|
كريستال البوح الشفيف وهمس
الرقَّة في
مجموعتها الشعرية كريستال*
يتبادر إلى الذهن، للوهلة الأولى، أن تجربة
الشاعرة السورية جاكلين سلام تلوذ، ربما،
برومنطيقية في الكتابة تحمل أصداء تاريخية
أليفة. ونكتشف ذلك فعلاً على مدى الصفحات الست
والثمانين، المُسْلِسَة القياد لأحاسيس
حميمة وأحلام وتخيُّلات تنتمي، في مجملها،
إلى مناطق عاطفية رقيقة، وفيَّة لإرث
الرومنطيقية العتيق.
لكن الشاعرة لا تلبث
أن تفاجئنا وتُشعِرنا بأن وراء تلك السحب
الشفافة جاذبيةً من نوع آخر، خفيفة وصاعقة في
آنٍ واحد، تدفع العين القارئة إلى تلمُّس
المتعة الغامضة التي لعلها تكمن تحت الكلمات.
مثل هذا الإحساس النقدي المزدوج يتولَّد منذ
القصيدة الأولى، مذ نسمعها تسأل مثلاً: "أين
الطريق لأبحر في دمك؟" ويزداد هذا الانطباع
رسوخًا لدى قراءة قصائد المجموعة كاملة.
ويسعنا القول، ربما، إن قصيدة واحدة تكفي
لفتح أبواب المعاني وتشريع النوافذ كلِّها
على هواء متكرِّر، وإن بريئًا ونقيًّا وعلى
غير تلوُّث وفساد. صفحات تطمح إلى أن
تكون قصائد بوحية، معاتِبة، متألِّمة،
تائقة، مرتحلة، متململة، معترفة، متطلِّعة،
مجروحة، متسائلة، مستفهمة، قاسية، ليِّنة،
وغارقة على الدوام في أنوثتها الصريحة، وفي
حسِّية خَفِرَة، أكاد أقول أثيرية، أو ربما
متملِّصة أحيانًا من جرأتها. تسعى الشاعرة
المقيمة في كندا إلى أن "تقول" وجعها،
وشوقها، وطفولتها، وأمومتها، ووحشتها،
وهزائمها، و"صوتها الغافي على كتف الظلال".
ويحملها هذا السعي إلى الترحيب بما يخطُّه
قلمُها على صفحاتها البيضاء، تاركةً
لمشاعرها حرية التلوِّي والتقلُّب على جمر
الغربة: مسافرةٌ أبدًا/ بلا
تذاكر عبور.../ مبلَّلة بذاكرتي/ كقطة مذعورة. هكذا سنعثر في طيَّات
التعبير على معجم وافٍ يدل على السفر،
والمنفى، والصقيع، والوطن، والمسافة،
والرحيل، والعبور، والهجرة. غير أن هذا
المعجم لا يجاهد في سبيل تحرير ذاته من إرثه
المثقَل، بل لا يريد ذلك، ربما إمعانًا في
الوفاء لنظرية البوح التي لا تنوء بأحمال
الكلمات والإضافات، وإنْ رَزَحَتْ تحتها. بيد
أن ذلك لا يحول دون الرِّقة الشفيفة التي ترعى
عشبَ بعض القصائد وتظلِّلها، وتخفِّف عنها
شيئًا من عبء المباشرة. فبين المرأة المشاكسة
والمغناج وتلك المعاتبة والمتألِّمة، بين
ذاكرة هي "مستنقع وداع" وقلبٍ "غارق في
ضباب منفى"، ليس غريبًا عن المجموعة أنها
أرادت أن تلجأ، منذ البداية، إلى مغاور
الرومنطيقية، تبث منها خصائص انفعالاتها،
وعشقها، وتوقها، وأحلامها، وغربتها،
وحرائقها، وانكساراتها، وأحزانها، الخفيضة
منها والعالية النبرة، اللطيفة والعنيفة، في
آنٍ واحد وعلى تناغم وانسجام. أما حين تتطلَّع
الشاعرة إلى رسم لوحة الرجل، الممهورةُ
بغيابه الدامي القصائدُ كلُّها، فهو رجل
يفتِّح الورود ثم يغيب في آخر الربيع، يعد
بالفجر ثم يمنح الأوجاع والجروح: رجلٌ/ يقضم النساء.../
تتقمَّصُ أصابعُه فأسًا/ يلوِّح للشجرة. تقدِّم جاكلين سلام
في مجموعتها الأولى هذه، على غرار الرسوم
التشكيلية التي تنتمي إلى نوع من "السذاجة"،
قصائد مولعةً بـ"بساطات" بديهية تثبت
صدق الشهادة والاعتراف – وإن تكن تلوِّح
أحيانًا بيدها إلى أولية الهَجْس الشعري
وتوقه إلى مزيد من النضج. ولكم كان في إمكانها
أن تعيد استثمار التربة – تربة القصائد –
وقَلْبَها من جديد، وإنقاذها من "عفويتها"،
هنا حيث تضج الصفحات بفحيح القسوة والمرارة
والتمرُّد، وهناك حيث يخفق نبض الأنوثة
المستلذة بخفوتها البليغ. ولو فعلتْ ذلك في
تجاربها المقبلة فسوف تهبنا صيفًا شعريًّا
ناضجًا على نزق، ظليلاً على دكنة، وسوف
تمكِّن نفسها من أن تجاهر بشعرية تعد بالأفضل
والأغنى والأعمق. *** *** *** عن
النهار، الجمعة 23 أيار 2003 * صدرت
لدى "دار الكنوز الأدبية"، بيروت، 2002.
|
|
|