الجدار
حسن شوتام
الومضة الأولى
(الركح شبه مظلم وفارغ تمامًا.. موسيقى تنبئ بخطر.. نسمع صدى انهيار أو
سقوط أشياء.. يدخل رجل خمسيني وكأنه دُفع دفعًا إلى وسط الخشبة..
تُسلَّط عليه دائرة ضوء).
-
أستميحكم عذرًا؛ سيداتٍ وسادةً وطبعًا جميع نظَّارَة هذه الومضة
المسرحية (ينفض ثيابه الأنيقة والبادية النقاوة) لا تندهشوا من هذه
الحركات فأنا أدرى بالدائرة التي خرجت منها لحظات قليلة بعد السقوط..
أو بالأحرى بعد السقوط المتكرِّر.. تفاديًا لأي لُبْس أقول سقوطي
المتكرِّر. (يخفض رأسه) في الواقع؛ أنا رجل بائس، كريه.. تحت بذلتي
المكوِيَّة تـرقد ثنايا من الخيبـات، وخلف سمْــتي المعـهود تتــلاطم
أمواج من الرغــبات. تعبــتُ من الــوجـوه المزدحمـة في داخــــلي
وتدافعها المستمر للظهور في المناسبات. فقررت أيها السادة والسيدات
وطبعًا الأفاضل نظَّارة هذه الوقفة الاستثنائية.. أجل قرَّرت أن أقف
تحت بقعة ضوء كاشفة.. بقعة ضوء واحدة تحصرني كي لا أسيح كالزَّبد
وألطِّخ من يُصافحني أو يعانقني أو حتى يصطدم بي عن غير قصد في ممرٍّ
ضيق أو لقاء عابر.
(إظـــــــــلام)
الومضة الثانية
(الرجل دائمًا تحت دائرة الضوء لكن هذه المرَّة نراه جالسًا على كرسي)
-
بهكذا تبريرات يا رأسي لن تُشفى! ثملاً كنتَ أو مُجهدًا أو حتى حاملاً
لذاكرة مشوَّهة؛ لا يُعطيك الحق في دغدغة مشاعري ومكامن ضعفي! لا يعطيك
الحق في توجـيه حواسي وقيـــادة جسدي بالكـامل، مُستعينًا بكل صفاقة
بِيَدَيَّ ورِجْلَيَّ في قفزة حُرَّة وبدون مظلة! أيُّ مصير كان
سيتلقَّفني لو لم يكن هناك.. في الوقت والمكان المناسبين؟ تُحب تجريب
كلِّ شيء؟ جرِّب مرَّة أن تستحيل عضوًا آخر غير ما أنت عليه لتُقدِّر
مركزك المرموق بين كتفين.. قَدَمًا مثلاً تتعثَّر بعتبة الحانات وتمتلئ
في غفلة منك من مياه حفر الطرقات العكرة الباردة.. وما أعجبك يا رأسي
عندما تسير بغير هُدى لا تلوي على شيء؛ تُسلِمُ ساقيك الواهنتين
للمجهول فتنتهي بهما إلى مزبلة؛ وهناك تلعن الدنيا وما فيها وتضرب
بقدمك علب السردين والقوارير.. تضرب بقدمك البريئة كل شيء وتكسِّر بها
كلَّ شيء وأنت لعمري الجدير بالضرب والكسر بل القطع القطع القطع!
(إظـــــــــلام)
الومضة الثالثة
(الرجل.. الكرسي وأعلاه حبل مشدود)
-
سأريح قَدَمَيَّ ويَدَيَّ منك.. أريح العالم منك لأنك كريه، مُلوَّث
الذهن، مُشَوَّش التفكير، رجل أثيم، خطير يستحق الموت! بيدين تعوَّدتا
الإشارة والإدانة والخيانة بتوجيه منك، ستكون نهايتك.. (يرفعهما أمامه
ويخاطبهما) أخيرًا ستنعمان بالسكينة ولن تتلطَّخا بعد الآن بدماء
بريئة.. ولأول مرَّة ستختبران رعشة جديدة؛ أنتما اللتان لم تعرفا يومًا
وجه الخوف! (يخاطب رجليه) ولَكُما أيضًا يا قَدَماي المسلوبتا الإرادة
نصيب من الـراحة.. لن تسعيا بعد اليوم في طلب حاجات الجسد والنفس.. ولن
تضطركما حماقات الرأس للهرب والقفز على الحواجز.. هنيئًا لكما بلعبة
التدلِّي من الحبل؛ أنتما اللتان تصلَّبتما لسنوات عديدة تحت طائِلة
الحِمل! طوباك أيها الجسد بحق تقرير مصيرك.. فعلتَ حسنًا إذ اخترتَ
الانفصال عن رأسك.. ستستقبلك مساحة واضحة الحدود ولن تهتم فيما بعد
بمشاريع التهيئة والتَّوسعة، أو تُغوى بإيعاز من هذا البغيض (يشير إلى
رأسه) بفكرة ضمٍّ أو إلحاقٍ عدوانيٍّ سافِر.
(يتجه ناحية الكرسي ثم يرتقيه مُديرًا ظهره للجمهور)
-
سلام لكما يداي.. سلام لكما قدماي.. سلام لك جسدي.. (في التفاتة أخيرة
يخاطبهم) سلام لكم أيها الأفاضل وطبعًا جميع شهود هذه اللحظة
الختامية.. سلام.. سلام.. سلام..
(موسيقى تُنبئ بالخطر.. يتهيأ لإعدام نفسه وعلى حين غِرَّة ينزل جدار
فاصل من أعلى إلى أسفل؛ يحول بينه وبين الحبل.. من هول المفاجأة يسقط
الرجل، ومن وسط عتمة المسرح يخرج شاب متين البنية واثق الخطوة يتقدم
لمساعدة الرجل على الوقوف)
الرجل: كيف عرفت مكاني يا هذا؟
الشاب: (يساعده على الوقوف ويبتسم) لستُ "هذا" الغريب عنك!
الرجل: لا تُحاول إقناعي بذات الفكرة..
الشاب: لست فكرة يا صديقي، أنا حقيقتك التي تنكرها في كل مرَّة!
الرجل: حقيقتي عاينتَها غير ما مرَّة.. ليتك تتركني وشأني وتكفُّ عن
ظهورك المفاجئ ووقوفك بيني وبين الباب الذي صنعتُه لخلاصي!
الشاب: يا رجل.. الجدار العازل الذي شيَّدتَه أصلب من أن يُشقَّ فيه أي
باب آخر للنجاة أو الهلاك..
الرجل: (في سخرية) أنا؟ أبني جدارًا فاصلاً بيني و بين باب أراه السبيل
الوحيد للخلاص؟ كيف؟
الشاب: اعترافاتك تفعل ذلك!
الرجل: أوليس الاعتراف سيد الأدلَّة وما أستحقه كجانٍ هو العقاب؟
الشاب: والاعتراف بالخطأ فضيلة وما تستحقه هو الرحمة!
الرجل: أنت والجدار سِيَّان؛ لا تتركان لي أبدًا منفذًا للهروب..
الشاب: أنا هو ذاك الجدار بقوته وعدله ورحمته.. أنبثق من حرارة
اعترافك، وأنتصب أمامك لتسند رأسك عليّ وتسترسل في فضيلة الإقرار!
الرجل: (يجثو على ركبتيه ورأسه بين يديه.. يصرخ) سئمت يا من تُسمي نفسك
الجدار من دوراني المستديم في ذات الحلقة. فهلا كشفت لي أبعاد وشكل هذا
السقوط!
الشاب: لا لون ولا شكل ولا طعم له في ذاته.. هو يأخذ شكل أفكارك فخططك
ثم تصرفاتك التي في النهاية تعطيك شكل وأبعاد سقوطك.. وطبعًا أنت أوَّل
من يتعرَّف لونه ورائحته وطعمه..
الرجل: (في سخرية) لا فرق إذن بينك وبين باقي الجدران.. تُردِّد صدى
أسئلتي فحسب!
الشاب: إن أرهفت سمعك إلى صدايَ تُجيبك نفسك بقدر دقَّة وصواب سؤالك..
الرجل: (غاضبًا) هل تقصد تخطئة أسئلتي؟
الشاب: بل أشجعك على المحاولة فالمحاولة حتى تجد السؤال الأرجح!
(يبدأ الرجل في التفكير وفي ذات اللحظة وبهدوء يختفي الشاب في العتمة
وينسحب من المشهد.. الجدار أيضا يُعتِّم أو يُرفع مع الحبل. بعد هنيهة
يشرق وجه الرجل ويلتفت)
الرجل: أيها الجدار أين أنت؟ لماذا اختفيت؟ لقد صُغتُ سؤالاً آخر
وأحتاج رأيك فيه.. أيها الجدار.. ماذا قبل السقوط؟ ماذا قبل السقوط؟
ماذا قبل السقوط؟
(يردِّد الرجل سؤاله ثم يخرج باحثًا عن الجدار)
(إظلام تام وختام)
يونيو 2016
*** *** ***