|
دروبُ اللاوعي إلى
المعرفة والإيمان منذ
فرويد، نعلم أننا لسنا أسياد إرادتنا
بالكامل؛ إذ يدور فينا مشهدٌ آخر غير العقل هو
اللاوعي، مكان الرغبات المكبوتة الهاربة منا.
وقد حافظ المعالج النفسي كارل غ. يونغ على
لُباب النظرية الفرويدية، معتبرًا، من
ناحيته، أن اللاوعي، "كالماء الذي يحمل
السمكة ويسمح لها بالسباحة"، هو أيضًا
خزَّان كبير للإمكانات المخبوءة. يساهم هذا
الجزء المجهول فينا في تحقيق ذواتنا؛ ويسميه
يونغ باللامعقول. لو رفضْنا أخْذَ اللاوعي في
الاعتبار لارتدَّ إلينا عبر ضربات القدر.
يُعتبَر إنكارُه سذاجةً ويسبِّب لدى ناكريه
اضطرابات نَفْسجسمية وعصبية وجنسية وسواها. لا أحد يسعه السيطرة
على لاوعيه؛ فهو يَمثُل أمامنا على نحو غير
منطقي من خلال هفوات وأفعال ناقصة وأحلام. من
يظن أنه يتحكم كليًّا في ذاته سيستسلم
لغرائزه على نحو أعنف مما لو كان يعي أنه لا
يتحكم في كلِّ شيء. منذ ولادته يسبح الطفل في
اللامعقول، في الفكرة السحرية، معتقدًا أنه
سيِّد الكل. وذاك ما نسميه الجزء الفطري فينا،
الذي تعمل التربية على عَقْلَنَتِه، فتساعد
الطفل على الخروج من هذه المرحلة. ويحصل
التطور بين الولادة وعمر السابعة (عمر "العقل").
تقول الفيلسوفة والمحلِّلة النفسية الفرنسية
ماري كلود كولونا: من المهم جدًّا ألا
تكون التربية قاسية كي يظل الطفل مرتبطًا
بجزء اللامعقول فيه؛ إذ من الضروري أن نحتفظ
في داخلنا، خلال حياتنا كلِّها، بهذا "الطفل
الإلهي" – على ما يسميه يونغ – هذا الجزء
الثمين الذي يخوِّلنا أن نكون فنَّاني حياتنا. تميِّز كولونا بين
"الطفل الإلهي" والطفولية. فالذي يقصد
المحلِّل النفسي ليساعده على التحسُّن لا
يرمي إلى التخلص من "الطفل الإلهي" فيه،
بل يحاول أن يُبرِز على سطح وعيه الأشياءَ
المؤلمة الموروثة من طفولته أو من قصته
العائلية التي سبقتْه وتُربِكه – تلك التي
يسميها يونغ "الظل"، وهو قريب من مفهوم
الـId
الفرويدي. هذا اللامعقول السلبي يُساكِن
اللامعقول الإيجابي، ويحوي شخصيتنا الكامنة
التي لا نعيها بعدُ، ويساعدنا على التطور
باستمرار، وخاصة عندما تصبح تصرفاتُنا
الخاطئة والعصابية واعية. كما يسمح لنا
اللامعقول الإيجابي، بحسب كولونا، بألا
نتبنَّى الموقف الجامد والمتطرِّف – كل شيء
أو لا شيء – بل أن نمسك بالنقيضين معًا، أي أن
نحافظ على الجدلية بين الأسود والأبيض، فلا
نختار الأبيض ولا الأسود ولا الرمادي، بل
نبتكر قوس القزح. وتلك طريقة مثالية نستسلم
فيها لحدسنا وعواطفنا. وهي تمر عبر الأحلام
التي، إنْ فسَّرناها جيدًا، ساعدتْنا على
التطور. علينا أن نَعْقِد، بعيدًا عن
السذاجة، جدليةً بين الأنا واللاوعي، حيث
يمكن للمحلِّل أن يكون الوسيط بينهما.
وتتخلَّل حياة الإنسان محطاتٌ يحتل فيها
اللامعقول جزءًا مهمًّا. تشير كولونا إلى أنه
مثلما أن الطفولة محطة أساسية للإصغاء إلى
جزء اللامعقول فينا كذلك مرحلة الشيخوخة التي
يشرع فيها الإنسان في التفكير في الموت. نوعٌ
من الإيمان يمكن أن يساعده على تقبُّل الفكرة
من غير طريق العقل. وليس المقصود بذلك الدين،
بل الإيمان الذي يشتمل على فكرة عبورنا
الأرضي، وعلى أن هذا العبور ليس فارغ المعنى،
وأن شيئًا ما ينتظرنا بعد الموت. يتمتع المؤمن
بصفاء أكثر من الملحد الذي يقع في سهولة
فريسةَ الخيبة. وتؤكد كولونا أن الانفتاح على
اللامعقول هو نتيجة حياة كاملة للفرد، وثمرة
تجارب معينة سمحتْ له بأن يتجاوز الواقع،
كالأحاسيس الجمالية، مثلاً، التي يبعثها
الفن، والمشاعر العاطفية في خياراته
الغرامية، أو خلال المحن التي عاناها، كفقدان
أحد أقربائه. فكلما أعطى معنى لتلك الأحداث
استطاع الوصول إلى نعمة الإيمان في الجزء
الثاني من حياته. تشبِّه كولونا
الشخصية الفردية بمنزل يتضمن غرفًا يعرفها
الإنسان جيدًا، وتمثِّل اللاوعي الشخصي الذي
وَرِثَه عن ثقافته وقصته الشخصية. ثم يلي
الغرفَ القبوُ الأبعد والأعمق الذي يتضمن
الأساطير والرموز المشتركة للإنسانية. تسري
في الثقافات كلِّها لغةُ الحكمة، كأمثال
ورموز ونصوص تتوجَّه إلى الروح والقلب، لا
إلى الفكر فحسب. حين نلامس اللاوعي الجمعي
تجتاحُنا طاقاتٌ عظمى؛ ويختلف مفعول هذه
الطاقات بين شخص وآخر وفق تركيبته: فقد تكون
خلاَّقة، كما لدى الفنانين المبدعين، أو
هدَّامة، كما لدى الذُهانيين. وكلتا الفئتين
تتمتع بالمستوى الروحي نفسه، إنما لا تتصرفان
به بالطريقة عينها. إذا كانت الأمور
الغامضة وغير الملموسة تجذب الإنسان إليها في
قوة فلأنها مرايا تعكس حياته الداخلية
الفوضوية وغير المفهومة، ولاسيما أن قدراته
الذهنية والفكرية لا تزال محدودة بإزاء
الموضوعات الأساسية التي تسكنه والمتعلقة
ببحثه عن المطلق. لذا يهرب أكثر فأكثر إلى
الفنِّي والخيالي والتنجيمي تعويضًا عن
المدِّ العقلاني للمجتمع الذي يعيش فيه، حيث
الإنتاج والمردودية يسودان، فيشعر بوجود سحر
الكون من جديد من خلال الإبداع والحب
والإيمان. أعاد العديدُ من
الفلاسفة وعلماء الأنثروبولوجيا الاعتبارَ
إلى الخيالي والفكر الأسطوري لكونهما
يساعدان على نمو الإنسان. حتى إن الفيلسوف
الفرنسي ديكارت اعترف بلا خجل بأنه تلقَّى
عبر الحلم "منهجه" الذي أسَّس فلسفيًّا
للعلم الحديث. لو وصفنا باللامعقول كلَّ ما لا
يدركه العقل فإن التنبؤ والتخاطُر والشفاء
المغناطيسي، مثلاً، أمور قد نجد لها في
المستقبل تفسيرًا منطقيًّا. المعقول
واللامعقول يتعايشان معًا في الإنسان
والعالم. فالرغبة والحب والجنس والإحساس
الفني أمور لم يُسبَر غورُها تمامًا. ومن
المهم أن نستقبل هذا الجزء غير المعروف فينا،
أن نعمل معه ونفكَّ رموزه، لنتطور ونحرِّر
طاقاتنا الحيوية. فالروحانية تنطلق من يقين
حريتنا، وتدفعنا إلى التعرف إلى ذاتنا
وتحويلها. الاقتناع بأن الله
موجود تجربةٌ خاضَها الروائي الفرنسي ديدييه
دوكوان في شكل رؤيا خاطفة احتلتْ كيانه من
طريق اللامعقول. وهو يروي تجربته هذه لمجلة Psychologie
الفرنسية. وننقل هنا نصَّها الحرفي: هذا النوع من التجربة
لا يُقهَر. لا نرى شيئًا، لا نسمع شيئًا؛ إلا
أن صدمة ما تحدث. عاشت الذكرى حيةً فيَّ على
نحو أدق من الصورة الفوتوغرافية. في ليل
الثامن من أيلول، كنتُ في غرفتي؛ وفجأة شعرتُ
عبر الوحي بأن الله غير موجود. كان شيئًا على
عكس الاهتداء. توجهتُ نحو طاولتي لأدوِّن
فكرتي، فإذا بانقلاب كامل لا يوصف يحدث فيَّ
بسرعة مذهلة لم تتعدَّ الثواني. من دون أن أرى
أو أسمع شيئًا، سكنني اليقينُ المفاجئ، لا
بواسطة التفكير، بل في وضوح وبداهة عمياء. هذا
الله، الذي اعتقدتُ أن في استطاعتي إثباتَ
عدم وجوده قبل دقيقة، موجود فعلاً. وأكثر من
ذلك، إنه حيٌّ. ووُلدتْ بينه وبيني علاقة حب.
كنت كامرأة حامل يتحرك جنينُها للمرة الأولى،
فتشعر بالحياة في داخلها. اختبرتُ معنى أن
أملك روحًا، أن أحدِّثها وتحدِّثني. تملَّكني
فرحٌ حارق، غير إنساني، أكبر من قدرتي على
استيعابه وتحمُّله. وأوقعني هذا التهلُّل
أرضًا كمن يفقد التوازن من شدة الانفعال،
وانهارت قواي. ثمة شيء لا يُحتمَل في الله. لم
أكن أعرف بعدُ حول ماذا أو حول مَن يدور
الموضوع. أمضيت ليلة كاملة في هذا الوضع
الكثيف والحاد. ثم أطلَّ الصباح، وقلت لنفسي
"إنه الله!" حاولت أن أُعَقْلِن الأمر،
لكني فشلت. وازداد اقتناعي بأن الله هو الذي
طَرَقَ بابي. اعتقدتُ في البدء أني فقدت عقلي،
واستشرت طبيبًا من أجل صورة كهربائية للدماغ؛
فبدا كلُّ شيء طبيعيًّا. لا جوابَ منطقيًّا
عما حصل لي. يجب التسليم باللامعقول. هذا
الأمر بدَّل لي وجه العالم. حتى الأشياء
الأكثر قبحًا أخذتْ مكانها فجأة؛ واتخذ كلُّ
شيء معناه. كان شعورًا خارقًا اكتسبتْ معه
علاقاتي بالآخرين بُعدًا جديدًا وكونيًّا.
سابقًا كنتُ أقسم الناس بين من أحب ومن لا أحب.
حاليًّا من المستحيل ألا أحب. واتخذ الإنسانُ
في نظري قيمته ككائن جوهري. لم يبقَ في وسعي أن
أغضب من أحد، حتى لو خانني؛ فهذا مستحيل. لست
إنسانًا يعيش الإيمان، لأن الإيمان هو عدم
المعرفة؛ بينما أنا أعرف في عمق ذاتي، ولا
يمكنني إنكار أو محو ما حدث لي. إنه أكثر من
الإيمان؛ إنه يقين. لم أعد أخشى الموت. غالبًا
ما أقصد الكنائس، حتى إني أدخلها أحيانًا
ثلاث مرات يوميًّا. لكني أستطيع الصلاة أيضًا
على متن سفينتي أو في سريري. فهمتُ الطابع
الحسيَّ المتجسِّد في سرِّ القربان المقدس في
الديانة الكاثوليكية. أؤمن بحضوره الحقيقي،
حتى لو من باب اللامعقول. ولِمَ لا؟ مادام
الله استطاع أن يدخل فيَّ لِمَ لا يكون حيًّا
في القربان؟ حصل أني تقدمتُ من القربان،
وتسمَّرتُ مكاني من قوة حضوره، كالاندفاع
الذي يشدُّنا نحو المرأة التي نحب والتي
تتعرَّى أمامنا، فننظر إليها مبهورين قبل
الاقتراب منها. فكرتي عن الله دائمة وفرحة؛
وأحارب ضد كلِّ كآبة يمكنها أن تحيط بالدين.
أعرف أن ما عشتُه تلك الليلة المذهلة سأعيشه،
كما لدى كلِّ فرد منَّا، لدى عبوري إلى الجانب
الآخر من المرآة. ***
*** ***
|
|
|