانديار Asfandiar، ابن الملك الحاكم گوشتاسْب Goshtasb، أول من اعتنق الديانة الزرادشتية. ثم أصبح الملك ذاته أحد مريدي هذا النبي (زرادشت) وأتباعه، معتقدًا أن لديه رسالةً دينية يجب تبليغها. فدعا أسفانديار جميع رعاياه إلى اتباع عقائد زرادشت وتعاليمه. أما رستم، بطل سيستان وزعيم سلالة أخرى، فقد رفض أن يتنكر لديانة أسلافه ومعتقداتهم؛ ولذلك زحف أسفانديار لمواجهته، فجَرَتْ معركةٌ طاحنة بينهما، أدت، كما تروي الأساطير، إلى أن يتحول جسم أسفانديار إلى معدن البرونز – باستثناء عينيه. لكنْ على الرغم من هذه العدة الهائلة والخارقة للطبيعة، فقد سَمَلَ رستم عينَي أسفانديار بسهم مزدوج الرأس، فعاد هذا الأخير إلى أبيه ومات بين يديه. مرَّ حتى الآن (بحسب المصادر القديمة) أكثر من 3500 عام على اعتناق گوشتاسْب ملك إيران عقيدةَ زرادشت؛ وهو يُعتبَر بذلك أول من أسَّس عقيدة الدين وأدخلها إلى بنية الدولة. حتى إن القائدين العسكريين المشهورين في إيران بقوتهما، قورش وداريوش، أدخلا الملايين من الناس في هذه الديانة (الزرادشتية)، فازدهرت وانتشرت كثيرًا وطويلاً، حتى جاء الإسلام، فتراجعت وانكفأت أمام الفتح العربي خلال فترة خلافة عمر بن الخطاب بعد معركة نهاوند في العام 642 م. على إثر هذه المعركة، هرب الكثيرون من كهنة المجوس خُلسةً إلى شواطئ الهند الغربية، حيث تمكن الپارثيون (الفارسيون الزرادشتيون)، بفضل هؤلاء الكهنة، من إعادة تجميع أنفسهم ونشر دعوتهم حتى في الغرب. والسبب في ذلك هو أن هذه الديانة تنمِّي أنبل غريزة في الإنسان: "روح الطبيعة" Asha، كما سمَّاها زرادشت (وهي كلمة تتضمن معاني الاستقامة والنظام والحق)؛ إضافة إلى أنها تدعو إلى الإيمان بإله متعالٍ واحد هو "الخالق": ففي العبارات الواردة في الأناشيد المقدسة للـگاثا في الديانة الزرادشتية، نرى فكرة إله الأكوان محبوكةً حبكًا مقنعًا: فهو الإله الذي لا يُعزى إليه أي شكل أو لون أو مظهر، أحد صمد، لا تحيط به العقول، العادل، الغفور، الرحيم، الواحد، الأحد، الذي لا يحدُّه مكان. بل إننا في كتاب صلوات الپارثيين (الفارسيين) خوردا آفستا Khorda-Avesta ("الآفستا الصغير") نقرأ كيف يصف الله ذاته بقوله: أنا الحافظ، أنا البديع، أنا العليم الخبير، مانح الصحة، أهورا [الرب] مزدا [المحيط بكلِّ علم]، القدوس، الجليل، الملك الذي لا رادَّ لقضائه، الأحد الذي لا يخيب مؤمله، الذي لا يُمكََر به، القاهر لكلِّ شيء، العظيم، النور، الحكيم، خير الحاكمين. وزرادشت ما ينفك في تعاليمه مؤكدًا على الاعتقاد بالقوة الخالقة العظمى، التي لا يتم الوصول إليها إلا عن طريق "العقل الصالح" Voh-Manah. بل إنه حذَّر أتباعه ومريديه من تأثير "روح الشر" Ahriman. وإن أكبر الشرور في زمانه قد يتمثل في ميل العامة إلى عبادة مظاهر الإله وتجلِّياته والعناصر التي ابتدعها. وقد عمد الاعتقاد الخرافي تدريجيًّا – لافتقاره إلى الهداية السليمة – إلى خلق آلهة خيالية متوهَّمة، وجسَّدها في أوثان مادية يعبدها المؤمن بحسب نزوته بها. وفي لغة تلك الفترة التي كانت منتشرة بين الآريين القدماء، فإن كلمة دايفا daēva تفيد معنى "الرب"؛ وهي مشتقة من الجذر الآري ديف div، أي "يشرق". ومن ثم فإن هذه التجليات الطبيعية كلَّها تدعى ديفا deva. زرادشت، بثاقب بصيرته، أدرك – حين جاء بدعوته – أن ديانة التوحيد القديمة التي كان الآريون يؤمنون بها قد تدهورت ووصلت إلى حالة جعلت الناس يستبدلون بعبادة الإله الواحد عبادةَ الأوثان والتصاوير. لذا دعا أول ما دعا الناس إلى الإيمان بـ"روح الطبيعة"؛ ما اضطره إلى قمع ما يُدعى "أوثانًا" deva، التي تعني بلغة الآفستا "الشر" أو روح الفساد. أما الجذر القديم لكلمة div، الذي يعني "يشرق" أو "يشع"، فإن اللغة اللاتينية اشتقت منه كلمة Deus، واليونانية Zeus، والسنسكريتية deva، والألمانية القديمة Zio (إله النهار) – وكلها كلمات تعني "الرب". وبحسب زرادشت، فإن الصراع بين الخير والشر مستمر منذ لحظة الخلق الأولى. لكن لا ينبغي لفلسفة الخير وروح الشر، الخالقة للعالم المادي، أن تمتزج بفكرة الثنوية dualism. فلقد اتُّفِقَ، كما يرى الباحث كاپاديا، الأستاذ في جامعة لندن، والكثير من المثقفين والكتَّاب المعروفين في أوروبا، على أن زرادشت لا يقول بالثنوية، لأن روح الشر لا تتصف بأية من صفات الله تعالى، فلا يوضع معارِضًا على الضد منه، ولا يكون ندًّا منافسًا لله. بل إن النص الأخير من الفهلوي Pahlavik ينفي الثنوية التي لا تشكِّل أي جزء من العقائد التي بشَّر بها زرادشت، الذي قال له أهورا مزدا، الحكيم المطلق، العليم بكلِّ شيء: لقد جعلتَ كلَّ أرضٍ محبَّبةً إلى قلوب أهلها، وإنْ لم تكنْ عامرةً بالمفاتن. *** *** *** [*] س.أ. كاپاديا، تعاليم زرادشت وفلسفة الديانة الپارثية، بترجمة خالد جعفر، دار فصلت للدراسات والترجمة، طب 1، 2004. |
|
|