|
نيتشه بين
اللَّعب والتصوُّف نشوة الألم بحثًا عن
الإنساني والإلهي هذا
الكتاب الفلسفي لعميد كلِّية الفلسفة
والعلوم الإنسانية في جامعة الروح القدس،
الأب د. يوحنا عقيقي، يطبع الفلسفة العربية
بطابع جديد، إذ ينقل إلى اللغة العربية – وهي
خزان العالم الناطق بالضاد، وحاملة تراثه
الفكري والثقافي والعلمي – صورة متجدِّدة عن
نيتشه، الفيلسوف والشاعر والمتفوِّق
والمنزلِق إلى المهاوي ليصعد إلى الأعالي،
غير آبهٍ بالمسافات والزمن، متعدِّيًا على
حدود العقل المنتظم ومتجاوزًا إياها،
مقتربًا من الله، ليشبهه أو ليحذفه، ليحلَّ
معه، أو ليضيعا معًا في كبرياء العبقري
الناقم على الناموس، الباحث المتألم السعيد
الذي تشده هويةٌ تفتقدها الأرض، ولا توفِّر
لها مناخ التحقيق، أو قد تفتقر إليها فتولِّد
أمثال نيتشه وأتباع له، يجدِّدون، في زمن
الثورات الفكرية الخلاقة، الهوية المفقودة:
هوية الإنسان المتفوق، المولود من رحم
الآلام، حاملاً رسالةً يُرهَق الإنسان في
تنفيذ مضمونها، أو يقضي عمره قبل أن يلج
أسرارها.
يحتوي كتاب نيتشه
بين اللعب والتصوف*
على كمٍّ هائل من المراجع العربية والفرنسية
والألمانية والإنكليزية واليونانية
والفارسية والدينية على أنواعها. وإيراد هذا
الشلال من المراجع ليس وسيلة يُبهِر الكاتبُ
القارئَ بها بقدر ما هو دليل تنوُّع ثقافي
منفتح، نَهَلَ منه الباحث ليغذِّي دراسته،
ويجعل منها فكرًا جديدًا قادرًا على احتواء
التناقضات، وربط أجزاء الفكر الواحد المشتت
في بطون الكتب على اختلافها، بغية إطلاع
القارئ على حقيقة المفكِّر المبدع الذي،
أيًّا تكن هويته، يعاني الألمَ نفسه ويعبِّر
عنه بالصورة ذاتها، وإن تعددتْ وسائل التعبير.
فكأنما الإنسانية التي يعالجها كتابُ نيتشه
بين اللعب والتصوف إنسانيةٌ واحدة، تنبثق
من غيرية الجنس والعرق والبيئة، وتلتقي
بالروح المتعطشة إلى الإنسان الكامل، الساعي
أبدًا في سفره بين محطتي المحدودية – الولادة
والموت – إلى التحرر مما يلصقه بالمادة،
بالتناهي، إلى تجاوز الحالة الواقعة، إلى
نكران البداية والنهاية، إلى العراك مع الله
حتى إحداث الخلق من طريق حبٍّ يُبقي العاشق
الهائم عند عتبة هيكل الحب مكتفيًا. فمشاهدة
وجه الحبيب هي جلُّ ما يسعى إليه المتصوف، لأن
السعادة كلَّها، في مفهومه، تقتصر على
المشاهدة، بداية الفيض وإعلان رحلة بلوغ هذه
النقطة كجواز سفر لرحلة قد تتعطَّل وسائلُ
نقلها أو مسبباتها؛ وإن لم تتعطل فقد يساهم
تحقيق الرحلة في إلغاء جمال السعي إلى نقطتها
الأولى كإنجاز تحرري يعيشه المتصوف. وعليه،
تصبح الرحلة المحققة أمرًا ناجزًا؛ فلا حكمة
فيها، إذ دخل حَرَمَ الأمور العادية المعيشة
والمقيسة بقياس المكان والزمان.
فريدريك نيتشه يحاول كتاب نيتشه
بين اللعب والتصوف أن يقدم قراءة جديدة
لاختبار الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه في
التصوف، بالمقارنة مع التراث الصوفي العالمي
والمدرسة الرومية لدى مؤسِّسها جلال الدين
الرومي.
جلال الدين
الرومي تتناول المقاربة
ظاهرة التصوف منذ العهود اليونانية القديمة،
مرورًا بالوحي في المسيحية، والتصوف
الإسلامي والفارسي، إلى نيتشه وسواه من
المتصوفين الغربيين، مع التركيز على اختبار
نيتشه الفريد كمحور أساسي للُّعبة الصوفية.
ففي القراءة الدقيقة واليقظة، وعبر
الاجتهادات المتلاحقة في اللعب على الفكرة
والرمز، على الحسِّي والتجاوزي، على المعلوم
والمجهول، على المحدود والمطلق، على
الإنساني والإلهي، اتخذ الكتاب منحى جديدًا
في مقاربة السلوك التصوفي واختباراته التي
يعجز المرء عن فهمها خارج الاختبار الشخصي،
والنَّفَس الطويل في الممارسة، وولوج
الأسرار، والتنقيب عن ذات في ذات، وبلوغ
النشوة، والتمتع بصفوتها، والالتحام – إذا
جاز التعبير – بالله، واستعادة اللعبة كلما
عاد المتصوف إلى نقطة الصفر. مصدر الكتاب هو
الألم، أو معمودية النار المطهِّرة
والمجدِّدة في الفلسفة النيتشوية، بل في أيِّ
فلسفة صوفية – وإن تباينتْ درجاتُ الألم في
عمقها وحفرها في الإنسانية التائقة إلى
الخروج من الجهل إلى المعرفة. الألم هو الدافع
الأقصى إلى طرح الأسئلة، إلى الاكتشاف، إلى
الغوص في الأعماق، من أجل استخلاص الصافي
المنتشي الموصِل إلى التسامي، السائر بنا إلى
الأزلي المنيع، هاربًا منا عائدًا إلينا، في
أروع ما يتوصل إليه المتألِّم من فنٍّ يفوق
المعقول وحدود الممكن والمعروف والمألوف،
فيحقق الخلق الجديد المنبثق من الحاجة إلى
الموت، إلى تفريغ الذات؛ وفي عبارة أخرى،
المنبثق من ألم أقوى، أعمق، متزايد باستمرار،
ملازم للسعادة التي تواكبه، شأن توأمين
ينموان معًا لتكتمل عملية الخلق – كلِّ خلق. يعرض كتاب نيتشه
بين اللعب والتصوف لأشكال الفنِّ التي
استخدمها أهلُ التصوف في تقديسهم الألم،
واعتبارهم إياه هدية لا عقابًا، والنظر إلى
الدخول في دائرته واختيار الموت الإرادي
وتحدِّي قرارات الآلهة وأحكامها كعمل بطولي
فاضل يقود إلى المعرفة "البريئة من الدنس"،
إلى الاعتراف بأن "القساوة هي أقدم عنصر من
عناصر ابتهاج البشرية"، لأن الإقدام على
الموت طوعًا فضيلةٌ أكبر من الاستشهاد الذي
يسمح للآخرين بأن يقتلوا الشهيد، تاركًا
لإلهٍ حقَّ الاقتصاص له. يقودنا نيتشه بين
اللعب والتصوف على متن أوراق كُتِبَتْ بين
"اللعب والتصوف". فكان اللعب إفراطًا
فنيًّا في الرقص والنغم والموسيقى والقدرة
والشجاعة والخوف؛ وكان التصوف ألمًا وحكمة
وموتًا وولادة ونشوة وعودة إلى واقع وسفرًا
وهجرًا للذات ورهانًا ورمزًا وبطولة في
الجميع بين النَّعم واللا، وحداثة في اعتبار
الفن – وخاصة الرقص – أكثر تجسيدًا للحقائق
السامية من الكلمة. ولا يخفى ما في هذا المنحى
من التصوف من تحدٍّ للتقليد في مفهوم التأليه
والتقديس والتجسيد واعتبار الكلمة حافظة
المعرفة والحقيقة التي لا تزول. نيتشه بين اللعب
والتصوف
محاولة جريئة لإذكاء الإيمان بالإنسان – هذا
المخلوق اللاعب الذي لا تحدُّه حكمة، ولا
يُشبِع غليلَه دين، ولا تنقذه فلسفة، ولا
تدور في فلكه عقيدة وتستقر. هو الإيمان
بالإنسان المصنوع من مادة، والمعجون بتراب
الأرض، والحالم الراجي أبدًا التجاوز
والتفوق، انطلاقًا من مقولة: "إن هذا
المخلوق هو معجزة فريدة تحصل مرة واحدة."
الإيمان بالإنسان أنه، بعقله وقدراته
الذاتية، يشكِّل تحفة فنية تعبر الفن إلى
الحقيقة، إلى الجمال، إلى الكمال، إلى
اللامتناهي. الكتاب آسر بأسلوبه
الرفيع، بترجمته الوفية لكبار الفلاسفة
ونظرياتهم، بغزارة مضمونه وسعته. فهو قد
تبنَّى محطات صوفية عديدة الجذور، يجمع فيما
بينها الرقصُ كأصدق تعبير عن القوة والإبداع
والتحليق والحرية. كما يجذب الكتاب ببحثه
الدؤوب عن هوية الإنسان المتفوِّق الذي قد
يتبادر إلى الذهن أنه قاتل الله، أو أنه
يتلهَّى في صوغِ متفوِّقٍ غريب عن الإنسانية؛
فلا نلبث أن نقع على المتفوِّق الذي يسعى
نيتشه إلى تحقيقه: إنسان أقل ما يقال فيه إنه
"من معدن إلهي"، عقلانيته الجسدانية هي
التي تشده إلى الشغف والهيام بالله المجهول –
الإله الراقص، الإله الذي يعلو المبادئ
والنُظُم الأخلاقية التي يضعها البشر
كقوانين استعباد وأسْر. نيتشه بين اللعب
والتصوف
حكاية جديدة في البحث عن الله. لسنا في صدد
القول إن الكاتب ثوروي الطباع، يمزِّق فلسفة
ليقيم أخرى؛ بل يسعنا القول إن الكتاب يقدِّم
أسلوبًا جديدًا في النظر إلى عبقرية الإنسان
والاعتراف له بتفرُّد اختباره، والتحالف مع
الفيلسوف المتصوِّف على أنه أحد المؤمنين في
بحثه عن الله، في اللجوء إليه، وأنه، إلى جانب
أهل الدين والعلم وسواهم، الأفضلُ في استرجاع
الهوية الإنسانية المتحررة من تراكم الأنظمة
والتقاليد التي شكَّلتْ – ولا تزال – غشاء
ضبابيًّا على عيون الناس، وحالت دون وعي
الإنسان ذاتَه وحبَّه لجماله وانعتاقه من
كلِّ ما يمنعه من تحقيق صورة الله على الأرض. نيتشه بين اللعب
والتصوف
لعبة خطيرة لِمَنْ فاته أن الإيمان أمرٌ
شخصي، وأن الإنسان النيتشوي بسيط وطاهر – لو
حاول القارئ أن يفهم سرَّ هذا الإنسان الذي
يشكِّل جسدُه هيكلَ عقله الكبير. *** *** *** عن
النهار، الجمعة 20 كانون الأول 2002 * صدر
في منشورات جامعة الروح القدس، الكسليك، 2002،
326 صفحة.
|
|
|