|
مطلوب
فريق ثالث بين
جُرْمِ الإرهاب وجنون الحرب المشاكل
ليست في ذاتها، بل في موقف الإنسان منها. ففي
أول نزاع مسلَّح بين "ابنَيِّ" آدم،
بَرَزَ موقفان لمواجهة المشكلة: الأول يقوم
على التهديد بالقتل ويقتل: «لأقتلنَّك»،
والثاني لا يبسط يده بالقتل ولا يمارس "حقَّ
الدفاع عن النفس": «لئن بسطتَ إليَّ يدك
لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك»؛
الأول يقوم على عبادة القوة والإكراه،
والثاني على الحوار وعدم الطاعة؛ الأول هو
ملَّة الكافرين، والثاني هو ملَّة الأنبياء.
ومع أن هذه القصة المثيرة موجودة في سورة
المائدة – وهي من أواخر ما نَزَل – لكنها
مغيَّبة عن الوعي الإسلامي. وهذا يعني أن
الفكر الإسلامي يجب أن يُعاد بناؤه من جديد reconstruction.
وما لم تتم إعادة
النظر في مفهوم "الجهاد" الذي رَسَمَه
فقهاءُ العصر القديم فإن الجامع والجامعة سوف
يعيدان إفراز الأنماط الثقافية نفسها،
وسيكون أمامنا الكثير من الانفجارات. في الفسيولوجيا نعرف ظاهرة "الوعي
الانتقائي": فالعين ترى ما يريده الدماغ،
والوعي ينتخب نقاطًا بعينها يسلِّط عليها
الضوء؛ أما بقية الساحة فهي تسبح في سديم مظلم.
لا يوجد في العالم إلا مذهبان: مَن يؤمن
بالقوة، أو مَن يتخذ موقف ابن آدم، فيقول: «ما
أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله ربَّ
العالمين». ومن الجميل أن تطور العالم قاد إلى
هذه النتيجة، فتوقفتْ حروبُ دول الشمال،
بعدما جربتْ كلَّ أنواع الحروب الدينية
والقومية والعالمية، وانحصرتِ الحروب في دول
الجنوب. ومع 11 سبتمبر عام 2001، تبرز إلى
السطح هذه الآية العجيبة مرة ثانية، لتؤكد أن
تطور الحرب وصل إلى منعطف جديد، بحيث تلغي
نفسها بنفسها. فمَن ضَرَبَ رموز أعظم
إمبراطورية لم تكن جيوشًا جرارة، أو كائنات
خارج أرضية، أو تكنولوجيا صواريخ متقدمة. إن
القرن العشرين قدَّم الدليل العلمي الواقعي
على صحة موقف "ابن آدم الأول" مِن رَفْضِ
العنف. والقنبلة النووية لم تكن لصالح العنف،
بل كانت لصالح السلام. فهي نَسَخَتْ العهد
القديم، ومعه العنف والحرب؛ ولهذا لا يمكن
لعالم الكبار أن يتقاتلوا. يحدث هذا للمرة
الأولى في تاريخ الجنس البشري. إن سقوط
الاتحاد السوفييتي، وهو يملك من القدرة ما
يدمِّر به الأرض، دليل على أن القوة لم تعد
تجدي ولا تحمي من يملكها؛ وصعود اليابان، وهي
لا تملك القوة، دليل آخر على إمكان الصعود
بدون قوة. هذا هو عالم الكبار اليوم. فما هو
حال عالم الصغار؟ وهذه الثقافة التي ينبغي أن
نصنعها هي التي ستبدِّل الذهنية الجماعية
التقليدية التي تنظر إلى العنف على أنه بطولة
وقداسة، بدلاً من النظر إليه أنه أمر يدعو إلى
الغثيان، وأنه كفَّ عن كونه بطولة، بل تحول
إلى جريمة. وما لم نحقق هذه النقلة الثقافية
والقطيعة المعرفية فلن نكون قد صنعنا شيئًا.
فكما كانت الجراثيم القاتلة، قبل كشفها
ومعرفة كيفية التعقيم منها، مبثوثة في
أعيننا، وكانت تداهمنا من غير أن نعرف كيف
تأتي وتحصد الناس، كذلك فإن الجراثيم الفكرية
الثقافية المبثوثة في أغذيتنا الفكرية تأتي
وتحصدنا، ثم نعيش حيارى ملتبسين. حقًّا، لم يبقَ في العالم إلا
مذهبان: مَن يؤمن بالعنف؛ ومَن يرفضه ويتحداه
بالسلام. وما هو أمام العرب اليوم هو أن
يتمرنوا على حلِّ مشاكلهم في ما بينهم
سلميًّا. فإن نجحوا في ذلك فستُحَلُّ
المشكلات بينهم وبين غيرهم تلقائيًّا. ويظن كثير من الناس أن حلَّ
المشكلات موجود عند السياسيين. والواقع أن
السياسي هو حفيد المثقف: إنه ثمار الشجرة التي
غرسها المثقفون. إن التاريخ يعلِّمنا أن
سقراط تحدى العنف وقَبِل الموت، واعتبر العنف
عارًا، والموت ليس عارًا، وأن من العار أن
نرتكب العنف، الذي هو العار، خوفًا مما ليس
بعار، وهو الموت. وعندما تجرَّع سقراطُ
السمَّ بكتْ زوجتُه وقالت: «إن ما يُحزِنُني
أنك تموت وأنت بريء.» فقال لها: «ويحكِ، وهل
كان يرضيكِ أن أموت وأنا مُدان!» لا يُعقَل أن يتحكم في العالم
المجرمون والصيارفة والجنرالات. والمسيح،
عليه السلام، مع كلِّ الروح السَّلامية التي
حملها، هجم على كلِّ الذين «كانوا يبيعون
ويشترون في الهيكل، فأخرج الجميع من الهيكل
وقَلَبَ موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام»،
ثم صرخ فيهم: «لقد حوَّلتُم بيت الله إلى
مغارة لصوص.» ولا يُعقَل أن تحكم منطقَ العالم
مقولةُ هنري كيسنجر أن «مَن ليس معنا فهو مع
الإرهاب». بكلمة أخرى، يجب أن يتشكل فريق
ثالث، بين الإرهابيين، من جهة، والولايات
المتحدة، في الجهة المقابلة؛ فريق يدعو إلى
السلام العالمي، على أساس أن هناك خيارًا
أفضل من "الحرب" ومن "الإرهاب". هذا
تيار يحتاج إلى التنظيم؛ فجنودُه جاهزون،
بمَن فيهم الأمريكيون والأوربيون. إن العالم اليوم يولد ولادة
جديدة، حيث حطَّم العلمُ الجغرافيا، وألغى
الإنترنت المسافات، وتحول العالم إلى أسرة
واحدة، تحقيقًا لقوله تعالى: «... وجعلناكم
شعوبًا وقبائل لتَعارفوا...». عندما أرسل
محمد، صلى الله عليه وسلم، رُسُلَه إلى
العالم، طالبهم بـ"كلمة السواء" أن لا
يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله. هذا هو
التوحيد الذي جاء به الإسلام. وجَرَتْ سُنَّة
التاريخ أن الكبرياءَ تسبقُ السقوط، وأن باب
"هلاك الأمم" هو إقامة الحدِّ على الضعيف
دون القوي. ويُتحِفُنا المؤرخ الأمريكي بول
كينيدي بنظرية مثيرة عن كيفية "صعود" و"سقوط"
القوى العظمى في القرون الخمسة الأخيرة بـ"فرط
التوسع"، إذ يحدث الانكسار بين
المتطلَّبات العسكرية والإمدادات
الاقتصادية. والإمبراطورية الإسبانية – مع
كلِّ نهب الذهب والفضة من قارتي أمريكا –
تَهاوَتْ إلى السقوط بفعل "فرط التمدُّد"
هذا. إن في فلسفة القرآن ما يؤكد على
أن "الظلم" داخلي بحت: «وما ظَلَمَهم
الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون»؛ و«الشيطان
ليس له سلطان على الناس إلا من اتَّبعه من
الغاوين». وهذه "الفلسفة القرآنية"
تحرِّض باتجاه "تغيير ما بالنفوس"، أي
"تحرير الإرادة". فإذا انمحتِ القابليةُ
للاستعمار زال الاستعمار الخارجي والداخلي.
ويجب أن تستوعب الشعوبُ العربية حقيقةَ مُرة،
هي أنها لم تتخلص بعدُ من "القابلية
للاستعمار"! فبعد أن تخلَّصتْ من "الاستعمار
الخارجي" وقعتْ في قبضة استعمار أدهى وأمر،
هو "الاستعمار الداخلي" – والتخلص منه
أشق بكثير. فصراع اليهود اليوم سهل في
انتفاضات يرمي فيها الطفلُ الفلسطيني
الحجرَ، ويموت في سنة ستمائة شخص. ولكن الخوف
الأكبر أن يُقتَل من الفلسطينيين على يد
حكومة فلسطينية مقبلة ستمائة في يوم واحد. هذه
حقائق فاجعة، لكن لا يقول بها أحد ولا يتصورها
إنسان. إن ما دُمِّرَ في أفغانستان على يد
المجاهدين أضعاف ما دُمِّرَ على أيدي الروس.
ونحن نعرف من العالم العربي أن مدنًا
نُسِفَتْ بالصواريخ نسفًا، وأن الغازات
السامة رُشَّتْ على قرى، فتساقط سكانُها مثل
الذباب في أثناء رشِّ المبيدات الحشرية؛ ولكن
لم يعلم أحد بذلك، حتى اختلفتِ المصالحُ،
فظهرت إلى السطح الفضائح. وفي الجزائر يُقتَل
في يوم واحد ما يُقتَل في الانتفاضة في شهر. إن الإنسان العربي «تدثَّر
بلباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون»، مقابل
وضع الإنسان في العالم الغربي الذي أُطعِمَ
من جوع وأَمِنَ من خوف، وأصبحت بلدانُه
ملاذًا لكلِّ الفارين السياسيين والجائعين
من العالم الإسلامي، بِمَنْ فيهم مَن يؤمن
بالعنف. إنها حقائق فاقعة لا تسرُّ
الناظرين؛ ولكننا لا نحب الاعتراف بها. إن
العالم الإسلامي، في قسم منه لا يُستهان به،
قد انغمس في الوثنية السياسية؛ والعالم
الغربي يحقق اليوم كثيرًا من قِيَمِ العدل
الإسلامية. إن العِبْرة ليست في الشعارات، بل
في الحقائق؛ وحقيقةُ الشيء تَغلِبُ مظهرَه في
النهاية. «ولن يجعل الله للكافرين على
المؤمنين سبيلاً». فإذا جعل لهم سبيلاً،
علينا أن نعيد النظر في أنفسنا. وما دعا إليه
الأنبياء لإنهاء حالة "القابلية للذل"
هو تحرير الإنسان من علاقات القوة. فهم لم
يدعوا إلى قتل أحد، ولكن دَعَوْا إلى "رفض
الطاعة" – والفرق هائل بين الآليتين – لأن
القتل يدخل في مذهب المجرمين، في حين أن رفض
الطاعة يحرِّر مرتين: يلجم الأقوياء، ويحرِّر
المستضعفين. ويبقى أنه لا الانتحار ولا
الحرب يحلُّ مشكلة. ولو خَسَفَ الله الأرض
بإسرائيل وأمريكا معًا فلن تزول مشاكل
المسلمين، لأنها داخلية بحتة. ولن تُحَلَّ
مشاكل المسلمين على يد من يُحسِن القتل ولا
يُحسِن الحياة. يتحدث نورمان فِنْكلشتاين،
عالم السياسة الأمريكي والناقد اليهودي،
بمرارة عن أمِّه التي نَجَتْ من محارق
النازية، فيقول إنها كانت تتمنى من كلِّ
قلبها أن لا يُبقي الروسُ والحلفاء حجرًا على
حجر في ألمانيا، وأن يقتلوا كلَّ ألماني،
ويدمروا كلَّ شيء ألماني: «إنها كانت تتمنى
لهم الموت في كلِّ ثانية من اليوم، لأنها
واجهت الموت على يدهم في كلِّ لحظة من اليوم». *** *** ***
|
|
|