الناقد يوسف سامي اليوسف في كتابه الجديد

مقال في الرواية

 

فرحان المطر

 

الصراحة والوضوح والصدق، ووضع النقاط على الحروف، وتسمية الأشياء بأسمائها الصريحة، ونزع هالات الزيف المغلِّفة للكثير من الاعتبارات التي تلفُّ بعض آرائنا وقناعاتنا الأدبية، في هذه القضية أو تلك؛ إلقاء النفاق الأدبي جانبًا، وإعلان الرأي الذي قد يجلب المتاعب، أو نظرات الاستغراب على أضعف تقدير، في مسائل باتت كأنها مسلَّمات لا تحتمل النقاش، وإبداء آراء جديدة مغايرة للمألوف؛ البحث في جوهر الأشياء – الرواية هنا – وإبراز طابعها الأصيل، الذي يستحق الحديث عنه، لما ينطوي عليه من قيم رفيعة سامية، يكاد اليوميُّ في حياتنا أو الخداعُ والنفاقُ أن ينحِّيها جانبًا – هذا بعض ما يمكن للقارئ الحصيف أن يخرج به من استنتاجات إثر قراءته للكتاب النقدي الجديد: مقال في الرواية، للناقد يوسف سامي اليوسف.*

 

علامة استفهام كبيرة

في مقدمة الكتاب يطالعُنا الناقدُ بأهمِّ المخاوف التي يجب الانتباه لها جيدًا، حين يعلن:

في الآونة الأخيرة، ولاسيما منذ بضع سنوات، أخذتْ الروايات بالتدفق الغزير في البلدان العربية، وعلى نحو لم يُؤلَف من قبل بتاتًا في هذه البلدان. وما يخشاه العقل أن يكون هذا السيل الزاخر علامة انحطاط من شأنها أن تؤشِّر إلى مقولة "غثاء السيل" المعروفة. فأنَّى شاهدتَ وفرةً عارمة في الإنتاج الأدبي كان من حقِّك أن تتهمها بأنها مثلوبة بمثالب فاتكة، لا ينجو منها إلا النزر اليسير. إذ للحقِّ أن الطبيعة ليست سخية إلى هذا الحدِّ المفرط؛ فلا يسعها أن تنتج من النفائس إلا القليل. إذن، لا بدَّ من التمييز بين الأورام وبين النموِّ السليم. (ص 7)

الرواية وروح العصر

يشير الناقد اليوسف إلى اعتقاد شائع، يتداولُه بعض الكتَّاب، حول ضرورة الكتابة الروائية، تأسيسًا على هذا العصر ومعطياته، فيقول:

[...] قد يجوز الظنُّ بأن الحياة الشديدة الاحتدام لا يناسبُها إلا الرواية كإيقاع أدبي قادر على ملامسة كنهها، والتعبير عن فحواها وعن بنيتها المركَّبة، بكثافة لم يسبق لها مثيل في التاريخ. ولكن مما هو في الغرائب حقًّا أن تجيء الروايات التي تبتغي التعبير عن التوتر والتعقيد فاترةً على هذا النحو، أو بغير حرارة كافية لصنع شيء ذي بال. فالفتور هو غياب السمة الاحتدامية، أو ضمورها، الذي يسمح للبرودة بالانتشار في النصِّ، من ألفه إلى يائه. يقينًا إن الحياة هي الحرارة، وإن موت الروح يتناسب طردًا مع درجة النقص الذي يَعْتَوِرُ حرارتَه المجازية. (ص 8)

النقد ومسؤوليته

بعد أن يُدلي برأيه في الحال التي آلتْ إليها الروايةُ من افتقاد للحرارة التي هي الحياة، يتَّجه الناقد إلى التأكيد على دور النقد ومسؤوليته، حين يقول:

[...] صار لِزامًا على الفكر النقدي أن يمنح الرواية الكثير من جهده واهتمامه، وذلك ابتغاء المساهمة في إنضاجها، ودفعها إلى برهة ازدهارها الكيفي – إن كان الازدهار مازال ممكنًا في هذا الزمن الجانح دومًا صوب المزيد من الانحدار والاتِّضاع، بل حتى صوب تدمير الأسانيد التي يستند إليها المشروع البشري بأسره، أقصد ما كان منها خاصًّا بذات الإنسان، أو بعالمه الجَوَّاني حصرًا. (ص 9)

الكتاب وما يريد قوله

من ذلك الوضوح الذي أشرتُ إليه في مطلع قراءتي – وهو ما يميِّز عمومًا وجهة نظر الناقد اليوسف – نراه يحدِّد ما الذي يطمح في الوصول إليه من وراء هذا الكتاب، إذ يعلن:

[...] هذه المقالة الراهنة متعددة الغايات؛ ولكن كبرى غاياتها هي إلقاء نظرة ذات محمولات معيارية أو تقويمية على حركة الرواية في بعض أقطار أوروبا حصرًا. (ص 14)

ويتابع قائلاً:

ولكن أهم ما في الأمر أن هذه النظرة المعيارية نفسها تستهدف البلوغ إلى مفهومٍ للرواية ناصعِ القسمات، لعلَّه أن يصلح هو نفسه ليكون معيارًا قائمًا بذاته. أما نواة هذا المفهوم فتتلخَّص في أن الحميم هو المحتوى الجوهري للرواية؛ أو قُلْ إن على النصِّ الروائي أن يخاطب وجدان الإنسان أو ضميره، الذي هو ماهيَّته أو لُبابه؛ وإلا فإنه لن يكون أبدًا أصليًّا بأيِّ حال من الأحوال. (ص 14-15)

ويقول أيضًا:

[...] ليست هذه المقالة محاولة لكتابة تاريخ الرواية، بل هي مجرَّد سعي يستهدف التعرف على قيمة بعض المنجزات الروائية، ولاسيما ما كان منها ذائع الصيت. فما هذه المحاولة سوى رأي يعرض مفهومًا تقويميًّا، ولكنه لا يزعم أنه نظرية شاملة راسخةُ الأركان؛ إذ لا يزيد البتة عن كونه تصورًا للسمات الإيجابية الصانعة للمزية، وكذلك للصفات السلبية التي تملك أن تحيل النصَّ إلى رماد. ولهذا، فإن المقالة الراهنة سوف تُغفِل الكثير من الروائيين المشاهير، ناهيك بالأغفال، وذلك لأن غايتها النهائية ليست كتابة عرض شامل للرواية العالمية، بل تحديد القيم المعيارية الخاصة بفنِّ الرواية، وذلك بعد استخلاص هذه القيم من بعض المنجزات الروائية الكفيلة بتحقيق الغرض. (ص 15)

الحساسية والأدب

ينطلق الأستاذ اليوسف من فهمه للنقد الأدبي، أو حتى للأدب عمومًا، باعتباره قضية فردية تتعلق بحساسية هذا الشخص أو ذاك، إذ يعلن

[...] أن النقد لا يملك البتة أن يكون علمًا موضوعيًّا، كالهندسة أو الفيزياء. فالناس متفاوتون في الحساسية التي هي كل شيء في دنيا الآداب والفنون. فلئن كانت غاية كلِّ إنجاز أدبي أو فنِّي هي التأثير، فإنه لا يؤثِّر إلا بمقدار ما فيه من حساسية أصلية من شأنها أن تستشعر ما يتأبَّى على كلِّ إدراك. يقينًا، إن الحساسية هي درجة حرارة الذات، أو قدرتها على التمثُّل والاحتواء، أو كيفية استجابتها لما في الأعيان من مكنونات تخصُّ الروح أو تتَّجه صوب الوجدان. ومن البدهي أن كلَّ مزاج ناضج لا بدَّ له من أن يكون مأهولاً بزخم الذائقة التي هي القوة المؤهِّلة للتماس مع الفنون والآداب. وما الذائقة إلا الحساسية حين تصطفي النفائس وتضمُّ فحواها إلى بنية الذات. ولهذا، كان لا بدَّ من أن يُعرَض كلُّ شيء على الذوق: فما ارتضاه فهو مقبول؛ وما رفضه فهو مرذول – حتى وإن كان أكثر انتشارًا من شعاع الشمس في رأد الضحى. (ص 17)

هل هي قضية فساد في الذوق؟

دون مواربة، يعلن الناقد اليوسف أن القرن العشرين يعاني من فساد في الذوق، ويعطي تبريره قائلاً:

ويبدو أن الذوق العام في القرن العشرين قد عَطَبَه الفساد. ولولا ذلك لما أنتج هذا الركام الضخم من النصوص الروائية التي راجت كما لو أنها أعظم أدب عَرَفَه التاريخ. فليس من شأن أيِّ ذوَّاقة للآداب بوجه عام أن يسوِّغ رواية يولِسِز لجويس، أو مائة عام من العزلة لماركيز، على سبيل المثال؛ كما أن صاحب الذوق المُعافى لن يرى لرواية أولاد حارتنا، أو الحرافيش، أو أمام العرش، أية صلة بالفنِّ الروائيِّ كلِّه، وذلك لأنها بعيدة كلَّ البعد عن الحساسية التي من شأنها أن تتحسَّس الحياة بوصفها قدرة على إنتاج الرفعة والنبل. ومن شأن هذا التحسُّس، إذا ما كان أصليًّا، أن يجعل الروائي واحدًا من رادة الحياة الباطنية المترعة بكلِّ ما هو أصيل وجليل. فما من قيمة إلا لشيء يملك أن يجعل الروح ممتلئة بالسموِّ والجمال في آن معًا.

إن رواية أولاد حارتنا نصٌّ شديد الشهرة، ولكنه، في الوقت نفسه، بعيد جدًّا عن أن يكون ذا قيمة أدبية في نظر من له أدنى خبرة بفنِّ الرواية، أو في نظر الذوَّاقة الحساس؛ بل ربما جاز الزعم بأن روايات نجيب محفوظ كلَّها، أو جُلَّها، لا تملك أن تُقنِع المرءَ بأنها إنجازات فنية ذات شأن كبير. (ص 17-18)

لماذا نقرأ الرواية؟

يجيب اليوسف على هذا السؤال قائلاً:

لكي نعيش تجربة لا تُعاش في الواقع اليومي بتاتًا. فالفنون والآداب من شأنها أن تنتج الشعور بالسموِّ والرفعة، أي بتجاوز التجربة اليومية الخاوية الجوفاء. ولولا هذا الهدف المنعش لما كان للإنسان أن يتأدَّب أو يتفنَّن. (ص 19)

الروايات الجيدة

حسب اليوسف فإن:

[...] الرواية الجيدة هي حقًّا تكثيف شامل للروح الإنساني، أي للقيمة، بما هي لُباب الوجود أو نسغه الداخلي؛ بل بما هي نداء يحضُّ الإنسان على أن يجعل لحياته معنًى، بحيث تصير العيش الذي يستحق أن يُعاش. إن الرواية الجيدة، شأنها في ذلك شأن كلِّ إنجاز نبيل أو أصيل، هي تحية من الروح، أو من الإنسان، يقدِّمها للحياة؛ ولكنها، في الوقت نفسه، إعادة تأسيس للوجدان، أو دعم له، في عالم ساقط يتصدَّع وينهار على الدوام، وذلك بحكم كونها قيمة، أي سندًا من الأسانيد التي تملك أن تدعم الروح. (ص 26)

ومن جهة أخرى، يدلِّل الناقد اليوسف على

أن معيار الشيء لا يتعدَّى وظيفته أو غايته. وبإيجاز، إن قيمة أية رواية إنما تتحدَّد بما تهدف إليه، شريطة أن تكون قد زوَّدتْ نفسَها بشكل ذي أصالة وبأسلوب يتوفر له الحدُّ المقبول من الكمال. وهذا يعني تآزُر الفنِّي والأخلاقي بغية إنتاج الشعور الجليل. (ص 30)

رواية أمريكا اللاتينية

يجيب عن التساؤل الذي يتبادر إلى ذهن القارئ حين يرى إلى أنه تمَّ إغفال ذكر الرواية الأمريكية اللاتينية، فيقول:

لقد تحفَّظ هذا المقال إزاء الرواية في أمريكا اللاتينية، بحيث أغفلها تمام الإغفال؛ وما ذاك إلا لأن الفنَّ الروائي إنجاز أوروبي لم ينجح كثيرًا خارج أوروبا وحدها. فليس من الإجحاف أن يقال بأن الرواية في أمريكا اللاتينية لم تتمكَّن من البلوغ إلى طور النضج بعد؛ بل إنها مازالت بعيدة عن البلوغ إلى الشأو المأمول. وعلى سبيل المثال، لا تزيد رواية مائة عام من العزلة – وهي لماركيز الحائز على جائزة نوبل – عن كونها بنية مصطنعة خالية من القدرة على استقصاء الحياة الباطنية التي هي الموضوع الجوهري لكلِّ أدب أصيل. ولهذا السبب، فإنها لم تملك أن تواظب على الانتشار الشاسع لمدة طويلة. ففي الحق أنها لعبة شكلية، سداة ولحمة. (ص 168)

الرواية العربية

يقول اليوسف:

[...] تحفَّظ هذا المقال إزاء الرواية العربية التي لا ترقى إلى أيِّ مستوى من شأنه أن يضارع مستوى الرواية الأوروبية. فمما هو مغاير لطبع الأشياء أن تتمكَّن هذه المدن المخمَّجة المَدِرَة، المكظوظة بالأوساخ والضوضاء، والرازحة تحت أوزار الاستبداد والبطش القمعي، من أن تنتج أيما أدب جليل أو صالح للانتشار في هذا العالم المنهك بالأجهزة السمعية–البصرية، التي لن يراها الحصيف إلا بوصفها أمارات انحطاط. (ص 169-170)

ما يشبه الخاتمة

ما تقدَّم ذكرُه من قضايا يتضمَّنها كتاب مقال في الرواية، وكذلك المقتطفات التي جاء بعضُها مطوَّلاً بعض الشيء، هو في حقيقته لا يدِّعي الإلمام بفحوى هذا الكتاب الجريء والهام والمثير للنقاش حتمًا. فقد أغفلتُ – عمدًا – الإشارة إلى العديد من الأمثلة، وحتى بعض النقاط الهامة، تاركًا إياها للقارئ كي لا أساهم في تضييع متعة القراءة لديه. وأحب أن أشير إلى أهمية عنصر المتعة الذي يوفِّره الكتابُ للقارئ، سواء اتفق معه أو اختلف في بعض، أو حتى كلِّ القضايا المطروحة. كما تنبع أهمية الكتاب، من جهة أخرى، من هذا الحشد الهائل من الروايات التي كانت مادةً للنقد خلال القرون الثلاثة المنصرمة؛ وهو الأمر الذي يعطي فكرة عن حجم الجهد الذي بذله الناقد كي يقدِّم هذه المادة الفنية للقارئ العربي، وللمكتبة العربية عمومًا.أ

*** *** ***


* يوسف سامي اليوسف، مقال في الرواية، دار كنعان، دمشق، 2002.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود