|
سري نسيبة والمقاومة
السلمية قبل
نحو عشرين عامًا أسَّس السيد مبارك عوض (فلسطيني
يعيش في أمريكا) مركز اللاعنف الفلسطيني في
مدينة القدس. وفي حين ضحك منه الفلسطينيون
باستهزاء أخذتْه السلطاتُ الإسرائيلية بجدية
أكثر، لا بل ارتعدتْ فرقًا منه. فقد تمَّ
اعتقالُه وطردُه إلى أمريكا بحجة "التحريض"،
ومنعتْ محاولاتِ عودته إلى البلاد منذ تلك
الفترة، حيث كانت محاولتُه الأخيرة في شهر آب
الماضي [2001]. لقد طردتْه السلطات الإسرائيلية
لصعوبة مواجهتها للمبادئ والأفكار اللاعنفية
التي يمثِّلها، ولخوفها من نهجه المتحدِّي
والمُحرِج، ولصعوبة إعطاء تفسيرات حول
أساليب القمع والتنكيل التي تنتهجُها
السلطاتُ الإسرائيلية ضد المواطنين العُزَّل
الذين يواجهون الدبابات بإلقاء أجسادهم تحت
عجلاتها، في حين يَسْهُل عليها تفسيرُ إطلاق
النار على الجموع الفلسطينية حين يقومون
بإلقاء الحجارة أو زجاجات "المولوتوف". لقد حاول مبارك عوض،
ويحاول اليوم د. سري نسيبة، بالأسلوب ذاته،
التوجُّه نحو الضمير الإسرائيلي الذي يختبئ
تحت الواجهة العنيفة للاحتلال. ويحاول
الاثنان استغلال قوة التخجيل التي دعا إليها
زعيم حركة تحرير السود في أمريكا، مارتن لوثر
كنغ – هذه القوة التي واجَه من خلالها كنغ
سياسة التمييز العنصري من قِبَل الغالبية
البيضاء؛ وهي نفس القوة التي استعملها
المهاتما غاندي في الهند للتخلص من الاحتلال
الإنكليزي. لقد اعترف
الفلسطينيون بوجود دولة إسرائيل، ولكنهم لم
يستثمروا هذا الاعتراف ولم يستغلوه بالطريقة
الإيجابية التي تعود عليهم بالنفع. ففي حين
يتجاوب هذا الاعتراف مع رغبات غالبية
الإسرائيليين واليهود في شتى أنحاء العالم
وأمانيهم، بقيتْ صورةُ الفلسطيني الغالبة هي
تلك الصورة التي تهدِّد الوجود الإسرائيلي
والكيان اليهودي والتي شُوِّهَتْ من خلال
آليات إعلام اليمين الإسرائيلي، لتُظهِرَه
بمظهر العدو الذي يشكِّل خطرًا أمنيًّا،
ممكِّنة بذلك من استمرار التعنُّت في موقف
الشارع الإسرائيلي. بالطبع لم يجعل
إسرائيل مهمة دعاة السلام الفلسطينيين سهلة
بالمرة، حيث استمر في انتهاك أمنهم وسلامتهم.
ففي حين وقَّع على اتفاقيات أوسلو، من جهة،
استمر في سلب الأرض الفلسطينية وفي بناء
المستوطنات وفي تقطيع أوصال الأراضي
الفلسطينية من خلال الحواجز العسكرية
المهينة، من جهة ثانية. هذا الوجود العنيف
عَمَدَ إلى تقييد تحركات الشعب الفلسطيني،
بشكل عام، والسلطة الفلسطينية، بشكل خاص،
وذلك لبسط الوجود الإسرائيلي على كافة
الأراضي المحتلة. و تحديًّا لواقع
العنف والمقاطعة والعداوة يظهر اليوم د. سري
نسيبة، مسؤول ملفِّ القدس في السلطة
الفلسطينية وعضو الوفد المفاوِض، بحلِّه
الفلسطيني الواقعي والعقلاني الذي يمدُّ يد
السلام للإسرائيليين، مؤكدًا لهم أنه
يتفهَّمهم ويتفهَّم آلامهم ومخاوفهم، وأنه
لا يرى في نفسه عدوًّا للإسرائيليين، بل شريك
لهم في مستقبل آمِن لكلا الشعبين؛ يطرح نفسه
والقضية الفلسطينية بصورة سلمية، بعيدة عن
صورة الفلسطيني العنيف؛ يتحدَّى الصورة
المشوَّهة التي يحاول اليمين إلصاقَها
بالفلسطيني من خلال دماثة خلقه ورفضه استعمال
لغة التهديد والوعيد والتخويف وإطلاق
الشعارات الطنَّانة. لقد واجَه د. سري
نسيبة اليمين الحاكم في عيد الفطر الماضي
عندما دعا، باسم منظمة التحرير الفلسطينية،
أعضاء السلك الدبلوماسي إلى احتفال بمناسبة
العيد. وثارت ثائرة عوزي لنداو وأعوانه الذين
أصدروا الأوامر بمنع عقد اللقاء، بل قاموا
بتوقيفه، محاولين بذلك كسر عزيمته وجرِّه
لإطلاق تصريحات الغضب لتشويه صورته. إلا أن
ردَّه كان مغايرًا لمآربهم، حيث تحدَّث عن
ضرورة المشاركة في إدارة شؤون القدس بين
إسرائيل والفلسطينيين، وقال إن على القيادات
والشعب الفلسطينيَيْن تفهُّم حقيقة أن حقَّ
العودة إلى فلسطين التاريخية لن يتحقق حسب
الحقوق والأحلام الفلسطينية، بل فقط في إطار
الدولة العتيدة. لقد صرَّح بهذه
الكلمات ليزيل مخاوف الشارع الإسرائيلي. وكان
ردُّ عوزي لنداو وتساحي هنجفى صارخًا، حيث
أفْقَدَهما هذا التصريح توازنَهما، فظهرا في
أبشع صورة طغاة أمام الشارع الإسرائيلي
والعالم. مما دفع بالعديد من مؤسَّسات السلام
الإسرائيلية إلى تجديد الحوار مع المؤسَّسات
الفلسطينية من أجل إعادة الشرعية لمبدأ حلِّ
النزاع بالطرق السلمية. على شعبنا الفلسطيني
وقيادته السياسية إعطاء فرصة لسري نسيبة
وزملائه لتحدِّي المقولات الإسرائيلية، لأن
المعركةَ معركةٌ إعلامية في الأساس، خاصة في
ظلِّ انعدام خيارات وإمكانية حقيقية لفرض
واقع آخر. وربما نتمكَّن، من خلال ذلك، من كسب
تعاطف العالم، من جهة، وإحراج المواقف
الرسمية لحكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة،
من جهة أخرى، فيَصِل هذا الموقف إلى الشارع
الإسرائيلي وإلى عقل المواطن الإسرائيلي
العادي الذي يُشبِعه الإعلامُ العبري
يوميًّا بالتحريض الأرعن على الشعب
الفلسطيني وقضاياه العادلة. *** *** *** عن الأهالي، 25/1/2002
|
|
|