|
توماس شيفلر في حديث
عن حوار الأديان: ليطوِّر متقاسمو
العيش على أرض واحدة "لاهوت المكان" أقام المعهد الألماني للأبحاث
الشرقية، بالتعاون مع مؤسَّسة Friedrich Ebert Stiftung الألمانية في لبنان،
مؤتمرًا حول حوار الثقافات والأديان،
نظَّمتْه الباحثة الألمانية د. ليسلي
ترامونتيني (من المعهد) وشارك فيه ثلاثة
محاضرين ألمان هم: فولكر بَرتِس وغونتر
تسويْفرت وتوماس شيفلر، التقوا في ورشة عمل
تحت عنوان: "لا شرقًا ولا غربًا...؟ ثلاث
دراسات في حوار". على هامش هذا المؤتمر، التقينا توماس
شيفلر في حديث جادٍّ وعلمي، اتَّسَمَ بشمولية
الرؤية ووعي تفاصيل التركيبة الاجتماعية
والطائفية والسياسية اللبنانية. يراقب شيفلر
في موضوعية، ولا يتأثر بإيديولوجيات فئة ضد
فئة، داعيًا إلى المساواة والتسامح
والتعددية الطائفية والتعايش ضمن حرية
الرأي، انطلاقًا من حوار بنَّاء وصريح.
شيفلر أستاذ باحث في قسم العلوم
السياسية في جامعة برلين (الجامعة الحرة).
وكان أيضًا أستاذًا زائرًا مدة سنة في جامعة
نوتردام في إنديانا (الولايات المتحدة)، قسم
معهد كروك للسلام الدولي. عمل بين العامين 1996
و1999 في المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في
بيروت، وله العديد من الأبحاث السياسية
والسوسيولوجية منها: النزاعات الإثنية–الدينية
والاندماج الاجتماعي في الشرق الأوسط والشرق
الأدنى، الحزب الاشتراكي الديموقراطي
الألماني والحرب الجزائرية 1954-1962، الإثنية
والعنف، فريتس شتيبات، أو الإسلام كشريك،
بعلبك: صور وآثار (بالاشتراك مع هيلِن
صادر وأنغليكا نويفرت)؛ ويصدر له قريبًا
كتابه الدين بين العنف والمصالحة. صباح زوين *** عنوان سلسلة
المحاضرات التي شاركتَ فيها وسائرَ الباحثين مستوحى من بيت
مشهور لروديارد كبلنغ "الشرق شرقٌ والغرب
غربٌ ولن يلتقيا"، في حين ركَّزتْ محاضرتُك
ومحاضراتُ الآخرين على الحوار، أي على "اللقاء"! "الحوار المسلم–المسيحي"
هو بالأحرى شعار خاطئ – ذلك أن المسيحية
والإسلام ليسا "شرقًا" ولا "غربًا"؛
إنهما عالميان: فالقرآن يقول "ربُّ
المشرقين وربُّ المغربين"؛ أما المسيح
فطلب إلى تلامذته أن يبشِّروا الأمم كافة
بتعاليمه. لكن هذه العالمية المعنية بدعم
السلام هي، في الوقت نفسه، ميزة وعبء. ولِمَ هي عبء؟ لأن تعطُّش هذين
الدينين إلى الروح والتقوى والخضوع لا يمكن
أن يكتفي بالتسويات المحلِّية. كَمْ كان
لينعم العالمُ بالسلام لو بقيت المسيحية في
الغرب والإسلام في الشرق – لكنهما لمَّا
يستطيعا! أفهم من ذلك
أن الأديان التوحيدية تضع البشرية حيال مأزق
ما. إن نشر حقيقة الإله
الواحد للبشرية جمعاء هو من ركائز التوحيد؛
وغير ممكن أن تحُول هذه الديانات دون توسيع
حدودها لمواصلة نشر رسالتها. ماذا يعني ذلك،
إذن، بالنسبة إلى إمكان التعايش السلمي بين
المسيحية والإسلام؟ صحيح أن مطالبات الأديان
التوحيدية في العالم استُعمِلَتْ مرارًا
وسيلةً لتغذية التوسع العدواني، لكن هذه
الأديان طوَّرتْ، من ناحية أخرى، فكرة "السلام
العالمي" لدى المؤمنين، بغضِّ النظر عن
انتماءاتهم الإقليمية أو الوطنية. في أيِّ حال، لا ننسى
أن فكرة إله واحد عالمي كانت أساسية لدعم فكرة
جنس بشري واحد، حيث كان غير المؤمنين
يُعتبَرون مخلوقاتِ الإله الواحد وأدواتِه.
فلو اعتبرنا نَزْعَ صفة البشرية عن العدوِّ
طريقة لتسويغ إشعال حربٍ لا تعرف الرحمة فإني
أعتقد أن فكرة بشرية واحدة عالمية ساهمتْ، في
المقابل، في إضفاء صفة البشرية على النزاعات
بين البشر. لا يستطيع
الإله العالمي، إذن، توحيد البشر؟ لو أردنا كلامًا
دقيقًا، ليس التركيب الإلهي للدين التوحيدي
ما يولِّد الحرب، بل التركيب البشري. الدين،
في معناه الأوسع، هو حقل الأفعال الاجتماعية،
حقل الأفكار والرموز التي تربط السلوك البشري
بالقوى العليا. التوحيد الديني لا يتعلق فقط
بالله، بل وبعلاقة الإنسان بالله. الله واحد...
لكن الإنسان تتجاذبه الاختلافات والتناقضات
والنزاعات. المشاكل تبرز حين تُستخدَم
عالميةُ التوحيد كتحدٍّ لخصوصيات تلك
التعددية البشرية. التعددية، زمانًا
ومكانًا، جزء لا يتجزأ من الطبيعة البشرية.
والمسيحية والإسلام معًا يعترفان بهذه
التعددية كجزء من المشيئة الإلهية. يردُّنا ذلك
إلى ما وَرَدَ في محاضرتك. صحيح. إننا خليقة
الإله الواحد، لكننا أبناء نساء عديدات! في
المسيحية تتأكد تعددية البشرية لاهوتيًّا من
خلال أعجوبة العنصرة، حين تمتَّع تلاميذ
المسيح فجأة بقدرة النطق بلغات متعددة بعد
حلول الروح القدس عليهم، مما جعل شعوب الأمم
تسمع، كلُّ شعب على حدة، لغتَه الأم من أفواه
التلاميذ. أما في الآية الأولى من سورة النساء
فإن القرآن يطلب من المؤمنين: "واتقوا الله
الذي تَساءلون به والأرحام"؛ ومعنى ذلك أن
على الإنسان أن يخشى الله (الواحد) ويحترمه،
ويخشى كذلك الأرحام (العديدة) ويحترمها، أي
يحترم الترابط القَبَلي والعائلي–الدموي. لكن كيف
يتحوَّل الدين بعد ذلك إلى سلطة اجتماعية
وسياسية؟ يتحوَّل الدين إلى
عنصر خاص في سلطة الإنسان السياسية ما إن
تُستعمَل الروابط "العمودية" بين البشر
والله لخلق روابط "أفقية" بين البشر. حين
تُعتبَر الروابط "العمودية" بالقوة
العليا مصدر نجاح وخلاص تغدو أحد أقوى
الدوافع لجمع الناس في الطقوس نفسها والأمكنة
عينها، بحيث يتبعون الروزنامة ذاتها،
ويأكلون معًا، ويتزوجون فيما بينهم. هذه
الطاقة الجماعية هي التي تجعل الدين عنصرًا
أساسيًّا في علاقات القوى وفي اجتذاب
السياسيين – حتى الأكثر عقلانية وبُعدًا عن
الإيمان. كيف ترى إلى
هذا الأمر اليوم مع التواصل الزماني والمكاني
الذي خلقتْه وسائل الإعلام والاتصال؟ الدين، في مفهومه
المبني على إيجاد الجماعة وتمتينها، محصور
ضمن الحدود المكانية للتواصل البشري. عند هذه
النقطة يسعنا التمييز بين "المكان
المحلِّي"، حيث يتواصل الناس عادة وجهًا
لوجه، ويعرفون بعضهم البعض الآخر من خلال
تجربة شخصية، وبين "المكان الأوسع"،
كالمقاطعات والمناطق والدول
والإمبراطوريات، أي المعمورة بأسرها، حيث
يتواصل الناس من خلال قنوات وسيطة، كالخبر
المتداوَل والإشاعة والمرسال والمبعوث
والحاكم والجريدة والكتاب والتلفزيون إلخ.
إذن، على مرِّ الزمان، وخلافًا لما كان
سابقًا، انقلبتْ الأمور رأسًا على عقب؛
والدائرة المحلِّية الآن باتت في كلِّ مكان،
ويحدِّد مَعالمَها نطاقُها الاجتماعي
والسياسي الأوسع، سواء كان وطنيًّا أو
إقليميًّا أو عالميًّا. ماذا يعني ذلك
بالنسبة إلى إمكان الحوار بين الأديان؟ إذا كنَّا نعني بحوار
الأديان شكلاً من أشكال التفاعل اللاعنفي بين
مختلف المؤمنين–المنتسبين فإن إمكانات
الحوار ونماذجه تغدو لانهائية – على الأقل
نظريًّا. وفي هذا المضمار يسعنا تمييز ثلاثة
نماذج من الفاعلين: السكَّان المحليون؛
الحكَّام؛ المتخصِّصون في الدين، من كهنة
وأنبياء وباحثين دينيين. لن أدخل هنا في
التفاصيل التاريخية؛ لكني أقول إن استعداد
تقبُّل آلهة آخرين وطقوس أخرى، في الشرق
الأوسط كما في أوروبا، كان كبيرًا – على
الصعيد المحلِّي، كما على صعيد الحكم، وإنْ
في درجة أقل. على الصعيد المحلِّي: المشاركة
بين أبناء الأديان المختلفة في الطقوس
والصلاة والتضرع إلى قدِّيسي الدين الآخر –
وهو أمر متجذِّر في تقاليد الشرق الأوسط. أما
الحكَّام فكانوا يغضُّون النظر كذلك عن
التنوع الديني في بلدانهم، مادام المواطنون
يدفعون الضرائب ولا يتمردون ولا يتآمرون على
الحكم. فالأسباب التي جعلتْ الأباطرة الرومان
يعتنقون المسيحية غير مختلفة جوهريًّا ربما
عن الأسباب التي دفعتْ ملك فرنسا هنري الرابع
إلى التحوُّل من البروتستانتية إلى
الكاثوليكية، أو أمراء لبنان الشهابيين
الذين تحوَّلوا من سُنَّة الإسلام إلى
الكنيسة المارونية. لعلك تبغي
القول إن أكثر الناس تعصُّبًا دينيًّا هم
رجال الدين؟ أظْهَرَ هؤلاء،
لفترة طويلة، أشد المواقف تصلُّبًا وعدائية
حيال أية تسوية في الشؤون الدينية؛ وهم عادة
الممثلون "المهنيُّون" للدين
والمتخصِّصون في مسائله: الكهنة الذين حافظوا
على طهارة الطقوسية الخاصة بجماعتهم،
واللاهوتيون الذين يُعْنَوْن بالطهارة
الفكرية لما يتصل بمعتقداتهم؛ مما أفضى
بالطرفين إلى استبعاد كلِّ ما انحرف عن
التقاليد وإقصائه. ماذا عن موجة
الحوار بين الأديان المزدهرة جدًّا هذه
الأيام؟ لا نستطيع إنكار فضل
مشاريع الحوارات الرائجة؛ إذ مَنَحَتْ – ولا
تزال – صوتًا، مستمعًا، رؤية رمزية، تشجيعًا
معنويًّا، وأحيانًا وسيلة لتعلُّم حبِّ
السلام والانفتاح الفكري لدى الأفراد
والأقلِّيات. لكنك ذكرت في
محاضرتك أنه، رغم إيجابيات هذه المشاريع، لا
تزال ثمة عقبات كثيرة. المشكلة الأولى
تقنية: تعقيد الحوار وتشعبه عائدان ليس إلى
الخلافات اللاهوتية–التقنية المطروحة
للمناقشة فقط، إنما أيضًا إلى عدد المشاركين
في هذا الحوار. فعالم الأديان أكثر تعقيدًا
وأقل وضوحًا، لناحيتي التركيب والبناء، من
عالم الدُوَل. المشكلة الثانية متصلة بتأثير
السياسة الدولية على الحوار بين الأديان: لقد
سهَّلتْ الحربُ الباردة بين الشرق والغرب
مبادراتِ الحوار المسلم–المسيحي الذي ازدهر
في الستينات والسبعينات والثمانينات – أي
بين الشيوعية الدولية والديموقراطيات
الغربية، بين روسيا وأمريكا. فالشيوعية
الملحدة كانت العدوَّ المشترك للمسيحية كما
للإسلام؛ مما دفع الحكومات الغربية إلى إقناع
الزعماء الدينيين في كلا الدينين بإرجاء
خلافاتهم العقائدية والتركيز على المعركة ضد
الإلحاد السوفييتي. لكنْ مع انهيار الشيوعية
في أواخر الثمانينات، خسر الحوارُ الديني هذا
العدوَّ الموحِّد؛ ومع انتهاء الحرب الباردة
تقلَّصتْ تلك الحاجة الملحَّة إلى بناء إيمان
متعدِّد وعالمي ضمن تحالف يضم مختلف المؤمنين
في وجه إلحاد منظَّم، وأوجدتْ، بالتالي،
دوافع للمنافسات الدينية. هل يمكن أن
تؤدي هذه المنافسات إلى إشعال العنف؟ الفرص المتزايدة
التي تحظى بها المنظماتُ الدينية من جرَّاء
انهيار مفهوم الدولة قد تؤدي إلى المزيد من
المنافسات الدينية لدى المنتسبين كما لدى "المهتدين".
المنافسة عادة هي مبدأ السوق؛ وهي لا تفضي
بالضرورة إلى العنف، على النحو المعروف مثلاً
في المنافسة بين شركات Mercedes
وVW وBMW.
ولكن المنافسة بين مختلف المنظمات الدينية قد
تتحوَّل إلى العنف وعدم التسامح في حال
تعلَّق الموضوع بالفقر والظلم والقمع إلخ. كيف تنظر إلى
دور لبنان في مثل هذا الحوار في ظلِّ العولمة؟ إحدى المشكلات
الجديدة التي تساهم في مضاعفة التوتر بين
الأديان هي العولمة – أعني عولمة المعلومات.
فالأخبار اليوم حول صِدام الأديان في بلد ما
تنقل للتوِّ عبر التلفزيون والإذاعة
والإنترنت إلى بلدان أخرى تستطيع، بدورها،
على طريقتها وبحسب تفاعلها، تكثيف هذه
التوترات الدينية، من دون أن تكون لهذه
البلدان أية صلة جغرافية بالأخرى، أية صلة
ثقافية مثلاً. إن ميول العالمية
والعولمة راهنًا لا تُنذِر بالخير فيما يتعلق
بحوار سِلميٍّ بين الأديان في العقود المقبلة.
من المستحسن للجماعات الدينية، في بلدان
تتميَّز بإمكان تحقيق توازن سِلميٍّ على
الصعيد المحلِّي، أن تنزع صفة العولمة من
حواراتها الداخلية بغية التركيز على حلِّ
المشكلات المحلِّية وعدم ربطها كثيرًا
بالبُنى العالمية والأحداث الدولية. وثمة شرط
أساسي للقيام بذلك: تنشيط التفاهم المتبادل
بين الفرقاء المنتمين إلى أديان مختلفة،
الذين يتقاسمون العيش على أرض واحدة، لتطوير
"لاهوت المكان". قد يكون حوار
اللاعولمة في لبنان مهمة غاية في الصعوبة
لأنه البلد الأكثر عولمةً في منطقة الشرق
الأوسط، وبالتالي، أكثر البلدان تعرُّضًا
للضغوط الدولية. لكن لبنان، في الوقت ذاته،
نموذج لتجربة محلِّية فريدة، بطوائفه
الثماني عشرة المعترَف بها من الأديان
التوحيدية الثلاثة، التي تعيش معًا على مساحة
عشرة آلاف كيلومتر فقط؛ وكانت هذه المساحة
طوال قرون – ولا تزال – حدًّا، وفي الوقت
نفسه، مكانَ لقاء بين المسيحية والإسلام. من
خلال كلِّ هذه العوامل يسعنا أن نعتبر لبنان،
كما قال البابا يوحنا بولس الثاني، "الأرض
المثالية". نموذج لبنان المتسامح، المتعدد
الطوائف، كما اقترح ميشيل شيحا في العام 1951،
يجعل المشروع الصهيوني في إسرائيل باليًا،
وخارج زمانه. فشيحا يرى أن لبنان، المصوغ
ليكون وطن الأقلِّيات الطائفية المجتمعة،
رأى نفسه مضطرًا، في طبيعته، إلى تنمية
قدراته على التسامح والحرية اللذين يلائمان
جدًّا اقتصادَه المنفتح والكوسموبولي. هل يمكن لحوار
الطوائف في لبنان أن يتم في أبعاده العلمانية
أم في أبعاده الكنسية؟ أذكر شيحا مرة أخرى
هنا. فرغم ما أكَّده، لم يكن مقتنعًا تمامًا
بأن الزعماء الدينيين ملائمون لبناء نموذج
المجتمع المتعدد الطوائف. يرى شيحا أن
التركيز الأساسي، في هذا النوع من الحوار،
ينبغي أن يتم من خلال برلمان علماني. واضح أن
شيحا لم يكن يثق كثيرًا بالقدرة التمدينية
لدى "المعابد": "المعابد" (أي
الكنيسة، الجامع، الكنيس) هي، في نظره، مكان
للانزواء والانطواء والعزلة، وليست مكانًا
للتحاور مع "الآخر". في الواقع، أضعفُ
النقاط في النظام الطائفي اللبناني قبل الحرب
كانت في أن التفاعل الطائفي على صعيد نُخَب
البلد كان أكثر تطورًا من الاتصال الذي كان
قائمًا بين رجال الدين. كان هناك مجلس النواب،
وعلى المستوى الفكري–الثقافي "الندوة
اللبنانية" (1946-1974) التي جمعت النخب
العلمانية. نوع كهذا من التجمعات لم يكن
قائمًا من ناحية رجال الدين. لكن ألا تعتقد
أن خلافاتنا الطائفية، ومصالحاتنا كذلك، هي،
قبل كلِّ شيء، قرارات خارجية تتجاوز الإرادة
اللبنانية؟ "اللقاء المسلم–المسيحي
الأول" الذي عُقِدَ في بحمدون (22-27 نيسان من
العام 1954) اعتُبِرَ الخطوة الأولى في الحوار
المسلم–المسيحي. لكنْ لو أمعنَّا النظر في
مناقشات تلك الندوة للاحظنا أن المشروع لم
يلد من مباحثات لبنانية–لبنانية. لا ننفي هنا
الدور الأبرز والأكبر الذي لعبه آنذاك الشاب
غسان تويني في هذه الندوة–اللقاء. لكنْ في
رأي أحد المشاركين، د. غارلند إيفانز هوبكنز
– وهو رجل دين في الكنيسة الميثودية ونائب
رئيس جمعية "أصدقاء الشرق الأوسط
الأمريكيون" – فإن فكرة إطلاق اللقاء
المسلم–المسيحي ولدت خلال حديث له مع ملك
ليبيا في مطلع العام 1952. ثمة خطوة أخرى نحو
الحوار المسلم–المسيحي في لبنان: في 23 تشرين
الأول 1959 أوْكَلَ الرئيس فؤاد شهاب، إثر
تشاورٍ مع المطران جان مارون – إذ كان
مندوب لبنان لدى اليونسكو – إلى الراهب
الدومينيكي الفرنسي لويس جوزف لوبريه (1897-1966)
– وكان رائدًا بارزًا في مجال التطور
الكاثوليكي، نظرية
وتطبيقًا – عبر معهده IRFED،
مهمةَ إنجاز بحث علمي حول طاقة لبنان وعجزه في
المجال السوسيو–اقتصادي، بغية وضع خطة عملٍ
مفصَّلة لهذا البلد. وبين 1960 و1964 عمل فريق من IRFED
في لبنان، وانتهى إلى وضع تقرير من ثلاثة
مجلدات. وتقرير الـIRFED
كان أول دراسة علمية حول التفاوت الاجتماعي
في لبنان؛ وقد ركِّز على حاجات أكثر المناطق
حرمانًا، كالجنوب والبقاع وصيدا وطرابلس،
ذات الغالبية الشيعية والسُّنِّية. وكان
تأثير IRFED إيجابيًا
على المثقفين اللبنانيين الشباب، وساهم في
إعادة رسم التوازن الاجتماعي في لبنان لمصلحة
أكثر المناطق حرمانًا. لكننا نعلم أن
رجال الدين ساهموا كذلك في تشجيع الحوار. بالتأكيد، إنما على
نطاق ضيِّق؛ إذ اضطلع بعض الأفراد
المتنوِّرين فقط، بمبادرة شخصية، للنهوض
بهذه المسؤولية، أمثال المطران جورج خضر
والإمام موسى الصدر. أما "لجنة الحوار
الوطني المسلم–المسيحي" فأُسِّسَتْ في
العام 1993، ومثَّل الرؤساء الدينيون أبرز
المذاهب الطائفية. إلى ذلك، صبَّتْ بعضُ
المؤسَّسات الأكاديمية في لبنان اهتمامَها
الأول على تنمية التفاهم المسلم–المسيحي.
ونذكر، في شكل خاص، "معهد الدراسات
الإسلامية–المسيحية" في جامعة القديس
يوسف و"مركز الدراسات المسيحية–الإسلامية"
الذي أُسِّسَ في العام 1995 في جامعة البلمند. كم تبلغ في
رأيك نسبة استعداد اللبنانيين للحوار؟ يبقى السؤال مفتوحًا
فيما يتعلق بالأفراد المشاركين في الحوار
واستعدادهم للانفتاح. فهل هذا الاستعداد
يمثِّل الوضع النفسي والفكري الحقيقي
للجماعات الطائفية التي ينتمون إليها، أم هو
مجرد نشاط إعلامي نخبوي، يخفي جمودًا وخمولاً
لدى سائر المواطنين؟ كلُّ ذلك لا يمنعنا من
القول إنه، رغم الندوب والجروح التي
خلَّفتْها الحرب اللبنانية، فإن الزعماء
الدينيين اللبنانيين هم أفضل، في رأيي، من
نُظرائهم في بلدان كثيرة أخرى لمعالجة مسألة
الحوار. ففي لبنان، حوار الأديان ليس مجرد "حوار
ثقافات" مبهم، ولا سلسلة لقاءات غير ملتزمة
بين عدد من الأكاديميين الدوليين. الزعماء
الدينيون في لبنان عناصر سياسية فاعلة ترشد،
ليس على الصعيد الروحي فحسب، بل وعلى الصعيد
السياسي والاجتماعي والثقافي أيضًا. وبسبب
تراجع الأحزاب العلمانية خلال الحرب وبعدها،
أضحى إمكان الرؤية لدى أولئك أقوى مما كان
عليه قبل العام 1975 في الشأن العام. لكنْ، قبل كلِّ شيء،
سيخسر الزعماء الدينيون كثيرًا لو ورَّطوا
أنفسهم في اللاحوار واللاتسامح. دورُهم
المميَّز في المجتمع اللبناني، وحقوقُهم
الدستورية البارزة، مدينة بوجودها للإرادة
اللبنانية في الحفاظ على التوازن بين
المجموعات الطائفية، ولكون لبنان دولة
الأديان، لا دولة الدين الواحد. فالحفاظ على
هذا التوازن، بدلاً من إلغائه، والاعتناء
بالاختلاف بين الطوائف، من غير استخدامه
لأهداف سلبية كالتسلُّط والقمع، ينبغي أن
تكون أساسًا حيويًّا في كلِّ مؤسسة دينية في
لبنان. وأردِّد ختامًا ما قاله فولتير: "بلد
ذو دين واحد يعرف القمع؛ بلد ذو دينين يعرف
الحرب الأهلية؛ بلد ذو مائة دين يعرف السلام." حاورتْه:
صباح زوين *** *** *** عن النهار، الأربعاء 4 كانون الأول 2002
|
|
|