|
قصة من قصص النضال
اللاعنفي
من المؤسف
أننا، نحن الفلسطينيين، لم نوثِّق توثيقًا
ملائمًا قصصَ النضال الفلسطيني اللاعنفي
وتاريخَه. فانشغالي في مجال اللاعنف، مثلاً،
كان التزامًا شخصيًّا عميقًا ينبع من مصدرين
رئيسيين: أولاً: إيماني الديني بأنني كإنسان،
مثلي مثل بقية البشر، مِن خَلق الله، سبحانه
وتعالى؛ لذا لا يصح لأحد أن يقتل روح الله
الموجودة في كلِّ إنسان، مهما كانت الظروف.
ثانيًا: معرفتي بعلم النفس التي قادتني إلى أن
أدرك أن اللاعنف يمكنه أن يكون أداة أكثر
تأثيرًا بكثير في مقارعة الاحتلال من
المقاومة المسلَّحة. عدت في العام 1983 إلى فلسطين كطبيب نفسي
يرغب في تقديم الإرشاد النفسي للفلسطينيين.
وسرعان ما وجدت نفسي منغمسًا في نشاط اللاعنف.
أنشأت المركز الفلسطيني للاعنف لأقدِّم
حلولاً بديلة للفلسطينيين، مركِّزًا على
اللاعنف في العالمين العربي والإسلامي، وعلى
الدروس المستقاة من تجارب غاندي في الهند
ومارتن لوثر كينغ الابن في الولايات المتحدة
وعبد الغفار خان في الباكستان. وسرعان ما وضعتُ يدي على الفروق التي
تميِّز وضعنا. فالفلسطينيون لهم عدو مختلف:
اليهود حول العالم في طليعة المدافعين عن
الحقوق المدنية وحقوق الإنسان والطلبة
والمرأة؛ وكانوا لتوِّهم قد تعرضوا لصدمة
المحرقة، ويعانون من عقدة الاضطهاد والخوف من
الإبادة الجماعية. فاستخدام أساليب اللاعنف
في مجابهة هذا العدو بالذات قد يعني استثمار
فرصة متاحة لتبنِّي أساليب المقاومة المدنية
والمنطق بدلاً من الرصاصة. شعرت أن كفاحنا
المسلَّح وبلاغتنا اللغوية عن المقاومة
المسلَّحة لم يحققا سوى تعزيز مخاوفهم وعقدة
الاضطهاد عندهم، بينما كان يمكن للاعنف أن
يناشد إنسانيتهم، حيث إنهم سمعوا عن حبِّنا
للأرض والتماسنا للعدل والإنسانية في وجه
احتلالهم البغيض. في السنوات الأولى من عمر المركز قمنا
بتنفيذ برامج تعليمية، إضافة إلى تنظيم حملات
صغيرة صُمِّمتْ لإشراك المزيد من أبناء شعبنا
في الحركة اللاعنفية على أساس يومي. وكمثال
على ذلك، أذكر حملتَنا لحثِّ الناس على
الاعتماد على الذات ومقاطعة أيِّ طعام أو
مشروب لم يُنتَج محليًّا. وقد رفضتْ كلٌّ من الحكومة الإسرائيلية
ومنظمة التحرير الفلسطينية فكرة اللاعنف هذه
في البداية، لكنْ لأسباب مختلفة:
فالإسرائيليون شعروا بالتهديد من التأثير
الذي يمكن أن تُحدِثه المقاومة اللاعنفية.
ومن ناحية أخرى، اعتبرتْ منظمة التحرير
الفلسطينية هذه الحركة تحديًّا لمكانتها
المهيمنة ولخطابها الذي يمجِّد البندقية
والكفاح المسلَّح، حيث لم تتم استشارتُها حول
الأساليب التي تمكِّن المقاومة من إيجاد مكان
لها دون اللجوء إلى العمل المسلَّح. ورغم
المعارضة، أثبتتِ الحملاتُ نجاحَها، من حيث
إنها زادت من استخدام تعبير "اللاعنف".
فقد ساهمت في جعل الفكرة تمتلك ملامح محلية
ومألوفة. ومن اللافت للنظر أننا نجحنا أكثر في
إيصال رسالتنا إلى القرى والجامعات ومخيمات
اللاجئين، بينما بقيتْ المدن والنخبة
السياسية مسكونة بالشك. كان هدفنا تحريك
الشعب الفلسطيني ومجابهة الاحتلال كواجب
ومسؤولية يقعان على عاتق كلِّ فلسطيني، وليس
فقط على عاتق فصائل المقاومة ومنظمة التحرير
الفلسطينية. ولفعل ذلك، كان علينا أن نزيل
عامل الخوف من كلا الطرفين، وأن نُري
الفلسطينيين أن الجنود الإسرائيليين بشر،
يشعرون أيضًا بالألم ووخز الضمير. وقمنا
بزيارة البلدات ومخيمات اللاجئين بشكل منتظم
والتحدث مع مَن يرغب بالإطلاع على قضيتنا. لم
نركِّز فقط على المواضيع السياسية العميقة،
بل حاولنا أيضًا مخاطبة احتياجات
الفلسطينيين العاديين ومساعدتهم على تحقيق
متطلَّباتهم من خلال أساليب عملية من
المقاومة اللاعنفية. وقد تضمن ذلك أعمالاً مثل غرس الأشجار
لإعاقة مُصادرة الأراضي، وقطع المياه عن
المستعمرات التي تمرُّ أنابيب الماء إليها
عبر القرى العربية. واتجهت إحدى حملاتنا إلى
قلب النزاع مباشرة: طلبنا أن يعود الذين خسروا
بيوتهم أو هربوا منها في العام 1948 إلى هذه
البيوت في زيارة قصيرة، ليضعوا ببساطة وردة
واحدة في المكان الذي كانوا يعيشون فيه. كان
ذلك تذكيرا رقيقًا للمارِّين ممَّن رأوا
الورود، بِمَن فيهم السكان الحاليون، بمأساة
اللاجئين، وتوقهم إلى العودة، والظلم الذي
لحق بهم في العام 1948. كان ذلك تذكيرًا
إنسانيًّا قويًّا بأن موضوع عودة اللاجئين لا
يمكن تجاهله ببساطة في أية تسوية نهائية. وفي نهاية المطاف، كان لانتشار الأنشطة
اللاعنفية في كلٍّ من فلسطين وإسرائيل، رغم
ضيق حيِّزها، أنْ مثَّل تهديدًا
للإسرائيليين. وكان إشراك مجموعات السلام
الإسرائيلية في حملتنا قرارًا واعيًا
لنتمكَّن من اختراق الذهنية المسيطرة على
الحكومة الإسرائيلية. ووفَّر ذلك الفرصةَ
ليكون لنا شركاءٌ من الطرفين، يعملون لهدف
واحد، ويعزِّزون القلق من احتمال حدوث اضطراب
مدني داخل دولة إسرائيل. ونتيجة لنجاح
الحملة، تحركت الحكومة الإسرائيلية لتضع
حدًّا لنشاطي بإيداعي السجن، ومن بعدُ ترحيلي. في تلك الأثناء، نشطنا في إرسال الشباب
إلى مختلف الجامعات لدراسة السلام وحلِّ
النزاعات واللاعنف. وأدَّتْ دراسةُ هذه
المجالات وتطبيقاتها إلى إنشاء ما يزيد على
ثلاثين منظمة غير حكومية التزمتْ كليًّا
باللاعنف والديموقراطية. وقد استمرت هذه
المنظمات، منذ ذلك الوقت، بحمل هذه الرسالة
في وجه الاحتلال الإسرائيلي وفي داخل المجتمع
الفلسطيني. وعندما سُمِحَ لي بزيارة فلسطين المحتلة
مؤخرًا لحضور مناسبة عائلية، لاحظتُ بإعجاب
أنه، رغم الوضع الاقتصادي السيئ، وفقدان حرية
الحركة، والحرمان من حقوق الإنسان من قِبَل
الإسرائيليين، ما يزال هناك التزام بالنضال
اللاعنفي في فلسطين. واليوم أرى المزيد من
التأييد لمفهوم اللاعنف من قِبَل الذين
يحاولون البحث عن مضمون لهويتهم بمساءلتهم
السلطة، ومن الذين يرغبون بأن يكون لهم دور في
العملية السياسية. والأهم من ذلك كلِّه، أجد
نفسي متشجِّعًا وصامدًا في إيماني الصابر
بحتمية تحقيق نتائج إيجابية. *** *** *** *
مدير مؤسَّسة اللاعنف الدولية.
|
|
|