|
وأولدُ ألفَ مَرَّة... عشقتكَ، سيِّدي،
وعشقتُ صلواتِكَ – حتَّى خُيِّلَ إليَّ
أنِّي قطرةُ
نَدًى بين يديكَ، تَسكبُني في شفتيكَ، وأخرجُ
منكَ نغمًا روحيًّا شفَّافًا، حتَّى
أتبعثرَ على صدرِكَ، وأتوهَ وأنا بينَ يديك. عشقتكَ، سيِّدي،
حتَّى أصبحتُ قُبلةً في شفتيكَ، أطبعُها على
جبينِ صغارك. آهِ، ما أعظمَكَ، مولايَ،
وأنتَ تداعبُني في مَهْدِيَ، وتحملني
كسُنبلةِ قمح، لأتبعثرَ على
صدركَ،
فتلتقطُني طيورُ الحبِّ اللازوردية وتغذِّي
بِيَ صغارَها. مولايَ، لستُ أدري ما
جنيتُه، حتَّى خرجتُ عن مَدارِ كوكبي، وفقدتُ
نورَ أجسادي ورحيقَ أزهاري! وارتحلتُ، تاركةً
ورائي بيتيَ الصغيرَ، ونرجسي، وشموعَ
صلواتي، وكتابَ ذكرياتي، ورحلتُ، طالبةً
اكتشافَ العالَمِ والحياةِ، في لعبةِ
القَدَرِ والموتِ والولادة. لم أدركْ أنَّ تلكَ
الكُراتِ النورانيَّةَ، الَّتي أهدتْني
إيَّاها أمِّي الكونيَّة، كانتْ مَفاتيحَ
هويَّتي، مفاتيحَ أقداري – ما إن
مَسَسْتُها، حتَّى تغيَّرَ كلُّ شيء. فقدْتُ أجساديَ
النورانيةَ، وأصبحتُ بلا هويَّة، ورحلتُ عن
كوكبي اللازورديِّ، وعن مَهْدِيَ
النورانيِّ، ونسيتُ صوريَ وعرائسَ إبداعاتي. وانتزعتْني
العاصفةُ، لأضيعَ عن كوكبي، و رَمَتْ بي على
الأرضِ، دونَ ذاكرةٍ أو
هوية. وراحتِ المشاعرُ
المتضاربةُ تجتاحُ كياني،
وتحطِّمُ وجداني، فأخذتِ الدموعُ تنهمرُ
كشلالٍ مالحٍ ساخنٍ انبثقَ من عينيَّ،
فأحْرَقَ جفونيَ،
ومزَّقَ صدريَ، وحطَّمَ كياني. واجتاحتِ الموسيقى
الصاخبةُ آذانَ قلبي، فأنستْني موسيقاي
اللازورديَّةَ التي كنتُ أسكبُها
في مسامعِ حبِّيَ العظيمِ، لتسجنَني في
هياكلِ الجحيمِ التي تنفثُ مناخرُها
أنفاسًا من نار، وتحرقُ قُبَلَ الحبِّ قبلَ
بزوغِ الفجر. دخلتُ عالمًا ناريًّا،
وأنا دون حيلة: روحٌ هائمةٌ، تبحثُ عن جسدٍ،
فسُجِنْتُ في هياكلَ بشريةٍ ميْتة، وشاركتُ
أرواحًا ضائعةً، تائهةً في لعبةِ الموتِ
والولادة. رباهُ! ماذا جنتْ
يدايَ حتَّى أبعدتَني عنك؟! وماذا جنتْ
تلكَ المخلوقاتُ
حتَّى سقطتْ هُنا؟! وما ذنبي حتَّى أشهدَ هذا
السقوطَ الَّذي يُبَعثِرُ
كياني؟! ربَّاه! كنتُ أتبعثرُ على
صدركَ، كسنبلةِ قمحٍ، حتَّى
تلتقطَني طيورُ الحبِّ اللازورديةُ، لتغذِّي
صغارَها. وها أنا ذا الآن
أتبعثرُ كسنابلِ القمح، لأموتَ ألفَ مرَّةٍ،
وأحيا ألفَ ألفَ مرَّة. وأنا في لحظةِ عذابٍ
– تُرى، ما حكمتك؟ و ما هي العِبْرة من
هذا العذاب؟! آهٍ، يا سيدي، ماذا
فعلتُ بنفسي؟! كنتُ أبحثُ عن الحبِّ كي أنتشي بعطرهِ.
فماذا أفعلُ في هذا العالم، وعمَّن أبحثُ؟!
أأبحثُ عن الحبِّ
في قبور البشر؟! أمْ أبحثُ عنِ الأملِ في
بلادٍ لا تعرفُ الرحمة؟! آهٍ، يا سيدي،
تبعثرتُ، وتطايرتْ روحي شظايا، وكلُّ ما بداخلي
يتوقُ لأن تُلَمْلِمَني وتوحِّدني في كيانكَ.
ألا يكفيني، يا سيدي، أن أفقدَ عظمةَ حُبِّك؟
وأن أفقدَ عطرَ نرجسي وموسيقاكَ الساحرةَ
الَّتي تدفعُني لأقبِّلَ
زهورَ الفردوسِ بروحي؟ ألا يكفي فقدانُ نورِ
أجسادي، وعِطْرِ
قُبَلِكَ؟
ألا تكفي نارُ غربتي عنكَ الَّتي تحرقُ
كياني، وتشعلُ نيران صدري؟! مولاي! تبعثرتُ، مولايَ،
وهِمْتُ بين خلقكَ، وأنا لا حولَ لي ولا قوَّة:
مجردُ روحٍ هائمةٍ تبحثُ عن جسدٍ، عن قلبٍ
ينبضُ بالحبِّ، لأنَّني لن أستطيعَ أنْ أحيا
من دونِ وَجْد. نظرتُ نظرةَ الحزنِ
بينَ تلكَ الكُتَلِ،
وبدأتُ بالبحثِ عن حظِّيَ المسكين في عالَمِ
القَدَرِ – حتَّى سمعتُ صوتًا
عَذْبًا يناديني بينَ البشرِ. لم أصدِّقْ ما أسمع!
مَنْ رآني وأنا في ثوب
الهوى؟! وسمعتُ الصَّوتَ
مرَّةً أخرى يناديني، فنظرتُ – وإذا بطفلٍ صغيرٍ
يداعبُ خدودَ الزهرِ، ويرشفُ من نداها عِطْرَ
القمرِ، ويبحثُ عن حبيبةٍ
تهديه لمَلِكِ القَدَرِ. فحططتُ بين يديه
لأسألَهُ: مَن هو؟ فبدأ يكبرُ،
ويكبرُ، حتَّى صارَ بعمرِ الزَّهرِ، وحملَ
كتابًا وصورًا، وصارَ يتلو أسرارَ القَدَرِ. عجبتُ من سحرِ الزمن: طِفلٌ
كَبُرَ ما إن رآني، و راحَ
يشدو بأسرارِ الكونِ، ويتغلغلُ في أكْناهِ
نفسي، ويفشي أسرار غيوبي، بمجردِِ
قُبلةٍ على جبينهِ، وقُبلةٍ على جبيني. فَرِحْتُ، وذُهِلْتُ
من هذا السرِّ
العظيم! وراحَ الطفلِ يحدِّقُ بي، ويغزو
أعماقيَ، ويداعبُ أفكاريَ، ويغازلُ
أشعاريَ. وكلَّما غَرِقَ بداخلي، كَبُرَ
أكثرَ فأكثر – حتَّى صارَ بعمرِ
أعماري. ورحتُ أكْبُرُ
معَهُ، حتَّى
صرتُ عشقًا له، وهيامًا لروحه. فأخذَ
الحبُّ يتراقصُ بداخلي، وينسجُ في أعماقي
مقطوعاتٍ ما عزفتْها طيورُ الحبِّ
اللازوردية. نَسَجَ بداخلي
بيوتًا من حنين، وماساتٍ من أمل، وأسكنَني عالمًا
ورديًّا، ليخمِّرَ فيه بذورَ المستقبل. وبدأ الحبُّ يكبرُ
ويعظمُ، حتَّى تفجَّرَ النورُ العظيمُ من
داخلي، واتَّحدَ جسدي الأثيريُّ بجسدهِ
الصغيرِ، وولدتُ من جديدٍ في غربتي البعيدة. وهنا بدأتْ رحلةُ
عذابي: رحلةُ اختبارِ القَدَرِ والبحثِ عن
الحبِّ واكتشافِ لذَّةِ العطاءِ، في ظلِّ هذا
الجسدِ الضعيف، الَّذي يصرعُ روحي، ويقيِّدها
بأمراضِ الفكرِ
وأوهامِ النفسِ وآلامِ الجسد – هذا القيدُ
الَّذي يحجبُ عن الرُّوح الذاكرةَ الكونية
الَّتي تجمعُ في ثناياها كُلَّ العلومِ
الرُّوحيةِ وكلَّ الأسرارِ
الإلهيَّةِ، ويخفيها تحتَ طبقاتِ سطح
الوعي في لحظة اتِّحادِ الرُّوحِ مع
الجسد. لكنَّنا، في كلِّ
مرَّةٍ، نكبرُ معًا، ونحيا معًا، لنصبحَ سرًّا
لازورديًّا – ذاك
الَّذي يولدُ في أحضانِ الحبِّ المقدَّسِ –
فنعود معًا إلى روح الحبيبِ الأعظمِ، ونحنُ
نحملُ له قَبَسًا من نورٍ، ليَقْبَلَه في
عيدِ الحبِّ، ليرشفَهُ بكؤوسٍ من نرجسٍ
فضيٍّ، نقطفُهُ لهُ من حدائقِ القَمَرِ
المرجاني، ونُهديهِ أثوابَنَا الأرجوانية،
ليرتديها في صباح عيدِ الحبِّ الأبديِّ
الَّذي يولدُ فينا – إلى أبدِ الآبدين. *** *** ***
|
|
|