|
حياة البوذا أن تكون واضحًا كالمرآة، وتسير
وحيدًا إلى الأمام يعيش العالم اليوم في عصر حوار الحضارات؛
والدين هو العنصر الدينامي في كلِّ حضارة.
وعليه، فلا يمكن فهم أية حضارة إلا من خلال
فهم ديانتها. ونحن نكاد لا نعرف شيئًا عن
البوذية، التي تمكَّنتْ من الانتشار السِّلمي،
لتصير ثاني الأديان الكبرى انتشارًا في
العالم.
وكتاب حياة
البوذا*
من تأليف مفكر بوذي من اليابان، أكثر الدول
اعتناقًا للبوذية. وهو يرى أن البوذا
شاكياموني إنسان حقيقي ذو شخصية تاريخية، وصل
إلى التنوُّر بجهوده، وأراد للبشر أن يصلوا
بجهودهم إلى ما وصل إليه. ويُطلَق لقب بوذا
على مؤسِّس البوذية، وهي كلمة تعني "المتنوِّر"؛
ويُطلَق عليه أيضًا لقب شاكياموني، أي
حكيم آل شاكيا. وهناك كثيرون وصلوا إلى
التنوُّر، قبل البوذا وبعده؛ ويُطلَق عليهم
لقب بوذا نفسه. وحالة البوذا ليست أمرًا
خارج الإنسان، بل هي كامنة في كلِّ إنسان.
وتعلِّم البوذية الناس جميعًا معرفة الطريق
إلى التيقُّظ على البوذوية الكامنة في كلِّ
إنسان وتحويلها من الوجود بالقوة إلى الوجود
بالفعل. كان
شاكياموني إنسانًا جادًّا دؤوبًا، عاش قبل
خمسة وعشرين قرنًا في الهند الشمالية الوسطى.
وقد اكتشف طبيعة الـدهرما، أو "القانون"،
أي المبادئ الخالدة للحقيقة التي تتجاوز
المكان والزمان. كان مفكرًا ذا أبعاد هائلة،
واصل جهوده من أجل الناس في العصور اللاحقة
لاكتشاف مصدر الإبداع وتحرير الوجود
الإنساني من كلِّ العوائق. ومن
المقبول أن "شاكياموني" كان ابن حاكم
مملكة صغيرة، تتزعمها قبيلة شاكيا – وهو
الاسم الذي يُعرَف به عادة في اليابان. بينما
كان يدعى في الهند الـ"بوذا" – ومنه
اشتُقَّ مصطلح "بوذية". وقد عَنِيَ أبوه
عناية خاصة بتزويده بما هو مناسب في التربية
البدنية، فضلاً عن التربية العقلية
والأخلاقية: كان يعلن أن ملابسه الداخلية
وثيابه الأخرى كلَّها مصنوعة من الحرير، وأن
مظلة واقية من الشمس كانت تُوقَف فوق رأسه
طوال النهار؛ وكانت لديه ثلاثة أمكنة، أحدها
للشتاء وآخر للصيف والثالث لموسم المطر؛
وكانت تحيط به الوصيفات والراقصات
والموسيقيون لخدمته وتسليته. وهذا يعطي دلالة
على العناية والبذخ اللذين رَبِيَ فيهما
الأمير الشاب. وقد تزوج في السادسة عشرة،
وأنجب طفلاً واحدًا سمَّاه راهولا، أصبح فيما
بعد واحدًا من تلامذة البوذا العشرة
الرئيسيين. وفي
التاسعة عشرة من عمره تخلَّى عن ولاية العهد
وعن حياته العائلية، وخرج إلى العالم بحثًا
عن التنوُّر. وبعد أن درس على أيدي حكيمين
برهمانيين، لم تروِ تعاليمُهما ظمأه،
غادرهما ليمارس أعمال التقشُّف الديني على
طريقته. وأخيرًا اقتعد مكانًا أسفل شجرة تين
هندي في غابة واستغرق في تأمل عميق. وهناك وصل
إلى التنوُّر – وكان في الثلاثين من عمره.
لقد
تفكَّر شاكياموني في ماهية الحياة، وحاول، من
خلال فكره المتوقِّد، أن يكتشف الأجوبة عن
الأسئلة التي ملأتْ ذهنه، والتي تدور حول
مشكلات الولادة، الشيخوخة، المرض، الموت،
والآلام المرتبطة بالوجود الحقيقي للإنسان:
من هو الإنسان؟ ما الحياة؟ تقدم
السيرة البطولية وصفًا شديد التأثير
والإثارة لرحيل شاكياموني عن القصر والطريقة
التي دبَّرها للهروب من المدينة. فقد امتطى
صهوة جواده المطهَّم، يصحبه خادمُه الشخصي،
واتخذ سبيله إلى خارج المدينة، وسافر جنوبًا
عبر نهر أنوما. ثم قصَّ شعره، وأزال كلَّ
مجوهراته وحليِّه وأعطاها إلى خادمه، وأعاده
إلى المدينة مع رسالة إلى أبيه مفادها أنه لن
يعود إلى المدينة حتى يحقق الغاية التي من
أجلها دخل في الحياة الدينية ويصل إلى
التنوُّر. وفي
هذه المرحلة سافر وحيدًا، مرتديًا زيَّ
متسوِّل ديني، متخذًا طريقه جنوبًا إلى
راجاغَها، عاصمة دولة مَغَدْها. وقد جال حول
المدينة وضواحيها، ملاحظًا طُرُقَ الحياة
التي يمارسها الزهَّاد والزعماء الدينيون
الذين يتجمعون فيها. وقد قابله ملك المدينة
وعرض عليه الثروة وإمرة الجيوش، لكنه أجاب
بأن الرغبات الدنيوية توقِع الإنسان في
الأشراك، ولا يمكن له أن يجد الراحة
والطمأنينة إلا عندما يتحرر منها، وبأنه لا
يرغب في شيء سوى البحث عن الحقيقة. درس
شاكياموني اليوغا، ولاسيما فن التأمل عند
أستاذين. وبعد أن تضلَّع من تقنياتهما تركهما.
ثم بعد ممارسة أقسى عمليات قهر الجسد، تخلَّى
عن تلك الممارسات أيضًا، واتخذ سبيله إلى
البحث عن الحكمة العليا، لأن البوذية ليست
تعليمًا يؤيد الزهد المتطرف، ولا هي مجرد
فلسفة تأملية ومثالية؛ إنها ديانة ما يسمى
"السبيل الوسط": على السائح الديني أن
يتجنب كلا التطرف في السعي وراء الرغائب
والانغماس في اللذة الحسية والتطرف في السعي
وراء الشدة وتعذيب النفس. أما "السبيل
الوسط" فإنه يُحدِث صفاء الرؤية
والتبصُّر، ويثمر عن الحكمة، ويفضي إلى
الهدوء واليقظة والتنوُّر والـنرفانا
("انطفاء" الأنا الفردية). كانت
الخطوة التالية تتمركز حول استعادة قوته؛ فقد
أتلفها الحرمان الشديد. نزل شاكياموني إلى
نهر نيرنجنا، واستحمَّ ليحصل على التطهُّر
الروحي والجسدي. ثم قطع صيامه الطويل،
فاستعاد قوته وحيويته، وامتلأ بنشاط جديد،
وسرعان ما وصل إلى التنوُّر. وكان ذلك في قرية
غايا، تحت شجرة التين الهندي، على حصير من
القش مبسوط في ظلِّ الشجرة، متخذًا جلسة
القرفصاء التي توفر إحساسًا كبيرًا بالثبات
والاستقرار، وتضمن أن تبقى اليدان والقدمان
تحت السيطرة وألا يضل الذهن، وهي تملأ
الشيطان مارا بالخوف. إن الشياطين
منتشرون في الكون بأسره، ولكنهم أساسًا يكمنون
في أذهان الناس؛ ولا يمكن لنا أن نقاتلهم
ونقضي عليهم إلا عندما نفهمهم في صورتهم
الحقيقية داخل أذهاننا. وقد ظهر الشيطان مارا
لشاكياموني بعد التنوُّر، عندما كان يفكِّر
في مسألة هل عليه أن يعظ العالم بهذه الطريقة
المكتشَفة حديثًا التي اكتسبها. وفي تلك
المرحلة ظهر مارا ليهاجمه بالشكوك بعنف.
لحظتئذٍ ناشد الإله براهما شاكياموني أن يعظ
بالـدهرما كرامةً للبشر. بعد
أن هزم شاكياموني مارا وصل إلى التنوُّر
عندما بدأ ظلام الليل يفسح المجال لأول ضوء في
الفجر: اندمجت حالة البوذوية الموجودة في
الكون وحالة البوذوية المتأصِّلة في حياة
شاكياموني في مشاركة متناغمة وازهرار. وهي
حالة ليست وقفًا على حال شاكياموني؛ إذ يبدو
أن يسوع المسيح كانت له خبرة مشابهة. ومن
المحتمل أن كثيرًا من المفكرين العظام أو
العباقرة خبروا التنوُّر من نوع أو آخر. إن
أيَّ شخص عبقري يفهم بعض المبادئ أو يقوم
باكتشاف أصيل ما، من خلال تأملاته أو
ملاحظاته للظواهر الطبيعية، يمكن أن يقال إنه
يصل إلى التنوُّر الذاتي. أما التنور الذي
أحرزه شاكياموني فهو من أرفع مستوى لأنه الحالة
الحياتية الوحيدة التي يمكن أن تغيِّر مصير
الفرد وتتيح له مستقبلاً غير محدود. وعليه،
فإن شاكياموني كان ملتزمًا به التزامًا
كليًّا بقية حياته. وقد
اجتاز مراحل بعد
وصول شاكياموني إلى التنوُّر، نذر السنوات
الباقية من عمره للوعظ بالـدهرما أو
القانون، مقدمًا بذلك ديانة جديدة إلى العالم.
ويمكن القول إن هذا الاتجاه هو ما تسميه الكتب
المقدسة بـابتهال البراهما. وبعد أن رسم
شاكياموني الأسُس لتنظيم ديني جديد، أمر
أتباعه أن يرحلوا فرادى إلى مناطق متعددة
ليعظوا بالقانون الجديد وينشروا تعاليمه من
أجل العالم وسعادته. ذلك لأن البوذية ليست
مجرَّد نظام فلسفي، ولا هي ديانة لأولئك
الذين يريدون أن يمضوا وقتهم في عالم التأمل
الهادئ؛ إنها ديانة تعلِّم المرء أن يجعل
رسالة حياته نَشْرَ المعرفة بذلك الطريق،
حالما يجده ويفهمه، ثم يعمد إلى إيصال هذه
المعرفة إلى كلِّ الكائنات القادرة على الحس.
وهذه الممارسات النشيطة للإيمان تشكِّل
عَصَبَ الديانة البوذية، منذ زمن شاكياموني
حتى اليوم. إن
البوذية تنشد الاعتماد على الآخرين، ولا
تنتظر مساعدتهم. وعلى المرء أن ينشئ في داخله
فهمًا سليمًا، متألقًا وواضحًا كالمرآة، وأن
يسير إلى الأمام وحيدًا، برفقة فهمه
السليم. *** *** *** * دايساكو إكيدا، حياة
البوذا: سيرة مفسَّرة، بترجمة محمود منقذ
الهاشمي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 2003.
|
|
|