|
الفلسفة العربية مازالت في
الطور السلبي فكره عقلاني. والعقل،
برأيه، أقوى قوة سالبة في العالم. وبهذا
المعنى يتحدث عن السلب، أي عن العقل
بتجلِّياته. فالسلب عنده ليس فوضى، بل نظام
عقلاني يقوم على تفكيك المعطى والقائم بشكل
تدريجي من أجل التغيير. إنه المفكر د. يوسف
سلامة، الأستاذ في جامعة دمشق، قسم الفلسفة. البعث
التقتْه، وكان الحوار الآتي: *** يقال إن جوهر
الفلسفة قائم في مقدرتها على وعي العصر وعيًا
عقليًّا. كيف ترى واقع الفلسفة العربية في
المرحلة الراهنة والدور الملقى على عاتق
الفيلسوف العربي؟ علينا
التأكيد، أولاً، بأن هناك نوعًا من التفكير الفلسفي العربي أو النشاط
الفلسفي العربي. ولا ينحصر كلُّ الإنتاج
العربي في ميدان الفلسفة في مجال النقل، سواء
الترجمة المباشرة أو غير المباشرة، بل هناك
مجموعة – وإن كانت قليلة – من المشتغلين في
الفلسفة ينحون منحًى فلسفيًّا خالصًا،
ويعبِّرون في نشاطهم هذا عن وجهات نظر شخصية
تمامًا – وإن كان هذا لا يعني أنها منقطعة
الصلة بالفلسفة. فكلُّ الفلاسفة يأخذون من
تاريخ الفلسفة، بصورة أو بأخرى. من هنا فإن
المشكلة الأساسية للفلسفة العربية الراهنة
أنها مازالت في الطور السلبي، أي الدور
النقدي والهَدْمي، أكثر من كونها تقوم بدور
إيجابي، أي دور يقوم فيه المفكر العربي بوضع
وصياغة نظريات وتأملات جديدة عن الإنسان
والعالم. مازال الفيلسوف العربي مضطرًا إلى
محاربة التركات السياسية والاجتماعية
الناجمة عن تاريخ الأساطير المتراكمة في صور
ما تزال معاصرة وقوية جدًّا في تأثيرها. من
هنا فإن المعركة التي يخوضها المتفلسفُ
العربي هي أقرب ما تكون إلى معركة تجهيز
المكان وتهيئة الساحة من أجل أن يخرج لنا جيلٌ
عربي جديد يقوم على صياغة نظرية فلسفية، وعلى
المساهمة في التراث الفلسفي العالمي. من هنا، إذا
كانت الفلسفة هي التعبير عن العصر تعبيرًا
عقليًّا، فإن الفلسفة العربية ما تزال تعبِّر
عن عصرها في صورة سلبية، أي نقدية، تتوخى من
ورائها الكشف عن المتناقضات القائمة التي
تتحكم في الواقع، وبخاصة المتناقضات
السياسية. ويوم يستطيع الفيلسوف العربي، أو
المتفلسف العربي، أن يستريح من الصراع مع هذه
النُظُم السياسية التي تمنعه من التفكير
والتعبير الحرِّ عن نفسه، شأنه في ذلك شأن
كلِّ المواطنين، يومئذٍ تصبح الفلسفة
العربية قادرة على مزيد من الإنتاج والإبداع
بصورة إيجابية. لذلك فإن المهمة العاجلة
للفلسفة العربية، في أيامنا هذه، هي الدخول
في هذا النزاع مع التَرِكات والمخلفات
القديمة، التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من روح
المواطن العربي. تقول في حوار
أُجْرِيَ معك: هناك تناقض لا شكَّ فيه بين
السياسي والفيلسوف. من أين تنبع العلاقة
المتوترة بينهما في رأيك؟ لا تناقُض بين
السياسي والفيلسوف. هناك تناقض بين الفيلسوف
العربي وبين السياسي العربي، الذي هو ليس
سياسيًّا بالمعنى الحقيقي، وإنما هو أقرب إلى
أن يكون رجلاً يمارس السياسة. فالسياسة –
تعريفًا – هي صياغة الممكن من وجهة نظر
اجتماعية، على أن يساهم المجتمع كلُّه في
اكتشاف هذا الممكن وصياغته. وعندما يضطلع
السياسي بممارسة السياسة انطلاقًا من هذا
المنظور، يكون سياسيًّا حقيقيًّا؛ وبالتالي،
لا يكون السياسي مناقضًا للفيلسوف عندما
يمارس السياسة بمعناها العقلاني الذي ينطلق
من الجماعة، وينتهي إليها. وعلى ذلك،
فالتناقض ليس بين السياسي والفيلسوف، إنما
بين الفيلسوف العربي والسياسي العربي:
فالفيلسوف العربي يريد من السياسي أن يكون
عقلانيًّا وديموقراطيًّا وإنسانيًّا؛ في حين
أن السياسي العربي يريد من الفيلسوف أن يكون
بوقًا له – ومن هنا يكون التناقض بينهما. من
هنا نعود لنسأل: مادامت الفلسفة هي خلاصة
الفكر البشري الساعي وراء الكمال، ما أسباب
إخفاق الفلسفة العربية في تحقيق ولو جزء من
هذا؟ برأيي لم تخفق
الفلسفة العربية عبر التاريخ؛ وهي قامت
بدورها وناهضت الظلم واللاعدالة، وصاغت
نظرية عقلانية في العالم. ولكن، للأسف، فقدت
الحضارة العربية قوَّتها؛ وبالتالي، فإن
المفكرين اليوم إما أنهم ينحازون إلى الماضي
ويريدون إحياء التراث، وإما أنهم يأخذون عن
الغرب فيأتي ما يأخذونه تردادًا للغرب. برأيي، يجب أن
يكون هناك حلٌّ ثالث لتقوم لنا فلسفة – وهو
تأمل الواقع نفسه، وليس تأمل الآخر أو تأمل
الماضي، بل تأمل الذات في واقعيَّتها الراهنة.
من هنا، إذا كانت تأملاتُنا جادة فعندئذٍ
سنستطيع أن نخطو خطوات صغيرة – لكنها وطيدة
وأكيدة – في الاتجاه المطلوب. ولكن نحن –
كمفكرين عرب – لم نمتلك بعد الظروف المناسبة
أو الأدوات المطلوبة لذلك. فالفيلسوف لا يكون
فيلسوفًا فقط لأنه يرغب في أن يكون كذلك،
وإنما لا بدَّ من أن ينضج الواقع وينضج
الفيلسوف نفسه. وقديمًا قال أرسطو والكندي:
"الفلسفة تتطلب شروطًا لمن يعمل فيها، وهي:
عشق لاذع، وذهن بارع، وصبر مقيم، وخلو البال
عن مصالح المعاش." ونحن لا نريد كلَّ هذا
منهم؛ لا نريد أن يحيا الفيلسوف متصوفًا
فقيرًا، ولا أن يحيا مبدِّدًا مسرفًا. لكن هذا
غير متوفر بكلِّ أشكاله، ولا يؤمَل له أن
يتوفر حتى وقت قريب. شبَّهتَ،
في وقت من الأوقات، الفلسفة بالشعر. كيف ذلك؟ صحيح أن
الفلسفة نشاط عقلاني، لكنها تعبِّر عن نبض
الوجود الواقعي في أعمق نقاطه. ومهمة
الفيلسوف أن يصل إليها من خلال تصوراته
العقلية وإعادة إنتاج الواقع. والشاعر
بالمثل، في رأيي: فهو، عندما يتغزَّل بامرأة
جميلة، فهو في الحقيقة لا يتغزَّل بشخصية
محددة، وإنما يستطيل بذهنه إلى ما وراء كلِّ
ما هو جزئي، من أجل أن يستخلص هذا الكلِّي ذا
الطبيعة الفردية الخاصة. إذًا الشاعر
والفيلسوف يمتحان من أبعد نقطة في الوجود. من
هنا فالشعر ما هو إلا صورة أخرى للفلسفة، أو
إحدى صور الفلسفة التي تحاول أن تعبِّر عن
نفسها تعبيرًا فنيًّا. تصف في
أحاديثك الهوية العربية بأنها تقليدية
وقديمة وضعيفة. فما السبيل إلى هوية جديدة
وفكر عربي جديد؟ السبيل إلى
هوية جديدة أن ننطلق من الأنا والواقع، لا من
الغرب، ولا من الماضي. فكلُّ انطلاقة من
الماضي ستعيد إنتاج الماضي بصورة
كاريكاتورية؛ وكلُّ انطلاقة من الغرب ستأتي
بنسخة لا تمثِّلنا، ولا نستطيع أن نطبِّقها.
إذًا المطلوب العودة إلى الواقع والإحساس
بنبضه. من هنا إذا كنا
نريد أن نحيا حياة جديدة، فيها قدر من الإبداع
والحضارة، فلا بدَّ أن نستجيب للتحدِّيات
الجديدة. وهذا معناه أن ننتج فكرًا جديدًا،
وأن نفتح آفاقًا لم تكن معروفة. فلا يمكن
لتحدِّيات القرن الواحد والعشرين أن نردَّ
عليها بروح القرن الهجري الأول! وبالتالي،
فإن الهجمة الأمريكية الآن، مثلاً، التي
تُوجَّه ضدَّ العرب والمسلمين، لا يمكن أن
نجيب عليها إلا بأساليب حديثة جدًّا، سواء من
الناحية الثقافية أو الفكرية أو التقنية.
فالبقاء في مستوى ردود الأفعال القديمة،
والتغنِّي بالماضي، لن يقدِّم لنا شيئًا. يجب
أن نمتلك الشجاعة لنفتح آفاقًا جديدة في
المستقبل ليصبح الماضي مجرَّد لحظة نستند
إليها بقدر ما يقتضيه الحاضر، لا بقدر ما يفرض
الماضي علينا ذاته. تنظر إلى
الحضارة الغربية دائمًا باعتبارها لحظة
قابلة للسلب والتجاوز والتخطِّي. فهل مازلت
عند قولك هذا؟ برأيي أن كلَّ
حضارة قابلة للسلب والتجاوز والتخطِّي؛ وليس
هناك شيء أبدي. والحضارة الغربية، في
حقيقتها، ما هي إلا لحظة من لحظات التطور
الإنساني؛ وبالتالي، لا أرى أن هناك مبررًا
لتصوير الحضارة الغربية بأنها آخر الحضارات،
وأعلى الحضارات، والحضارة النهائية، كما
يتصور بعض المفكرين الغربيين، بل هي إحدى
الحضارات التي سيتم تخطِّيها يومًا. ولكن هذا
لن يتم من تلقاء نفسه، بل من خلال عنصرين:
الأول خارجي، أي أن تُواجَه بضغوط وتحديات
خارجية؛ والعنصر الثاني تناقضاتها الداخلية
التي يكون فعلُها أسرع كلما كان التحدي
الوارد من الخارج أقوى ومباشرًا. والحضارة
الغربية حاليًّا لا تتعرَّض لضغوط جدية من
الخارج، وإنما تتعرض لتناقضات داخلية، أمكن
أن تجد حلولاً وتسكينًا لها، مما سمح لها
بالبقاء لفترة أطول. ألا
تمثل أحداث 11 أيلول تحديًا خارجيًّا؟ أحداث 11 أيلول
ليست أحداثًا ذات قيمة لتهدِّد الحضارة
الغربية؛ بل هي أسهمت في أن تكتسب مزيدًا من
القوة لتنقلها من طور التجاوز إلى طور الهجوم
على الآخرين. فهي أعطت كلَّ المبررات للساسة
الغربيين، ولأمريكا بالذات، بأن تهاجم كلَّ
شيء تحت ذريعة الإرهاب. من هنا أعتقد أن هذا
النوع من العمل والفعل عاد ويعود وسيعود
بأفدح الضرر على العرب والمسلمين. وقد
ضخَّمتْ أجهزة الإعلام الغربية هذا الحدث،
وجعلتْه معبِّرًا عن العرب والمسلمين؛ فكان
ذلك أكبر ضربة تعرَّضتْ لها القضية
الفلسطينية والمصالح العربية. اتهم
كثيرون كتابك الإسلام والتفكير الطوباوي
بأنه نصُّ فلسفي شديد الصعوبة. ما ردُّك؟ ربما لأن
الكتاب نصٌّ فلسفي أصيل، كُتِبَ ليعبِّر عن
فكرة فلسفية محددة؛ وهو أيضًا نصٌّ يراعي
معنى الفلسفة، وينضبط بمعناها. وبرأيي، إذا
كانت الكتابة الفلسفية جادة، يجب أن تكون
بهذا المستوى – وإلا فإنها قد لا تكون فلسفة. *** *** *** أجرت
اللقاء: أمينة عباس عن
البعث تنضيد:
نبيل سلامة
|
|
|