|
الإسلام والعنف
الإسلام،
من حيث هو ثقافة أو حضارة، في العروبة ومنها؛
وبعض العروبة منه أو فيه – وليس على أحدٍ حرجٌ
من ذلك. وهكذا تجيء عبارة "العرب والمسلمون"
على الأقلام أو في وسائل الإعلام معبِّرةً عن
واقع حي. فلا مهرب من أن يفكِّر المسيحيون
العرب في شأن الإسلام؛ فإنهم معنيُّون على
مستوى الحياة وعلى مستوى النوعية. وإذا أضفنا
إلى ذلك أن عقلاء المسلمين اليوم يتكلَّمون
على حوار الحضارات فالأوْلى بالحوار العربُ
الذين يعيشون في البلدان التي يسودُها
الإسلام – هذا إذا لم نقلْ إن المسيحيين
المنشغلين في الآداب العربية يعرفون عن
الإسلام أكثر مما يعرفون عن المسيحية. هذه
الأسطر لن يتقبَّلها أحدٌ ما لم يعتبرنا من
"أهل البيت". من هذه الإطلالة أسمح
لنفسي أن أرى في العالم الإسلامي هزَّة كبيرة
قد تكون بداءة لتحرك فكري كبير فيه تجعلني
أحسُّ أننا على طرق الرجاء. ولست أريد بذلك
حركة تجديد، حسب المصطلح الإسلامي المعروف؛
وليست هي فقط فتْحًا لباب الاجتهاد الذي يدعو
إليه مسلمون كُثُر. ولكنني أتوقع تغييرًا في
الرؤية إلى التراث، ولا سيما في ما يتعلق
بموضوع الدولة أو علاقة الدين والدنيا. فإذا
دارَ في المملكة العربية السعودية حديثٌ عن
المشاركة وحرية التعبير، وذلك بدءًا
بالأوساط الرسمية، لا نكون أمام مجرد سعي
لتبديل سياسة، بل أمام إعادة نظر في الحركة
الفقهية التي تستند إليها الأسرةُ المالكة.
ولقد اعترف المراقبون العرب أن العنف الذي
كانت له أسباب كثيرة إنما هو ثمرة التكفير
لبعض من المسلمين، وبعامة نتيجة فكر ديني
يحتاج إلى انفتاح كبير، ذلك لأن السماحة
وحرية الرأي الآخر فيهما ما يعزِّز الإسلام
نفسه، الذي عَرَفَ في أزمنة الحكم العربي
القديم أن يكون بعيدًا عن الغلوِّ واستبداد
السلاطين. من باب الفلسفة
السياسية، أو من باب علم الكلام، تبرز قضية
العلاقة بين الإسلام والعنف. جاء في لسان
العرب أن السِّلم هو الإسلام. لم أجد هذا
المعنى صريحًا إلا في سورة البقرة، في الآية
208: "يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السِّلم
كافة." وأما في لغة العرب بعامة فالسِّلم هو
السلام والسلامة، بمعنى التحية وانتفاء
الحرب. وعلى وجود هذا الترادف فليس في هذا
تخصيصٌ يمنع الحرب والغزوات وفتح الله للبلاد
ونصرةً للمسلمين ببدر وغير بدر. فمسألة
السلاح واستعماله مسألة واردة في بحث العنف،
على ما يُسمَّى في المصطلح الحديث. ترتفع أصوات مفكرين
مسلمين، هنا وفي المغرب، يدعون إلى إلغاء
مقولة "دار الحرب" باعتبارها تقابل "دار
الإسلام". ذلك أنها تعني أن المسلم
مستنفَر، آجلاً أم عاجلاً، لمحاربة الآخرين.
هذا لا يمكن أن يعني إلا تعطيل أحكام الجهاد
والاندراج في البلد الذي يتوطَّنه المسلم؛
والسلطة فيه – أية كانت السلطة – تقرِّر
السِّلم أو الحرب. في السياق نفسه آيات السيف،
كما نعرفها في سورة التوبة وعند معظم
المفسِّرين أنها نُسِخَتْ: "لا إكراه في
الدين." وفي هذا السياق أيضًا حُكْمُ قتل
المرتد. هل هذا باقٍ إلى
الأبد وتفعيله إلى الأبد، أم يُسكَتُ عنه في
حين ويُنبَش في حين؟ إذا أُريدَ تفعيلُ آيات
السيف يعني هذا أن "المشركين" في معظم
بلدان آسيا، وبعض من أفريقيا، لهم أن يعرفوا
أنهم في خطر. ويكون التفريق بين الإسلام
وحركات الإحياء الإسلامي، كما يعبِّر عنها
أهل الغرب Islam وIslamisme، لا أساس له في
النصوص التأسيسية. إذا كان هناك توثُّب دائم
للقتال تكون عبارةُ أن الإسلام دين السلام في
حاجة إلى مزيد من التوضيح. وإذا كان بعض
الأئمة يوسعون مجال "الشِّرْك" (وهذا
تجده كثيرًا في وسائل الإعلام المرئي
والمسموع) يكون عددٌ رهيب من الناس مهدَّدين. هل من يجرؤ ليقول إن
كلَّ هذا معطَّل كليًّا، وإن الغزوات الأولى
وحروب الفتح قد ولَّتْ نهائيًّا، وتبقى بين
المسلمين وغيرهم لغة تَخاطُب. هل يقف مسلم
ليقول إن كلَّ خطاب بشري لا يُفهَم إلا
بالاستناد إلى التاريخ، وإن لا شيء في العالم
يبرِّر الحرب الدينية، ذلك لأن الدين قناعة
قلب. أنت تسمع، من حين إلى آخر، المسلمين
يتكلَّمون على حقوق الإنسان. أبسط حقٍّ
للإنسان أن يشهد بما يريد، وأن يتبع ديانة أو
لا يتبع ديانة أو يعلن تغيير قناعاته. "فمن
شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" (سورة الكهف،
الآية 29). إن حرية الفكر تشمل كلَّ شيء – أو لا
تشمل شيئًا. هل كان من قبيل
الصدفة أن أُعجِبَ معظمُ العرب، بمن فيهم
مسيحيون، بأسامة بن لادن في الحادي عشر من
أيلول، وأن هذا الشعور مستمر في بعض البلدان؟
ماذا يفسِّر استمرارَ بعضًا من هذا الإعجاب
حتى اليوم؟ ألا يدغدغ الكثيرين أن الشيخ
أسامة ورفيقه أيمن الظواهري يتحدثان بلا
انقطاع عن "الصليبيين واليهود والمنافقين"؟
هل الظواهري، الذي عاش معظم عمره في مصر،
مقتنع أن الأقباط من "الصليبيين"، أو
أنهم أقرب إلى الأمريكان من بعض المسلمين
النافذين في القاهرة؟ وهل هو مقتنع، مع صديقه
الشيخ أسامة، أنهما قادران على القضاء على
اليهود بهذه السهولة، وكذلك على الصليبيين من
أهل الغرب، بترسانتهم النووية وغير النووية؟ إنه لحَسَنٌ جدًّا أن
تكون تفجيرات الرياض والمغرب أقامت مسافة بين
العالم الإسلامي والإرهاب؛ والأحسن أن
السلطات السعودية أخذت تعي أن التعليم الديني
عندها، كما مورِِسَ حتى الآن، غالى كثيرًا في
التكفير، وأنه منبتٌ محتمل لاستئناف هذا
الإرهاب في أية بقعة من المعمور. هذا يطرح
مسألة وجود السياسة في الإسلام، باعتباره
دينًا ودولة في مصطلح، أو دينًا ودنيا في
مصطلح. وهذا يطرح مسألة تجمُّع المسلمين في
أمة واحدة بالمعنى السياسي للجملة، بحيث إن
الأمر السياسي يأتي بحثًا علميًّا والتزامًا
لأمة واحدة. كذلك هذا يطرح مشكلة الإقرار
بالمواطَنة؛ وهذه يقول بها غير عالم، مثل
محمد سليم العوا وطارق البشري في مصر. وفي هذا
تصديق على ما قام به مصطفى كمال بإلغاء
الخلافة في السنة الـ1924، ويؤكد، تاليًا، أن
المسلمين أبناء تاريخهم الحديث، ويتأقلمون
بكلِّ دولة يعيشون فيها، وليس لهم مطمع أن
يهبُّوا هبَّة واحدة إلا للعدل الذي يحميهم
ويحمي الناس جميعًا. نظريًّا ليس من عدل
للمسلمين وعدل آخر للآخرين؛ والمهمة واحدة
لتثبيت حقوق البشر جميعًا، كائنًا ما كان
مذهبُهم. هل تتصورون أحدًا في
العالم يكره تقدُّم المسلمين في معارج العلم
والتكنولوجيا؟ وحدهم الصهاينة يكرهون
المسلمين؛ ولكني لم أعثر على موقف كهذا في
أوروبا. أجل، الكثيرون يطمعون ببلاد المسلمين
– وقد أكَّدوا هذا – ونحن مع المسلمين ضدَّ
الطامعين. المسألة مطروحة على مستوى النفط
وغير النفط، وتاليًا، على مستوى تشكيل حكومات
ذليلة. ونحن مع انتفاضة المسلمين في كلِّ
مكان، من أجل الحفاظ على حرياتهم ورقيِّهم
العمراني والعلمي؛ فإن هذا يؤمِّن الحرية لمن
عاش معهم بالقضاء الكامل والنهائي على
الذمِّية وتداعياتها وذكرها. هل من إمكان لإسلام
معتدل؟ هذا مستحيل إذا كان يُخفي تسلُّطًا
على العالم ويُرجِئ التنفيذ. أنا أرجو ظهور
إسلام صاحٍ، منخرط بالعقل النقدي وبالذهنية
التاريخية التي تقرأ كلَّ نصٍّ في إطاره
التاريخي. أن تؤمن برسالة محمد ونبوءته، وبما
يستتبع ذلك من صلاة وصوم وزكاة والحج إلى
البيت بعد أداء الشهادتين، فهذا لك؛ ولكَ فيه
حوارٌ راقٍ مع الأديان والحضارات الأخرى. أن
تندرج في البلد الذي أنت فيه، ويكون تاريخُه
تاريخَك، فهذا ما يجعل إسلامك دين سلام. ما كانت هذه السطور
إلا لحلمي بعالَم إسلامي عظيم، راقٍ جدًّا في
بشريَّته، وطَموح الإنجازات، وملتهب بحبه
لله، ومنطقي في ما يقول، ومتعاون مع كلِّ قوى
الخير في العالم، ومتبنٍّ للعقل المستنير
بالإيمان، ولا يكون الإيمان فيه بديل العقل؛
عالَمٍ همُّه الطهارة وخدمته للإنسانية
كلِّها، مؤمن بأن العزَّة هي للناس جميعًا
إذا باتوا على خُلُق كريم. أنا أشتهي عالمًا
إسلاميًّا ينبهر البشرُ جميعًا بصَلاحِه
وجلال قِيَمِه، حرًّا من عقدة الأقلَّوية،
ومنجذبًا لوجه الله مرتسمًا على كلِّ وجه
بشري، ويتحرك بمقابسة الأنوار أنَّى
وُجِدَتْ، ويَعرض نفسه بلا إكراه، لنعيش معه
في طمأنينة وحرية. *** *** *** عن
النهار، السبت 3 كانون الثاني 2004
|
|
|