فتاوى تزرع الموت

وأحياء يلتفُّون بالأكفان

 

رجاء بن سلامة

 

المفتي الرسمي الذي لم يتردَّد، ولم تَطْرَفْ له عين، عندما أفتى بتحريم نقل الأعضاء البشرية للمرضى يجب أن يتحمَّل تبعات العمل بفتواه في بلاده أو في البلاد الإسلامية الأخرى. معنى ذلك أنَّنا يجب أن نحمِّله دماءَ كلِّ المرضى الذين كان بالإمكان إسعافُهم بنقل كُلْية إليهم أو قلب أو غير ذلك – لولا هذه الفتوى التي يمكن أن توصف لذلك بأنها إجرامية.

ويجب أن نضع في اعتبارنا أن مِنْ هؤلاء المرضى مَنْ هم أطفال أو شبَّان لم ينعموا بعد بطول الحياة التي لا شكَّ أن الشيخ المفتي قد نَعُمَ بها. ويجب أن نتذكَّر أن هناك قوانين راقية تبيح للحيِّ أن يقرِّر التبرُّع بأعضائه عند موته لإنقاذ حياة الأحياء الذين سيكونون في حاجة إليها. القوانين الراقية تحثُّ على الرَّحمة والكرم والتخلُّص من الأنانية والنرجسية التي تصوِّر جسد الإنسان حصنًا صلبًا لا ثلمة فيه.

استند المفتي في فتواه إلى أن "جسد الإنسان هبة من الله، ولا يجوز لأيِّ كائن من كان التصرُّف فيه، سواء بالنقل منه أو إليه". فلنسلِّمْ بما سلَّم به، ولنسأله: طبقًا لهذه المقدِّمات، وطبقًا للمنطق الفقهيِّ الذي ينبني على القياس وإخضاع الخاصِّ إلى العام، وإذا كان لا يجوز نقل الأعضاء ولا يجوز التصرُّف في الأجساد، فلماذا لا يحرِّم أيضًا نقل الدم والتبرُّع به؟! ولماذا لا يحرِّم كلَّ عملية جراحية، باعتبارها "تصرُّفا" في الأجساد؟!

واستنادًا إلى هذه المقدِّمات ذاتها، لماذا لم يُفْتِ الشيخُ بتحريم خِتان البنات – وهو اعتداء على الحرمة الجسدية للأطفال تدينه المواثيق الدولية وتؤكِّد كلُّ الدراسات الطبِّية والنفسية والاجتماعية أنه يؤدي إلى معاناة دائمة لدى ضحاياه؟ لماذا لا يستند إلى عدم وجود نصٍّ قرآنيٍّ يأمر بهذه العادة البدائية لمساعدة ناشطي حقوق الإنسان والمهتمِّين بالصحة على مقاومة آفات هذا التشويه الوحشيِّ للأجساد الأنثوية؟

مشايخُنا لا يحرِّمون ختان البنات، بل يحرِّمون نقل الأعضاء، ويبيحون قتل الزوج زوجتَه إذا اكتشف أن لها علاقة مع رجل آخر، ولا يقولون بحقِّ الإنسان في اختيار معتقده وفي تغييره، بل يقولون بـ"قتل المرتد"، ولا يدين الكثيرُ منهم العمليات الانتحارية الإرهابية – لسبب بسيط هو أنهم لا يدافعون عن الحياة، بل يوزِّعون الأكفان ويدعون إلى إماتة الأجساد. أصبحنا نعرف سلالتهم: إنهم متحدِّرون من سلالة قتلة الحلاج والسُّهروردي ومحرقي كتب ابن رشد ومكفِّري الفلاسفة والأدباء... إلا أنهم أشدُّ عنفًا وقسوة لأنهم يسدُّون أبواب الحرية في عصرٍ انفتحتْ فيه كلُّ الأبواب؛ وهم أكثر عنفًا وقسوة لأنهم أكثر اعتدادًا بأنفسهم من شيوخ الأمس: شيوخ الأمس كانوا يقولون: "والله أعلم"؛ أما شيوخ اليوم فَهُم آلات إفتاء في كلِّ شيء!

لا يوجد بشرٌ له حقٌّ إلهيٌّ في النُّطق بالحقِّ، وفي الكلام باسم الله والوصاية على النصوص المقدَّسة؛ ولا يوجد أيُّ بشر يمكن أن يتَّخذ ذاته الفردية مصدرًا للتشريع. سقطتْ أقنعةُ رجال الكنيسة منذ قرون، وبدا للعيان بشريًّا ما أوهموا الناس بأنه إلهيٌّ، وتبدَّدتْ أساطيرُهم وصكوك غفرانهم... واليوم تسقط أقنعة هؤلاء الشيوخ الذين ينظِّمون الجنون القَدَاسيَّ الإسلامويَّ في أبشع صوره.

ليوقف شيوخُ الإفتاء ألعابهم البهلوانية بالآيات، يستدلُّون بها كما يريدون على ما يريدون، وليلزموا بيوتَهم للعبادة – إن كانت تهمُّهم فعلاً أمورُ الدِّين والآخرة – أو ليملأوا محاريبَهم بالحثِّ على الرَّحمة والمساواة، عوضًا عن بثِّ الأحقاد وتكريس اللاَّمساواة.

وليتخفَّفْ المثقَّفون، إذن، من خشوعهم في معاملة هؤلاء الشيوخ وما اتَّخذوه من كنائس ومحاكم تفتيش ومُصادرة، وليتحلَّلوا من إغداق ألقاب "سماحة الشيخ" على من ليسوا من السَّماحة والتسامح في شيء، و"فضيلة الشيخ" لِمَنْ لا فضيلة لهم سوى التكفير والتأثيم والتفسيق، وليطالبوا الحكومات والبرلمانات العربية بتجريم التكفير وبمحاكمة المحرِّضين على القتل، مهما كان مركزُهم وأية كانت وظيفتُهم.

لا يوجد "إسلاميون معتدلون"، بل يوجد مسلمون قد تخلَّصوا من رِبْقَة الفقهاء، ونَجَوْا بأنفسهم خارج دائرة الجنون الدينيِّ المنظَّم، وأدركوا ضرورة الوعي بالتَّاريخ، ولم يروا غضاضة في المطالبة بالمساواة في الإرث والشَّهادة بين النساء والرجال، ولم يخرجوا لنا بحجَّة "النصِّ الصَّريح"، وكأنهم أوصياء على كلام الله، ولم ينسوا الرَّحمة والترحُّم على أرواح ضحايا العادات والمسلَّمات الوحشية.

أما الشيوخ ووُعَّاظ الفضائيات العربية الذين يوصَفون بالاعتدال فإنهم ليسوا "معتدلين" إلا في نغمة الصوت، أو في ارتداء اللباس الغربي، أو في مخاطبتهم الجماهير بألطف العبارات، أو في تلطيفهم بعض الأحكام. بين "شيوخ التكفير" والشيوخ "الفضائيِّين"، الموصوفين بالاعتدال، لا توجد نقلة نوعية، لأن النَّقلة النوعية هي التي تجعلهم يتخلَّوْن عن زجِّ أنفسهم في كلِّ صغيرة وكبيرة، وتجعلهم يعتبرون الدين تجربة شخصية تهمُّ الإنسان فيما بينه وبين ربِّه – وهو ما يُلغي دورهم كشيوخ يُفتون في العلاقات الزوجية وفي السياسة الداخلية والخارجية وفي الاقتصاد والطبِّ والعلوم... لا، ليس هؤلاء الإسلاميون معتدلين إلا لِمَنْ يرضى بالقليل، ويقنع بالبؤس؛ لِمَنْ له روح متسوِّل يطلب فتات خبز، ولا يطالب بحقِّه وحقِّ الجميع في الحياة الكريمة.

في مراسم توزيع الأكفان التي يضطَّلع بها المُفتون، للنِّساء أضعاف نصيب الرجال، خلافًا لما يسير عليه الفقه في أمور الأهلية والميراث! فالحجاب هو الكفن الذي يريد المُفتون أن تلتفَّ به النساء لكي يدفعن ثمن خروجهنَّ من خدورهنَّ وسجونهن. كلما رأيت رؤوس المحجَّبات التي أصبحت تملأ شوارع مدننا تذكَّرتُ الأكفان البيضاء؛ تذكَّرتُ جثث أقاربي الباردة التي انحنيتُ لتقبيلها لآخر مرة، بعد أن غُسِّلَتْ وسُتِرَتْ شعورُها ولم يبقَ منها ظاهرًا إلا الوجه والكفَّان، تمامًا كما لم يبقَ ظاهرًا من أجساد المحجَّبات المكفَّنات سوى الوجه والكفَّان!

لا يُخيفني الموت! فكلُّنا مائتون، وكلُّنا إلى تراب أو رماد... إنما تُخيفني مشاهدُ الأحياء الذين يلتفُّون بالأكفان، ويحاكون الموتى، ويطلبون الانتحار؛ ويُخيفني موزِّعو الأكفان، المتَّجرون بفقر الآخرين وبؤسهم وشعورهم بالهوان.

خرجنا من خدورنا، ولا نريد العودة إليها، ولا نريد العودة إلى ما يرمز إليها: النقاب والبرقع والحجاب والخمار وكلُّ ما يجعلنا مجرَّد "حرمات" و"عورات" وآلات "فتنة" و"غواية"؛ ولا نريد شيوخًا ولا مُفتين، بل نريد مواطنين ومواطنات؛ ولا نريد فتاوى، بل نريد تشريعات مدنية متطوِّرة تضمن المساواة والكرامة للجميع؛ ولا نريد علماء ينصحون السلاطين، ولا نريد حتى علماء يُفتون بعدم اتِّباع السَّلاطين، بل نريد مؤسَّسات برلمانية وأحزابًا سياسية حقيقية وجمعيات غير حكومية مستقلة؛ نريد مجتمعات مدنية تمثِّل السُّلطة التي تحدُّ من السُّلطة، السُّلطة التي تحدُّ من المتعة الجنونية بالسُّلطة.

نريد كلَّ هذا لكي نكفَّ عن إذلال أنفسنا بأنفسنا واستعمار أنفسنا بأنفسنا.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود