علم الطبيعة في الفلسفة العربية
معاذ قنبر
لقد
تبنى الفلاسفة العرب إجمالاً مع بعض الاستثناء (الغزالي) ما ورثوه عن
الفلاسفة اليونان، فاقتصرت أعمالهم إجمالاً على الوصف الكلامي الشبيه
بالفلسفة مع بعض اللمحات بين الحين والآخر.
ولا يوجد أدنى شك بأن الفلسفة العربية بنظرتها إلى المادة إجمالاً كانت
فلسفة ذات طابع عقلي استنتاجي كتصورات أغلب الفلاسفة اليونان، فمعظم
الفلاسفة العرب يعتقدون بأن العقل قادر على إدراك الحقيقة كما أن
معظمهم إن لم يكن كلهم يؤمنون بوحدة المعرفة والحقيقة، أو يقولون
بمطابقة الوجود بالعقل مع الموجود بالحواس، وإن كان هناك من اختلاف عن
تصورات الفلاسفة اليونان فإنما يظهر في غاية يقينهم المادي ومصدره،
فالفيلسوف اليوناني نظر للعالم المادي نظرة فنية جمالية، على حين نجد
أن الفيلسوف العربي الإسلامي نظر للعالم نظرة يغلب عليها الطابع الديني
إجمالاً، كما يمكن القول إن الفكر المنهجي العلمي لدى الفلاسفة العرب
المسلمين تميز بتتبعه الجزئي للمنهج الاستقرائي التجريبي على عكس الفكر
الفلسفي اليوناني الذي رفض التجريب الفعلي للوقائع الطبيعية، هذا على
الرغم من أن استخدام المفكرين الإسلاميين العرب للطريقة التجريبية
وتطويرها لم يعدّ لديهم إلا إجراء عمليًا جزئيًا قياسًا إلى الصيغة
الكلية للكون التي ظلت وبتأثير من الفلاسفة اليونان ذات طابع روحاني أو
تصوري عقلي،
مضاف إليه القولبة الدينية في تفسير مجمل الظواهر الطبيعية في الكون.
وهذا ما سنحاول تتبعه باستعراضنا آراء أهم الفلاسفة العرب ونظرتهم
للعلوم الطبيعية بشكل عام.
المعتزلة
تاريخيًا نجد أن أول من تناول الطبيعة والمعرفة العلمية تناولاً
فلسفيًا هم فرقة المعتزلة الذين أكدوا على اعتبار العقل مقياس الحقيقة،
وأن الشك ضروري للوصول إلى اليقين، وقد أقر المعتزلة بمبدأ الحتمية
الطبيعية الذي يستند على مبدأ العلية، وعلة الشيء هي أساس كونه لأن
احتياجه إلى غيره أمر ضروري ولكل ظاهرة علَّة توجب وقوعها، كما أن لكل
علة معلول ينشأ عنها، والقوانين الطبيعية ثابتة لا تتغير وهي تتحكم
بظواهر الطبيعة، وهي ما نشير إليه بتلك الحتميات الموجودة في الأجسام
الطبيعية، حيث يرى النظَّام وهو من أهم ممثلي المعتزلة أن في الأجسام
قوانين ثابتة وطباعًا معينة قُهرت عليها قهرًا ودُبرت تدبيرًا معينًا
وهو نفس ما ذهب إليه الجاحظ الذي يعتبر من أقطاب هذا المذهب، ولكن مع
تسليم المعتزلة بالحتمية الطبيعية فإنهم سلموا كذلك بوجود سببية مفارقة
للطبيعة هي السببية الإلهية المسئولة عن فعل خلق العالم وترتيبه هذا
الترتيب المنظم، وبالتالي نجد أن الحتمية التي تحدث عنها المعتزلة ليست
كحتمية الفلاسفة الطبيعيين، بل هي أقرب لحتمية ميتافيزيقية تُرجع
القوانين الطبيعية لقوة خارجة عنها هي القوة الإلهية،
وقد أدى بهم هذا الأمر إلى إنكار مفهوم المصادفة والاتفاق في الطبيعة،
فكل سبب له مسبب وإذا كانت بعض الأشياء تظهر لنا وكأنها وليدة مصادفة
غامضة فهي في الحقيقة تكون مسببات لأسباب مجهولة عنَّا، وبنمو العلم
والمعرفة عند البشر نستطيع اكتشاف تلك الأسباب المجهولة والعلاقة بينها
وبين المسببات، وبالتالي لا وجود موضوعي للمصادفات وكل شيء في الكون
يسير بعلل وأسباب تدل على الحكمة الإلهية في الأفعال.
والمعتزلة إجمالاً لم يكونوا من أنصار المذهب الحسي في المعارف،
فالحواس عندهم تنقل إلينا الأشياء على ما هي عليه دون الحكم عليها، وهي
لا تتناول كون الشيء صحيحًا أو فاسدًا،
لأن الحكم بهذا المعنى هو من وظيفة الإدراك العقلي، وبالتالي فإن
التأثير الحسي على الحواس لا ينتج معرفة، بل يصدر عنه إدراك هو طريق
المعرفة.
الكندي
أما الكندي (801 - 872 م) فيرى بأن الطبيعة التي هي قانون الحركة في
العالم مجعولة لله بوصفها علة وسببًا لجميع الأشياء المتحركة حيث يقول:
اعلم أن علم الأشياء الطبيعية إنما هو علم الأشياء المتحركة لأن
الطبيعة هي الشيء الذي جعله الله علة وسبب لجميع المتحركات والساكنات
عن حركة.
ومعرفة حقيقة الأشياء يقتضي العلم بالعلل الأربع الموجودة لها، وهذا هو
نفس تصور أرسطو للعلل المادية والصورية والفاعلية والغائية التي يسميها
الكندي بالعنصرية والصورية والفاعلة والمتممة، لهذا سميت ميتافيزيقا
أرسطو والكندي بعلم العلة الأولى على اعتبار أن العالم كله في مجموعه
وأجزائه معلول لعلة أخرى وليس وجوده في ذاته، والعالم وحدة لأن أجزائه
مترابطة، غير أن الوحدة فيه تحتاج إلى موحِّد أي إلى علة موحدة التي هي
العلة الأولى أو الله عند الكندي. لكن الكندي على خلاف أرسطو رفض القول
بأزلية العالم المادي وأكد حدوث العالم وخلقه من قبل الله، وعليه فقد
رفض بالتالي أزلية الزمان والمكان لأنه اعتبر أن الزمان كمية والكميات
لا يمكن أن يكون لها لانهاية بالفعل.
الفارابي
لقد أراد الفارابي (870-950 م) كما حاول بعده ابن سينا بناء نظام للكون
المادي يوفق بين مقتضيات العقل وبعض الضرورات الدينية، فالموجودات في
نظر الفارابي تؤلف سلسلة متصلة لأن الوجود عنده واحد، كما أن إبداع
العالم وحفظ وجوده شيء واحد، وليس العالم مظهرًا لوحدة الذات الإلهية
فقط، لكنه أيضًا في نظامه البديع مظهر للعدل الإلهي، وفي نظام كهذا
تصبح قضية العلاقة بين الواحد والكثير نقطة الانطلاق والدعامة الأولى
للبنيان الفلسفي للعالم،
حيث رفض الفارابي مفهوم المصادفة في الطبيعة مؤكدًا على المبدأ السببي
حيث يقول:
الشيء لا يُعدم بذاته وإلا لم يصح وجوده، والذي يتوهم في الحركة أنها
تُعدم بذاتها محال، فإن لعدمها سبب، فإذا بطلت الحركة الأولى تبع
بطلانها وجود حركة أخرى... فلا يوجد في الكون طبعًا حادثًا أو اختيارًا
حادثًا إلا عن سبب يرتقي إلى مُسبب الأسباب، ولا يجوز أن يكون الإنسان
مبتديًا فعلاً من الأفعال من غير استناد إلى أسباب خارجة.
والعلل والأسباب عند الفارابي إما أن تكون قريبة معلومة مدركة مضبوطة،
وإما بعيدة قد يتفق أن تكون مضبوطة معلومة أو مجهولة، وقد يحدث أن يجد
العالم أمور لها أسباب بعيدة جدًا فلا تُضبط لبعدها فيظن بتلك الأمور
أنها اتفاقية.
وقد تبنى الفارابي نظرية الفيض التي هي امتداد لفكرة الأفلاطونية
المحدثة لنشأة العالم، وخلاصتها أن الله يعقل ذاته، وتعقله لذاته علة
صدور العالم عنه، فهو إذًا لا يحتاج في صدور العالم عنه إلى شيء غير
ذاته ولا إلى عرض يطرأ عليه ولا إلى حركة لم تكن له ولا إلى آلة خارجة
عن ذاته، بل إن العالم يفيض عنه لذاته وبذاته ومنه يفيض عنه العقل
الأول (الموجود الثاني) حيث لا يصدر عن الواحد إلا الواحد.
وهو يتحدث عن نوعين من المعرفة: الأولى معرفة حسية تُعنى بدراسة
الجزئيات بصورتها المادية التي تخضع للمعقولات كالأين والمتى والوضع
والكم والكيف والفعل والانفعال، وهذا النوع من الإدراك يتم بالقوى
الحيوانية التي يشترك بها الإنسان مع الحيوان، ونحصل على هذا الإدراك
بواسطة الحواس، وكل حاسة موكلة بنوع من الأخبار، أما المعرفة الثانية
فهي المعرفة العقلية التي تختص بإدراك المعاني المجردة الكلية، ولا
يملكها سوى الإنسان وهي تتم بعقله النظري، ويتابع الفارابي النظرة
العقلية للفلاسفة اليونان معتبرًا الفكر الاستنتاجي العقلي هو أساس
لمعرفة العالم المادي مؤكدًا على أن الإدراك الحسي لا يطلعنا على طبائع
الأشياء، بل على خواصها ولوازمها وأعراضها وجزئياتها، وإذا شئنا أن
نطلع على طبائع الأشياء وجب علينا أن نذهب إلى ما وراء الإدراك الحسي
وبالتالي فإن معرفتنا المباشرة بالأشياء مقصورة على الظواهر ومتولدة من
الاختبار الحسي، أما معرفة الكليات والطبائع فلا تحصل لنا إلا بالعقل.
وفي هذا الصدد يقول:
الإنسان لا يعرف حقيقة الشيء البتة لأن مبدأ معرفته للأشياء هو الحس،
ثم يميز بالعقل بين المتشابهات والمتباينات، ويعرف حينئذ بالعقل بعض
لوازمه وذاتياته وخواصه، ويتدرج من ذلك إلى معرفة محملة عن محققة.
وعليه فإن الحواس عنده ليست إلا وسيلة من أجل الحصول على المعارف، وهو
يسلم بالمبدأ العقلاني الذي يتحدث عن وجود المعارف النظرية بالقوة
الفطرية وهو قريب مما ذهب إليه أفلاطون فيقول:
حصول المعارف للإنسان يكون من جهة الحواس وإدراكه للكليات من جهة
إحساسه بالجزئيات ونفسه عالمة بالقوة، فالطفل نفسه مستعدة لأن تحصل بها
الأوائل والمبادئ، وهي تحصل له من غير استعانة بالحواس، بل تحصل له من
غير قصد من حيث لا يشعر به، والسبب في حصولها له استعداده له، والحواس
هي الطرق التي تستفيد منها النفس الإنسانية المعارف.
ومن خلال هذا المنهج يتبنى الفارابي مثالية أفلاطون بشكلها المحدث
المسمى الأفلوطينية عندما يقسم الموجودات إلى درجات تبدأ بالعقل
المنفعل أو العقل بالقوة الذي يحتفظ بصور الموجودات أي ماهياتها دون
المادة، فهو يجرد الموجودات ليبقي على المعاني المجردة، فالعقل المنفعل
هو عبارة عن مادة مستعدة لقبول المعقولات ووظيفته أن ينتزع صور الأشياء
وماهياتها دون موادها حتى تصير فيه بالفعل فنفس الطفل مثلاً عالمة
بالقوة، فهو يدرك صور الأجسام بواسطة الحواس والمخيلة، ثم ينتقل بعد
ذلك إلى إدراك الكليات فتصير عالمة بالفعل، وهذا يؤكد مرة أخرى النظرة
العقلية للفارابي القائلة بفطرية المعارف، ثم ينتقل إلى العقل بالفعل
وهو الذي يكون بعد الحصول على صور الموجودات حيث تصبح الذات العاقلة
عقلاً بالفعل عندما اكتسبت ما لم يكن فيها، فالعقل بالفعل هو العقل بعد
إدراكه للمعقولات وبعد انتقاله من مرحلة القوة إلى مرحلة الفعل بواسطة
المعارف المكتسبة، فالعقل بالفعل هو فوق العقل المنفعل حيث تحصل فيه
المعقولات بالفعل، أي أن للمعقولات قبل أن تُعقل وجودًا بالقوة في
الأشياء المادية، ومتى انتزعها العقل عن الأشياء صارت معقولات بالفعل،
ويتم الانتقال من القوة إلى الفعل بواسطة العقل المُفارق الفعال الذي
يوزع النور على العقول الفردية كما الشمس التي تنشر النور لترى العين،
فنور العقل الفعال يدرك العقل، والعقل الفعال هو واهب الصور للموجودات
كلها في عالم تحت فلك القمر (العالم المادي)، ومن هنا يعتبر الفارابي
بأن المعرفة الإنسانية يقينية الصحة لأن المعرفة وصور الأشياء هي من
أصل واحد، وبعدها تأتي مرحلة العقل المُستفاد الذي اعتبره أرقى من
العقل المنفعل لأنه أصبح بعد أن عَقِل الموجودات أكثر ابتعادًا عن
المادة واقترابًا من العقل الفعال، فالعقل المُستفاد هو الذي يدرك
المعقولات المجردة والصور المفارقة، وبعد ذلك تأتي المعرفة الإشراقية
بعد أن يُستكمل عقل الإنسان بالمعقولات كلها حتى لا يخفى عنه شيء.
ويتحدث الفارابي عن الحركة الدائمة للأفلاك فلا يوجد في العالم المادي
سكون فيقول:
لا سكون البتة في شيء من الأجزاء السماوية فإن جميعها متحركة، والكواكب
أيضًا في ذاتها متحركة على مراكزها أنفسها في أفلاك تدويرها.
كما أنه يرفض فكرة وجود الخلاء فيقول بأن الخلاء لا وجود له وأنه لا
ابتداء زماني للحركة وانتهاء زماني لها، لذلك رفض فكرة الفلاسفة
اليونان الذريين القائلة بوجود جوهر لا يقبل التجزئة في المادة قائلاً:
لا تنتهي المقادير بقسمتها إلى جزء لا يتجزأ، ولا تركب الأجسام من مثل
هذه الأجزاء، وأنه لا يأتلف مما لا ينقسم جزء ولا حركة ولا زمان، ولا
اتصال إلا للحركات المستديرة.
ويضيف بأن الأفلاك كلها متناهية وليس وراءها جوهر ولا شيء ولا خلاء ولا
ملاء، والدليل على ذلك أنها موجودة بالفعل، وكل ما هو موجود بالفعل
متناه وإلا كان موجودًا بالقوة، وهذه الأجرام السماوية جميعها موجودة
بالفعل لا تحتمل زيادة واستكمالاً.
ويتابع الفارابي نظرة الفلاسفة اليونان بالحديث عن العناصر الأربعة
التي تكون العالم المادي والتي تسمى بالإسطقسات الأربعة فيقول بأن
الجسم البالغ في الحرارة بطبيعة هو النار، والبالغ بالبرودة بطبعه هو
الماء، والبالغ في الميعان هو الهواء، والبالغ بالجمود هو الأرض، وهذه
الأسطقسات الطبيعية هي أصول الكون والفساد.
ابن سينا
بالرغم من تأثر ابن سينا (980-1037 م) بالفلسفة الأرسطية وعلم الكلام
وترجمة السريان والأفلاطونية المحدثة إلا أنه استطاع أن يبني مذهبًا
فلسفيًا مكتمل المنهج والنماء.
يقول ابن سينا بأن العالم قديم بحسب الزمان أي أنه لا يوجد أول لزمانه،
لكنه ليس قديمًا بحسب الذات، إذ إن لذاته مبدأ يوجد به بينما القائم
بالذات فهو الذي لا علة لوجوده على عكس العالم الذي له علة هي الله،
ومن البراهين التي يقدمها قوله بأن الله تعالى إذا كان قد أحدث العالم
فهل كان لذلك الحدوث حدث؟ فإن كان له حدث ذهب ذلك إلى ما لا نهاية حيث
لكل حدوث حدث، فثبت من ذلك أن الحوادث قديمة في الأزل، أو لا يكون
للحدوث حدث فيكون الحدوث قديمًا فإذا ليس للعالم حدوث،
من ذلك نرى أنه تابع النظرة الدينية في توفيقه بين آراء فلاسفة اليونان
في قدم المادة، وتعاليم الدين الإسلامي بخلق العالم من العدم، فالزمان
لم يحدث حدوثًا زمانيًا، بل حدوث إبداع، لا يتقدمه مُحدثه في الزمان
والمدة، بل بالذات، فلا يوجد زمان قبل خلق الزمان، بل لم يكن قبله سوى
باريه فقط،
فيرى أن القانون مفروض على الطبيعة من قوة ميتافيزيقية عليا، أو من
الله حيث يرى بأن الطبيعة تقوم على نظام دقيق تتحكم فيه السببية
الموضوعية مؤكدًا بأن الأشياء التي نسميها اتفاقات هي واجبات عند الله
تعالى فإنه يعرف أسبابها وعللها، حيث يقول:
لا يصح أن يكون في الموجودات شيء لا ينتهي إلى طرف ولا شيء ينتهي إلى
علة غير معلولة.
كما يؤكد بأن جميع الأشياء الطبيعية في الكون تنساق إلى غاية وحيز، ولا
شيء يكون منها جزافًا ولا اتفاقًا إلا في النادر، وبالتالي فإن لها
ترتيب حكمي، وليس فيها شيء مُعطّل لا فائدة فيه، وليس يكون عن المبدأ
الأول المباين فيها فعل قسري، من هذا التصور السببي للعالم يؤكد ابن
سينا على وحدة العالم المادي وخضوعه لنظام وقانون شمولي واحد فيقول:
أن الأجسام المتشابهة الصور والنوى حيزها الطبيعي واحد وجهتها الطبيعية
واحدة، فيعني هذا أنه لا يكون أرضان في وسطين من عالمين، وناران في
أفقين محيطين في عالمين، فإنه ليس يوجد أرض بالطبع إلا في عالم واحد،
كذلك النار وسائر الأجرام، وبين من ذلك أنه لا يمكن أن يكون عالم آخر
غير هذا العالم، فالعالم واحد.
وهو يذهب مذهب الكندي والفارابي بالقول بامتناع تسلسل العلل إلى ما لا
نهاية ومن ثم فإنه من الضروري التسليم بوجود العلة الأولى أو المحرك
الأول، ويتابع النظرة الأفلاطونية المحدثة بنظرية الفيض، فعن الله فاض
العقل الأول الذي عَقِل نفسه فوجد عنه العقل الثاني وهو الفلك المحيط،
وعنه فاض العقل الثالث وهو فلك الكواكب الثابتة، ثم العقل الرابع وفلك
زحل، فالخامس وفلك المشتري، فالسادس وفلك المريخ، فالسابع وفلك الشمس،
فالثامن وفلك الزهرة، فالتاسع وفلك عطارد، ثم العاشر وفلك القمر وهو
العقل الفعَّال وعن فيضه جاء عالم ما تحت القمر الذي تقف فيه الأجرام
السماوية،
ومن ذلك يقوم بتقسيم الوجود إلى واجب بذاته وممكن بذاته لكنه واجب
بغيره، وبذلك يكون وفق بين القائلين بقدم العالم وحدوثه، فالعالم ممكن
بذاته ولكنه واجب بغيره لأنه كان في علم الله وما كان في علم الله لا
بد أن يكون، والعالم ليس حادثًا في زمان لأن الزمان وجد مع العالم،
تحرك العالم فوجد الزمان مع هذه الحركة، وإنما كان وجوبه لأنه وجد في
علم الله فأخرجه الله من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، فالعالم
بالتالي كما كان في إرادة الله قديم وكما كان بالحركة مسبوق بذات الله،
وهو سبق سرمدي لا يحده زمان، فالمحرك الأول هو علة الحركة، والحركة هي
علة الزمان، والزمان والفلك إذًا مخلوقات على السواء. بمعنى آخر يرى
ابن سينا بقدم المادة والحركة والزمان، فالعالم عنده قديم لقدم علته
التي هي الله واجب الوجود بذاته، وتقدم الله على العالم هو تقدم بالذات
لا بالزمان، ووجود الله يقتضي وجود العالم معه، حيث يقول:
كل ما يكون له أول وآخر فبينهما اختلاف مقداري أو عددي أو معنوي،
فالمقداري كالوقت والوقت، أو الطرف والطرف، والعددي كالواحد والعشرة،
والمعنوي كالجنس والنوع، والوجود لا أول له ولا آخر بذاته، وإن فرضنا
مبدأ لخلق العالم كما قالت المعتزلة لزم عنه محال، فإنهم يفرضون شيئًا
قبله وهذا الشيء يمكن فيه فرض وجود حركات مختلفة مع إمكان وقوع التقدير
فيها، ومكان وقوع التقدير فيها يكون مع وجود الزمان، ففرض إمكان وجود
الحركات المختلفة مع وجود الزمان، فيكون قبل الزمان زمان، فإذا كان
الزمان موجودًا كانت الأجسام موجودة، فالفلك ليس في الحركة بل مع
الحركة وليس في الزمان، بل مع الزمان.
فكل حادث يجب أن تسبقه حركة، فالحركة سرمدية، فيجب أن يكون ههنا متحرك
سرمدي هو الفلك.
فهو كفيلسوف لا يقتنع بإثبات قدم العالم كما أثبته أرسطو، ولا بإثبات
خلقه من لا شيء كما تحدث متكلموا الإسلام، بل أخذ ما أخذه الفارابي
قبله من نظرية الفيض، حيث يفيض العالم عن الله فيضًا ضروريًا كما هو
الأمر عند الأفلاطونية المحدثة.
وهو يقول بالحركة المطلقة في العالم المادي مؤكدًا بأن الفلك كامل في
كل شيء إلا بوضعه ومكانه، فيتدارك هذا النقصان فيه بالحركة، فحركة
الفلك هي كماله، والحركة فيه كالثبات في المكان الطبيعي للأجسام
المتحركة على الاستقامة، فلهذا تتحرك دومًا، وعليه لا سكون البتة عند
ابن سينا في شيء من الأجرام السماوية، فهي جميعًا متحركة والكواكب في
ذواتها أيضًا متحركة على مراكز نفسها في أفلاك تداويرها.
وهو يربط الحركة المكانية بالفاعلية الزمانية فيقول:
إن قال قائل إن الزمان معنى يوجده الله تعالى في الحركة وإن يشأ لم
يوجده، قيل له، هل يصح أن توجد حركة في مسافة ثم لا يكون لتلك الحركة
مقدار؟ فالزمان كونه من الكمية بذاته فإنه مقدار للحركة.
فالأجسام الفلكية يعمها جميعًا الجسمية والشكل المستدير والحركة على
الاستدارة وإن ما يقع عنها إنما يقع من طبيعة حركتها وقواها. والأجسام
عنده إما بسيطة وإما مركبة، والبسيطة هي التي لا تنقسم إلى أجسام
مختلفات الطبائع، كالسموات والأرض والماء والهواء والنار، والمركبة هي
التي تنحل إلى أجسام مختلفة الصور كالنبات والحيوان، والأجسام البسيطة
حارة وباردة ورطبة ويابسة، فإذا تركبت حصل من ذلك حار ويابس وهو النار
وجزءه الآخر هو الدخان، وحار ورطب وهو الهواء وهو حار متخلخل ينساب منه
الماء والبرد الذي في أسفله سببه مخالطته للبخار المائي قرب الأرض،
وبارد ورطب هو الماء، وبارد يابس هو الأرض حيث لا يوجد أيبس من الأرض
وبردها سببه تكاثفها وثقلها، ومكان الحار فوق مكان البارد، والبارد
اليابس أثقل من الحار اليابس، وهذه المكونات الكونية البسيطة هي
الأسطقسات وهي منفعلة بحسب تفعيل المؤثرات السماوية، والمؤثر الظاهر
فيها هو الشمس ثم القمر، أما تأثير الكواكب الأخرى فهو خفي، بذلك يمكن
القول إن ابن سينا تحدث عن مفهوم التأثير عن بعد وإن كان لم يقصد ذلك
بالمعنى الحرفي للقانون العلمي في صيغته الحديثة فيقول:
الشمس إذا أشرقت حَلَلَّت وصعَّدت، فالمتحلل الرطب بخار، والمتحلل
اليابس دخان، وإذا تصاعدا صعد اليابس وبقي الرطب فيرد في الحيز البارد
في الجو فيقطر مطرًا بعدما انعقد غيمًا أو ثلجًا إن جمد السحاب.
ومن هذا التصور المنطلق من تعاليم الفلسفة اليونانية مع نظرته الدينية
للعالم يعرض ابن سينا نظريته في خلق العالم المادي، فيرجع الكون بمجمله
إلى العناصر الأربعة المعروفة (الأرض – الهواء – النار – الماء)،
فالطبقة السفلى هي الأرض القريبة إلى البساطة، والطبقة الثانية الطين،
والثالثة بعضها ماء وبعضها طين جففته الشمس وهو البرُّ، ثم يحيط بالبر
والبحر الهواء البخاري وهو ذو طبقتين إحداها تطابق كرة الأرض، فتسخن من
شعاع الشمس المُسخن للأرض المُسخنة لما يجاورها، والثانية تبتعد عنها
فتستولي عليه الطبيعة التي من جوهر المائية وهو البرد، ولهذا تكون
أعالي الجبال ومواضع انعقاد السحاب أبرد، ثم فوق هاتين الطبقتين نجد
طبقة الهواء الذي هو أقرب إلى البساطة، وفوق طبقة الهواء نجد الهواء
الدخاني وذلك لأن الدخان أيبس وأسرع حركة وأشبه كيفية بالنار، فهو يعلو
البخار والهواء إن لم يبرد في الوسط فينزل ريحًا، وإلا علا وطفا فوق
الهواء، ويسير منتشرًا والأكثر يحترق شهبًا (حيث نجده يفسر مولد الشهب
على أساس أنه متولد من الأرض ولا يأتي من الفضاء الكوني) وفوق هذا كله
توجد الطبقة النارية، وجميع العناصر الأربعة بطبقاتها تكون طوع الأجرام
العالية الفلكية، والفلك وإن لم يكن حارًا ولا باردًا، فإنه قد تنبعث
منه في الأجسام السفلية حرارة وبرودة بقوى تفيض عنها.
وهو كعامة الفلاسفة العرب المتأثرين بالفكر الأرسطي يؤكد على قيمة
المعارف العقلية في فهم العالم المادي مع عدم إهماله لأهمية المعرفة
الحسية كمعرفة وسيطة لبلوغ الحقائق فيقول بأن الحس طريق إلى معرفة
الشيء لا علمه، وإنما يُعلم الشيء بالفكر والقوة العقلية، والنفس تعتقد
أن كل ما توجهه الشهادة والاستقراء والتجربة فهو حق، وقد لا يكون حقًا
بل يكون من الأوهام الكاذبة، والعقول الفعَّالة لا يكون لها وهم،
والإدراك إنما هو للنفس لا للحواس، لكن ليس للإنسان أن يدرك معقولية
الأشياء من دون وساطة محسوسها، وذلك لنقصان نفسه واحتياجه في إدراك
الصور المعقولة إلى توسط الصور المحسوسة،
كما يقول:
الفكر العقلي ينال الكليات متجردة، والحس والخيال تنال الجزئيات، فإن
الحس لا ينال الإنسان المقول على كثيرين وكذلك الخيال، أي ليس بإمكانها
تصور الكليات أو إدراكها إلا من خلال العقل، وعليه فإن الحس والخيال
أمورًا مُعاونة للعقل، فالحس يعرض على الخيال أمورًا مختلطة والخيال
يعرضها على العقل، ثم العقل يفعل فيها التمييز والتجزئة ويأخذ كل واحد
من المعاني مفردًا، ويرتب الأخص والأعم والذاتي والعرضي، فتُرتسم حينئذ
في العقل المعاني الأولى للمتصورات ثم يركب منها الحدود، أما من جهة
التصديق فقد يعين العقل الحس والخيال من طريق التجربة أو الحدس، وقد
يعينه الاستقراء.
وبذلك يستمر ابن سينا بتبني ما نسميه بالتصور الفلسفي الفطري للمعارف
الذي تبنته الفلسفة العقلانية فيقول بالمعارف الذاتية التي تستغني عن
التجربة، فالعقل يتعرف على العالم بغض النظر عن توسط الجسم والحس ويعبر
عن ذلك قائلاً:
إن القوة العقلية لو كانت تعقل بالآلة الجسمانية حتى يكون فعلها الخاص
إنما يتم باستعمال تلك الآلة الجسمانية، لكان يجب أن لا تعقل ذاتها ولا
تعقل الآلة ولا تعقل أنها عقلت، فإنه ليس بينها وبين ذاتها آلة، وليس
بينها وبين آلتها أو أنها عقلت آلة، لكنها تعقل ذاتها وآلتها التي تدعى
آلتها وأنها عقلت، فإذًا إنها تعقل بذاتها لا بآلة... كما أن اشتداد
المؤثر على الحس يضعفه وهو ليس كذلك في العقل، فالمبصر لضوء عظيم لا
يبصر بعده أو عقبه نور ضعيف، والسامع لصوت عظيم لا يسمع عقبه صوت ضعيف،
والأمر هو العكس في القوة العقلية فإن إدامتها للتعقل وتصورها للأمور
الأقوى يكسبها قوة وسهولة قبول لما بعدها مما هو أضعف منها، وإذا عانت
مللا أو كللا فذلك لاستعانتها بالخيال المستعمل للآلة التي تكل هي فلا
تخدم العقل.
ويرفض ابن سينا كما رفض سلفه الفارابي وجود فكرة الخلاء المطلق في
العالم المادي فيقول بأن المعدوم على الإطلاق لا في قوة يُقبل بها
الوجود من موجده، فلا يوجد البتة، والممكن ليس كذلك فإن فيه قوة ولذلك
يوجد ولولاها لما كان يوجد.
فالعدم عنده ليس لاشيء على الإطلاق، بل لاشيئية ما في شيء ما معين بحال
ما بعينه وهو كون الشيء بالقوة لا بالفعل.
كما يرفض أفكار المدرسة الذرية القائلة بوجود الجواهر المفردة غير
المنقسمة قائلاً أنه من المحال أن يكون تأليف الأجسام من أجزاء لا
تتجزأ، فقسمة الأجزاء لا تقف عند أجزاء لا تتجزأ، وليس يجب أن يكون
للجسم قبل التجزئة جزء إلا بالإمكان، ويجوز أن يكون في الإمكان أحوال
بلا نهاية، فإذًا الأجسام لا ينقطع إمكان انقسامها بالتوهم البتة، فأما
تزييدها فإلى حد تقف عنده، إذ لا نجد مادة غير متناهية ولا مكانًا غير
متناهي، ومكان الجسم ليس بُعدًا هو فيه، بل هو سطح ما يحويه الذي يليه
فهو فيه.
ولابن سينا فكرة طريفة تؤكد على مبدأ وحدة العلوم حيث يقول:
تعاون العلوم هو أن يؤخذ ما هو مسألة في علم مقدمة في علم آخر وهذا على
ثلاثة وجوه: أحدهما أن يكون أحد العلمين تحت الآخر فيستفيد العلم
السافل ميادينه من العالي مثل الموسيقى من العدد، والطب من العلم
الطبيعي، والعلوم كلها من الفلسفة الأولى، وإما أن يكون العلمان
متشاركان في الموضوع، كالطبيعي والنجمي في جرم الكل، فالأول ينظر في
جوهر الموضوع والثاني ينظر في عوارضه، فالناظر في جوهر الموضوع يفيد
الآخر بالمبادئ، كاستفادة المنجم من الطبيعي بأن الحركة الفلكية يجب أن
تكون مستديرة، وإما أن يكون العلمان مشتركان بالجنس وأحدهما ينظر للنوع
البسيط كالحساب والآخر بالنوع المركب كالهندسة، فالناظر في الأبسط يفيد
الآخر بمبادئ كما يفيد العدد الهندسة.
ولعلنا نستطيع أن نوضح تأثير الفكر الفلسفي الاستقرائي الأرسطي في
الفكر الفلسفي العربي عند كبار الفلاسفة العرب إذا ما استعرضنا بشكل
سريع الحوار التاريخي الذي دار بين ابن سينا وأحد أعظم علماء العصور
الوسطى الإسلاميين وهو البيروني الذي تبنى موقفًا منهجيًا معارضًا
لأرسطو وهو ما سوف نعرضه في السطور القادمة.
فيزياء أرسطو بين البيروني وابن سينا
من الملاحظ كما رأينا أن أراء أرسطو مع شروحها كانت شائعة عند الكثير
من فلاسفة العرب والمسلمين وهي ما يطلق عليه اسم الفلسفة المشائية التي
كان ابن سينا وقبله الفارابي وبعده ابن رشد من أبرز ممثليها، ولكن بنفس
الوقت ظهرت تيارات فكرية أخرى تناهض هذا الاتجاه معتمدة على ثقافتها
الواسعة واستقلال الفكر العلمي لديها وإذا ما استبعدنا الاتجاهات
الدينية نجد أن البيروني يعتبر من أبرز ممثلي هذا الاتجاه.
لم يكن الخلاف بين ابن سينا والبيروني إجمالاً إلا خلاف نابع من
المنطلق الفلسفي للنظر إلى العالم، وهذا الخلاف نابع من حياة ونظرة كل
منهما الإجمالية للعالم، فالبيروني كان يميل إلى الزهد بالمال والنساء
ويقترب من النظرة الفلسفية لكل من أفلاطون وأبيقور، أما ابن سينا فكان
شاب قوي لديه رغبة جامحة للملذات مع تبنيه الواضح للفكر الأرسطي
للوجود.
وهذا المزاج المندفع الفضولي لم يكن ليتلاءم مع التأمل العميق للعالم
الذي تمتع به عالم بحجم البيروني الذي انتقد وبشكل واضح آراء أرسطو
التي تبناها ابن سينا بمواضيع علمية على درجة كبيرة من الأهمية في ذلك
العصر، وعلى سبيل المثال نذكر أن البيروني قد خالف آراء أرسطو في
الحركة فقال بأن للجسم المتحرك مدافعة يدافع بها ما يعترض سبيل حركته،
وقد أطلق ابن سينا على هذه الحركة الميل القسري وهي أن الأجسام ذوات
ميول ثقيلة وخفيفة، الثقيلة تميل للأسفل والخفيفة إلى الأعلى، وكلما
ازدادت ميلاً كان قبولها للتحريك أبطأ، لذلك فإن نقل الحجر العظيم
الشديد الثقل ليس كنقل الحجر الصغير قليل الثقل، وبالتالي نجد أن تصور
ابن سينا للمكان قائم على أساس تصور الفكر الأرسطي الاستاتيكي للأجسام
حيث لم يستطع تصور التأثير في المكان دون ملامسة، فقال البيروني بأن
اليونان وصفوا الأثير ليس فيه مكان عاطل عن الفعل فوجب منه تماس الأكبر
المخصوصة بالكواكب، أي أن نهاية الكرة التي تحتاج الكواكب إليها في
حركاتها العليا ملاحقة نهاية الكواكب السفلى التي فوقها على خلاف ما
تأوي إليه، أما رأي الهنود من تباين الحركة فيما بينها إلى مواسك يصل
بعضها ببعض حتى تدور بالحركة الأولى معًا، فنرى البيروني إجمالاً يميل
للفيزياء الديناميكية الهندية أكثر من الفيزياء الساكنة عند اليونان
هذا على الرغم من اقتناعه بتصورات أرسطو ومن بعده بطليموس الراسخة في
علم الفلك بخصوص مركزية الأرض، فمع أنه تحدث عن إمكانية حركة الأرض
منطقيًا إلا أنه ظل مخلصًا لأراء بطليموس حتى النهاية.
وقد انتقد البيروني الأسباب التي تقدمها فيزياء أرسطو في إنكار أن يكون
للأجرام السماوية ثقل أو خفة، في حين يرى هو عكس ذلك، كما رفض فكرة
أرسطو التي تبناها الفارابي ومن بعده ابن سينا في الحركة المستديرة أو
الدائرية الطبيعية للفلك مؤكدًا بأن تلك الحركة ليست بالطبيعية بل تكون
بالقسر والإرادة، ومؤكدًا بأن الحركة الطبيعية للأجسام بالذات تكون
الحركة المستقيمة، حيث نجد التقاطع الواضح مع ما اكتشفته فيزياء
العطالة في العصور التالية مع غاليليو ثم نيوتن. كما أشار إلى حقيقة أن
سرعة الضوء هي أكبر سرعة ممكنة ولا يوجد أسرع منها، وعن انعدام الأثير
ووجود الخلاء قال البيروني: "إذا تقرر عندنا أن لا خلاء داخل العالم
ولا خارجه، فلمَ صارت الزجاجة إذا قلبت على الماء دخلها".
كما هاجم البيروني فكرة أرسطو في رفض الجزء الذي لا يتجزأ وهو الأمر
الذي تبناه ابن سينا وقد رد ابن سينا بأن أرسطو اعتبر المادة قابلة
للتجزئة إلى ما لا نهاية بالقوة لا بالفعل.
كما انتقد البيروني رفض المشائيين (أتباع أرسطو) لاحتمال وجود عوالم
أخرى مختلفة عن عالمنا الذي نعرفه، وبذلك يكون أول من تحدت عن عوالم
متعددة ضمن المنظور الفلسفي التأملي، فأكد بأن تلك العوالم لا نعرفها
لعدم استطاعة حواسنا الكشف عنها كالذي ولد أعمى فهو لا يستطيع أن يفهم
معنى الرؤية لو لم يسمع من الناس ذكر البصر، وابن سينا يقبل احتمال
وجود عوالم أخرى لكنه يدافع عن رأي أرسطو بأنه لا يمكن أن يوجد عالم
آخر مثل هذا العالم له العناصر والطبيعة نفسها.
ونجد خلال جدله مع ابن سينا يعرض البيروني عدة تساؤلات يسألها لابن
سينا نستنتج من خلالها مدى عمق التفكير الاستقرائي عند هذا الرجل مقابل
بعض الإخفاقات التي وقع بها ابن سينا الذي يحاول باستماتة الدفاع عن
التفسير الأرسطي للظواهر محافظًا على الإرث القديم في النظر إلى العالم
دون محاولة استبيان الوقائع التجريبية قبل الرياضية التي تؤكدها، وعلى
سبيل المثال يسأل البيروني عن طبيعة استحالات الأجسام، أي تحولها من
شكل إلى آخر، أهي تداخل أم امتزاج أم غير ذلك؟ كالماء مثلاً إذا تبخر
أيصير هواء أم تتفرق أجزائه حتى تغيب عن إدراك البصر، ويجيب ابن سينا
بالجواب الأرسطي المعهود وهو أن التغيير يتم بخلع الجسم صورته وملابسته
صورة أخرى وذلك عن طريق قبول الهيولى صورة ثانية.
ومن الأسئلة الطريفة التي طرحها البيروني تساؤله بأنه إذا كانت الأشياء
تنبسط أي تتمدد بالحرارة وتتقلص بالبرودة فلِم تتصدع القوارير إذا جمد
الماء فيها؟ ويجيب ابن سينا بأن الانقباض يستدعي خلاء ما، ولما كان
الخلاء محالاً انصدع الإناء، ونحن نعرف اليوم بأن الماء إذا جمد ازداد
حجمه وهذا يؤدي إلى تصدع الإناء، وقد اعترض البيروني على هذا الجواب
قائلاً أنه إذا كان سبب انصداع الإناء هو الخلاء للزم أن يكون الانصداع
نحو الداخل لا نحو الخارج كما هو الأمر في الواقع.
إخوان الصفا
وفي الإطار ذاته جاءت أراء إخوان الصفا، مع فارق عن ابن سينا هو أنهم
أنكروا قدم العالم، فالكون عندهم بمجمله محدث من الله، والكون عندهم
متحرك، فالفلك المحيط هو جسم كروي محيط بسائر الأشياء والأفلاك الأخرى
وهو ساكن في مقره لا ينتقل منه، لكنه كتحرك الأجزاء كلها، وكل فلك من
الأفلاك المستديرة والخارجة المركز يدور كل واحد حول مركزه الخاص ولو
وقف الفلك عن الدوران لوقفت الكواكب عن مسيرتها والبروج عن طلوعها
وغروبها وبطلت صورة العالم وقوامه.
فالعالم لا يمكن من هذا الاعتبار أن يكون أزليًا لأنه متحرك حركات
مختلفة باختلاف أجزائه، والمتحرك والمختلف الأحوال لا يكون قديمًا لأن
القديم الذي يكون على حالة واحدة لا يتغير ولا يستحيل ولا يحدث له حال.
لكنهم لم يخرجوا عن تصورات الفلاسفة العرب السابقين بالقول بنظرية
الفيض في خلق العالم المادي، كما انطلقوا من نظرية بطليموس القائلة بأن
الأرض مركز الكون وهي كروية وجسم ثابت لا يدور، وكل الأجسام السماوية
تدور حولها حيث تصوروا الأجرام السماوية كأفلاك تدور حول الأرض وهي
داخلة بعضها بجوف بعض كحلقات البصلة وأدناها إلينا هو فلك القمر وهو
محيط بالهواء من جميع الجهات، ومن وراءه فلك عطارد ثم فلك الزهرة ثم
فلك الشمس ثم فلك المريخ ثم فلك المشتري ثم فلك زحل ومن وراءه فلك
الكواكب الثابتة ومن ورائها الفلك المحيط، وكما أن الأرض مركز العالم
فإن الشمس هي في وسط العالم لأن فوقها خمس أفلاك (المريخ والمشتري وزحل
والكواكب الثابتة والفلك المحيط) ودونها خمس أفلاك (الزهرة وعطارد
والقمر والهواء والأرض)
والكواكب السيارة تدور حول الأرض مثلما تدور في البروج الاثني عشر
ودورة كل كوكب في هذه البروج يعبِّر عن سنة هذا الكوكب مثلما يعبِّر
دوران الشمس في البروج عن السنة الأرضية، ومن أجل اختلاف حركات الكواكب
في السرعة والإبطاء اختلفت أزمان أدوارها حول الأرض، وجسم العالم بأسره
كروي الشكل وحركات أفلاكه كلها دورية، والعالم المادي هو دون فلك القمر
وأول دائرة دون فلك القمر هي دائرة الأثير وهي كروية نارية حادثة من
تحرك فلك القمر وهي دائرية وردية متموجة مستديرة متحركة ينحط منها إلى
العالم قوى نارية، والنار التي في العالم هي منها، ويكون وصولها للعالم
بوصول نور الشمس وهي الحرارة وهي تقوى في الصيف وتضعف في الشتاء، ومن
تحتها توجد دائرة الزمهرير وهي كروية لونها أزرق وتحمر، وحدوثها من
الهواء والبخار الصاعد عن الأرض ومنها ينبعث إلى العالم ما يحدث في
الشتاء من البرد والثلوج والأمطار والرطوبة، ومن تحتها دائرة النسيم
وهي مستديرة ممتزجة ولونها بلون السماء تبيض بإشراق الشمس والقمر
والكواكب تضيء في النهار وتُظلم بالليل وهي معتدلة تبرد بالشتاء بتأثير
قوة الزمهرير وتحمى في الصيف بتأثير قوة الأثير، وبعد دائرة الهواء
هناك دائرة الماء وهي مستديرة تحيط بالأرض، وبعد دائرة الماء هناك
دائرة الأرض وهي التراب وهي مستديرة ولونها أسود كثيفة وجامدة وعليها
يكون سكن الآدميين.
كما أكد إخوان الصفا على وجود الامتلاء رافضين فكرة الخلاء أو الفراغ
في العالم حيث يقولون:
قد ظن قوم من أهل العلم أن بين فضاء الأفلاك وأطباق السماوات مواضع
فارغة وأن وراء الفلك المحيط جسم آخر وخلاء بلا نهاية، وكلا الحكمين لا
حقيقة له، لأن البرهان العقلي قد أثبت أن الخلاء غير موجود أصلاً لا
خارج العالم ولا داخله، لأن معنى الخلاء هو المكان الفارغ الذي لا
متمكن فيه، والمكان صفة من صفات الأجسام وهو عَرض ولا يقوم إلا بالجسم
ولا يوجد إلا معه.
الغزالي
يعتبر الغزالي (1059 - 1111 م) من أوائل من غير الطريقة المألوفة
للفلاسفة العرب في النظرة إلى المادة عندما أدخل الشك إلى المعارف
الحسية، وقد اتبع في تفكيره منهجًا مخالفًا لمنهج معظم الفلاسفة العرب
فبدلاً من يُسند المعرفة إلى العقل الذي سنرى كيف وجه له سلاح النقد،
راح يسندها إلى الإيمان ويبين بأن العقل لا يصلح كوسيلة للمعرفة ما لم
يقم على الإيمان، فالعلم الحقيقي عنده هو انكشاف لا اكتشاف أو استقراء.
والشك عنده بدأ بالمحسوسات قائلاً:
من أين تأتي الثقة بالمحسوسات، وأقواها حاسة البصر التي حين تنظر إلى
الظل فنراه واقفًا غير متحرك وتحكم بنفي الحركة، ثم بالتجربة والمشاهدة
بعد ساعة تعرف بأنه متحرك، وأنه لم يتحرك دفعة واحدة بغتة، بل على
التدريج ذرة ذرة حتى أنه لم تكن له حالة وقوف، وتنظر تلك الحاسة إلى
الكوكب فتراه صغيرًا ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض
بمقدار، هذه وأمثاله من المحسوسات يحكم فيه حاكم الحس بأحكامه، ويكذبه
حاكم العقل، فقلت: بطلت الثقة بالمحسوسات أيضًا.
ثم انتقل للشك بالعقليات قائلاً:
لعله لا ثقة إلا بالعقليات التي هي من الأوليات كقولنا بأن العشرة أكبر
من الثلاثة، وأن النفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد فتقول
المحسوسات: من أين تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات؟ كنت
واثقًا بي، فجاء حكم العقل فكذبني، ولولا حكم العقل لكنت تستمر على
تصديقي، لعل وراء إدراك العقل حاكمًا آخر إذا تجلى كذَّب العقل في حكمه
كما كذَّب العقل حكم الحس، وعدم تجلي ذلك الإدراك لا يعني استحالة ذلك.
وأهم المسائل التي يُخالف فيها الغزالي الفلاسفة هي مذهبهم بالحوادث
الضرورية، حيث عرفنا أن الفلاسفة العرب وبتأثر من أرسطو يرون أن
الاقتران المُشاهد في الوجود بين الأسباب والمسببات هو اقتران تلازم
بالضرورة، فليس في المقدور ولا بالإمكان إيجاد السبب دون مسبب، ولا
وجود للمسبب دون سبب، أما الغزالي فيرى خطورة هذه الفكرة الطبيعية
للعلية فيتجه نحو تراث الأشاعرة ليستمد منه مادة يصوغها صياغة كاملة في
إنكار العلاقة الضرورية اللازمة بين العلة والمعلول، حيث أنكر الغزالي
جدوى العلل بوصفها أسبابًا مؤثرة بالنسبة إلى النتائج والمسببات،
واعتبر بأن الأسباب ظواهر تفارق المسببات وليست هي علتها، بل ذهب إلى
أن اقتران السبب والمسبب ليس من الضرورة في شيء لكنه من قبيل العادة
التي تكونت عندنا من تكرار الملاحظة فيقول:
إن الاقتران بين ما يُعتقد بالعادة سببًا وما يُعتقد مسببًا ليس
ضروريًا عندنا، بل كل شيئين ليس هذا ولا ذلك هذا، ولا إتيان أحدهما
يتضمن إثبات الآخر، ولا نفيه يتضمن نفي الآخر، فليس من ضرورة وجود
أحدهما وجود الآخر ولا من ضرورة عدم وجود أحدهما عدم وجود الآخر.
لكن ما هو الحل من هذا المأزق، هنا نجد الغزالي يدخل النظرة الدينية
حيث يقول:
ثم شفى الله ذلك المرض فيَّ وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال ورجعت
الضروريات العقلية مقبولة موثوقًا بها على أمن ويقين، لم يكن ذلك بنظم
دليل وتركيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدور، ذلك النور هو
مفتاح أكثر المعارف.
وبذلك نفى الغزالي مبدأ السببية الطبيعي لصالح القانون المفروض من
الأعلى وبذلك عاد ليتابع نظرة الفلاسفة العرب السابقين بعد أن أنكر
مقدماتها فيقول: "يجب أن تعلم بأن الطبيعة مسخرَّة لله تعالى لا تعمل
بنفسها، بل هي مستعملة من جهة فاطرها"
فالقول بأن الله هو السبب الأول والوحيد لكل شيء هو الذي حمل الغزالي
على إنكار التلازم الضروري بين الأسباب والمسببات الطبيعية فيقول بأنه
لا يوجد في العالم إلا فعل واحد هو فعل الموجد المُريد، أما فعل
الطبيعة فلا حقيقة له، ففعل الاحتراق للقطن مثلاً ليس سببه النار بل
الله، فالنار هي جماد لا فعل لها ومن الممكن ألا تحرق القطن إذا أراد
الله ذلك، وبالتالي فإن الاقتران السببي بين النار والاحتراق هو اقتران
حصل عندنا بالعادة والمشاهدة التي لا تدل على حصول الاحتراق بالنار أو
الموت بجز الرقبة، بل تدل على حصول الاحتراق عند وجود النار وهذا لا
يسمح لنا باستنتاج هذا التعاقب الضروري، وهذا يعني إنكار السببية
الطبيعية إنكارًا تامًا، ولا يوجد في تاريخ الفلسفة العربية من هاجم
مبدأ السببية بهذا العنف كما فعل الغزالي، ويبدو أن الأسباب التي حملته
على إنكار هذا المبدأ ترجع إلى تصور ديني يقوم على ترك باب المعجزات
مفتوحًا، فهو لم ينكر فعل الطبيعة إلا ليعلق الأفعال والأسباب كلها
بإرادة الله،
ومن هنا نجده يفضل العلم الذي يحصل في القلب عن طريق الإلهام الصوفي
على العلم الذي يحصل بطريق الاستدلال والتعلُّم، وقد تحدث البعض عن
أسبقية الغزالي على هيوم في نقده للعلية، لكننا نرى مع فؤاد زكريا بأن
الغزالي كان ينتقد العلية لكي يدعم المفهوم الغائي للعالم في حين أن
هيوم ومن جاء بعده انتقدوا المبدأ العلِّي لكي يوسعوا من نطاق العقل
العلمي إلى مجالات أرحب، فالعقل عند الغزالي قادر على الوصول إلى
الحقيقة وهو جار مجرى قوة البصر بالعين، وإذا وقع في الشك استطاع أن
ينقذ نفسه منه بالتعرض للنفحات الإلهية ولولا ذلك لما خرج العقل من
الشك من ذلك نقول بأن الغزالي لم يكن على ثقة تامة بالعلوم الطبيعية
وكان أقرب إلى إنكارها لولا العناية الإلهية التي توصل إليها فيقول:
"أما الطبيعيات فالحق فيها مشوب بالباطل، والصواب فيها مشتبه بالخطأ،
فلا يمكن الحكم عليها بالغالب والمغلوب".
كما أنه يرد بعنف على القول بقدم العالم مؤكدًا على أن العالم المادي
له بداية ومن ثم فهو مخلوق من قدرة عليا فيرد على القائلين بقدم العالم
قائلاً:
بم تنكرون على خصومكم إذا قالوا، قدم العالم محال، لأنه يؤدي إلى إثبات
دوران الفلك لانهاية لأعدادها ولا حصر لأرصادها، مع أن لها سدسًا
وربعًا ونصفًا فإن فلك الشمس يدور في سنة وفلك زحل يدور في ثلاثين سنة
فتكون أدوار زحل ثلث عشر أدوار الشمس وأدوار المشتري نصف سدس أدوار
الشمس فإنه يدور في اثني عشر سنة ثم كما أنه لا نهاية لأعداد دورات
زحل، لا نهاية لدورات أعداد الشمس (بعبارة أخرى إذا كان العالم أزلي
لانهائي فإننا بالتالي لا نستطيع أن نحسب دورات الأجرام التي يجب أن
تكون لامتناهية كذلك وبما أننا نستطيع ذلك فالعالم إذًا محدود في
الزمان) مع أنه ثلث عشرة، بل لانهاية لأدوار الحركة المشرقية التي
للشمس في اليوم والليلة مرة، (كان حتى ذلك العصر لا يزال التصور أن
الأرض مركز الكون والأجرام تدور حولها هو السائد) وعليه إذا كان العالم
لا نهائي فكيف تكون حركات أجزائه متناهية.
ويؤكد الغزالي بأن ليس قبل خلق العالم خلاء أو ملاء إلا بالتوهم الذي
استنبطه العقل الفلسفي على اعتبار أن الوهم يعجز عن فهم وجود مبتدأ إلا
مع تقدير قبل له، كما يعجز الوهم عن أن يقدر تناهي الأجسام فيما يلي
الرأس مثلاً إلا على سطح له فوق متناسيًا أن الفوق والقبل هما مخلوقان
مع خلق العالم،
وهذه الفكرة ليست إلا امتداد للفكر النسبي الذي تبناه خلال انتقاده
لوجود العلة الحتمية في العالم وبذلك يكون عبر بشكل غير مباشر عن فكرة
النظرية النسبية التي اعتبرت أن الزمان والمكان جزء من الكون لا وعاء
له.
وكما أكد أن العالم له بداية يؤكد نهاية العالم المادي وهو بتحليله
يقترب - وإن كان يقصد غايات أخرى - من الاكتشافات العلمية الحديثة، فهو
يرد على فكرة جالينوس التي تبناها ابن سينا بأن العالم لا يقبل العدم
وهو أبدي لأن الشمس مثلاً إذا كانت تقبل العدم لظهر فيها ذبول في مدة
مديدة والأرصاد الدالة على مقدارها منذ آلاف السنين لا تدل على ذلك
المقدار، فلما لم تذبل في هذه الآماد الطويلة دل على أنها لا تفسد،
ويرد الغزالي بأن المقدمات التي استند عليها جالينوس غير صحيحة منطقيًا
كقوله بأن الشمس إذا كانت تفسد لا بد وأن تذبل، فلا يوجد ربط منطقي بين
الذبول والفساد، فالذبول هو أحد وجوه الفساد لا عله ذاتية له ولا يبعد
أن يفسد الشيء بغتة وهو على حال كماله، وبالتالي قد تنعدم الشمس مباشرة
دون شرط الذبول، كما أنه من غير الممكن معرفة الأرصاد عدم ذبولها إذ قد
يكون مقدار الذبول موجود ولكن بنسب بسيطة غير مكتشفة.
ابن رشد
لقد اعترض بداية ابن رشد (1126-1198 م) على الشك الذي تبناه الغزالي
ليعود بفكرة الحتمية ذات الطابع الغائي إلى الطبيعة فذهب إلى أن الله
تعالى قد أودع في الطبيعة الأسباب الضرورية التي تكمن وراء المسببات
وأن جحد الأسباب الضرورية هو جحد للصانع وجحد للعقل، لذلك نجد ابن رشد
من أنصار الضرورة العقلية حيث يرد على الغزالي بقوله:
إن إنكار وجود الأسباب الفاعلة التي تشاهد في المحسوسات قول سفسطائي،
ومن ينفي ذلك ليس يقدر أن يعترف بأن كل فعل لا بد له من فاعل، وأما أن
هذه الأسباب مكتفية بذاتها من الأفعال الصادرة عنها، أو إنما تتم
أفعالها بسبب من خارج أو مفارق أو غير مفارق فأمر ليس معروفًا بنفسه
وهو مما يحتاج إلى بحث وفحص كبيرين، وأما أن الموجودات المُحدثة لها
أربعة أسباب (فاعل ومادة وصورة وغاية) فذلك شيء معروف بنفسه، وكذلك
كونها ضرورية في وجود المسببات وبخاصة التي هي جزء من الشيء والتي تسمى
مادة أو شرطًا أو صورة، والعقل ليس هو شيء أكثر من إدراكه للموجودات،
وبه يفترق عن سائر القوى المدركة، فمن رفع الأسباب فقد رفع العقل وأبطل
العلم.
وقد أخذ ابن رشد عن أرسطو القول بأزلية المادة الأولى، والخلق عنده ليس
سوى تحريك تلك المادة لإخراجها من القوة إلى الفعل، فالعالم عنده أزلي
التغيير وهو في جملته واحد لا يجوز عليه العدم ولا يمكن أن يكون على
غير ما هو عليه، وليس هناك من إيجاد من عدم ولا عدم بعد وجود لأن كل ما
يحدث فهو خروج من القوة إلى الفعل، ومن الفعل إلى القوة، والموجودات
التي في عالم الكون والفساد مركبة من مادة وصورة، والمادة والصورة
أزليتان لأن المادة إذا لم تكن أزلية لم يكن للكون والفساد موضوع أول
يحملان عليه،
وعليه تكون أزلية العالم نتيجة ضرورية لأزلية المادة والصورة التي
تتركب منهما الموجودات، كما أن أزلية الحركة متصلة بأزلية الزمان،
وجميع هذه المعاني متصلة بمفهوم أزلية الجواهر التي هي مبادئ سائر
الموجودات، فالعالم متحرك منذ الأزل وله محرك أزلي يحركه، هذا المحرك
الأزلي الذي عنه يصدر نظام العالم وحركته الدائمة خليق بأن يسمى صانع
العالم.
وحجته في أزلية العالم قائمة على أننا إذا تصورنا أن الله قد خلق
العالم في زمن لم يكن فيه العالم موجودًا من قبل، فإن فعل الخلق هذا
يغير ضرورة من الذات الإلهية، وإن أخذنا بفكرة الإرادة القديمة لله،
فإن فعل الخلق هذا يغير من الذات الإلهية والإرادة بالضرورة، ذلك لأن
الإرادة على هذا الوجه تقتضي عزمًا محدثًا يجعل من الله يفعل بعد أن
كان لا يفعل وهذا لا يجوز في حق الله تعالى، وعليه فإن العالم أزلي في
الزمان، فإذا كان الله قديمًا بالذات أي مستغنيًا في وجوده عن الغير
ولا أول لوجوده في الزمان، فإن العالم قديم بالزمان أي أنه مع كونه لا
أول له في الزمان فإنه محتاج في وجوده إلى غيره، وبذلك يكون الوجود عند
ابن رشد يعود إلى ثلاثة أشكال، الأول هو الوجود الإلهي القديم بذاته
والأزلي، والثاني هو الجسام المادية في العالم المخلوقة والفاسدة، أما
الثالث فهو الوساطة بينهما وهو العالم ككل القديم في الزمان والموجود
عن شيء هو الفاعل الأول. وبما أن العالم لامتناه فالزمان أيضًا لامتناه
فهو من ذلك موجود بالقوة وليس بالفعل الذي يعد حدًا للزمان، فالزمان
لامتناه من طرفيه ويعود ذلك إلى أزلية الحركة، فالزمان لاحق من لواحق
الحركة يلزم له ما يلزم لها، وعليه فإن وجود اللامتناهي هو وجود بالقوة
وليس بالفعل إذ يوجد دائمًا شيء خارج عنه من جهة الكم، وذلك إما في
الذهن كانقسام المقدار إلى غير نهاية، أو في الوجود كالحركة في الزمان
والكون والفساد، وإن وجود الحوادث والحركات بعضها قبل بعض (الماضي) أو
بعد بعض (المستقبل) إنما هو وجود بالعرض لا بالذات، وإذا كان تسلسل
المتقدم والمتأخر فيها تسلسلاً بالعرض وكان التسلسل يقتضي زمانًا ما
يمتد فيه ويتم به، فإن وجود الزمان من زاوية النظر هذه هو وجود بالعرض
وليس بالذات، ولا يمكن أن يفهم اللاتناهي الذي يصف الزمان من طرفيه
الماضي والمستقبل إلا على هذا النحو، وبالتالي التسلسل اللامتناهي بين
الحوادث يكون العرض لا بالذات.
والعالم عنده يسير وفق نظام حتمي غائي لذلك لا يمكن إلا أن يكون ما هو
عليه، ولو تعطلت حركة من حركات هذا الكون فسد النظام والترتيب، وظاهرًا
أن هذا النظام يجب أن يكون تابعًا للعدد الموجود في هذه الحركات وإنه
لو كانت أقل أو أكثر لأختل النظام أو كان نظامًا آخر، وأن عدد هذه
الحركات إما عن طريق الضرورة في وجود ما ها هنا (هنا يتكلم عن الضرورة
الحتمية الكامنة في النظام الكوني للأشياء) وإما عن طريق الأفضل أي ما
هو ضروري لوجود الكائنات الأرضية
(حيث يتابع هنا المبدأ الغائي الذي تحدث به أرسطو) وبذلك يؤكد على
المطلق في الكون كموجود لامتناه لا يقبل التغيير لا من حيث الإمكان ولا
من حيث الوجود فيقول:
إن توهم كون العالم أكبر أو أصغر ليس بصحيح بل هو ممتنع، ولا يلزم
الفلاسفة الذين يعتقدون أن العالم ليس يمكن أن يكون أصغر مما هو عليه
ولا أكبر، ولو جاز أن يكون عظم أكبر من عظم، ويمر ذلك إلى غير نهاية،
لجاز أن يوجد عظم لا آخر له، ولو جاز ذلك لوجد بالفعل عظم لا نهاية له،
وذلك مستحيل.
لذلك نجده رفض نظريات الفيض التي تبناها الفارابي وابن سينا مؤكدًا بأن
القول بأن الواحد لا يصدر إلا الواحد يجعل الله مفتقرًا إلى العقول
المفارقة لخلق الكثرة وهذا محال، كما يقر ابن رشد بأن قانون السببية لا
يستند إلى ضرورة عقلية، بل إلى واقع يشاهد باطراد، ومع ذلك يرى بأن
السببية تبقى أساس العقل والمنطق والعلم قائلاً بأن العقل ليس شيئًا
أكثر من إدراكه الموجودات بأسبابها وبه يفترق عن سائر القوى المدركة،
فمن رفع الأسباب فقد رفع العقل.
ومن تسليماته الغائية رفض ابن رشد فكرة القانون الآلي الذري عند
الذريين اليونان، فالعالم عنده قديم ومحدث، فهو من حيث مادته قديم، ومن
حيث الصورة والأشكال التي تجري عليه من قبل الصانع أي الله محدث، كما
يؤكد ابن رشد فكرة السببية بما تنطوي عليه من الضرورة، لكنه يعتبر أن
هذا النسق من الأسباب والمسببات الطبيعية هو من صنع الله. فالعالم عنده
بجميع ما فيه خاضع لنظام لا يمكن أن يوجد أتقن منه ولا أتم منه، وإذا
كان العالم أزلي وكانت علاقته بالله علاقة العلة بالمعلول وجب أن يكون
كل شيء فيه مقيدًا بنظام وترتيب،
وبالتالي يصبح العالم حتميًا قائمًا على أساس الجبرية الإلهية فيقول:
إن كل ما يتحرك حركات محدودة يلزم عنها أفعال محدودة منتظمة، والسماوات
تتحرك من ذاتها حركات محدودة يلزم عنها في الموجودات التي دونها أفعال
محدودة ونظام وترتيب به قوام ما دونها من الموجودات، فأما أن حركاتها
يلزم عنها أفعال محدودة بها قوام وحفظ الحيوان والنبات والجماد فذلك
معروف بنفسه عند التأمل، فإنه لولا قرب الشمس وبعدها في فلكها المائل
لم يكن هناك فصول أربعة، ولو لم يكن الفصول الأربعة لما كان النبات ولا
الحيوان ولا جرى الكون على نظام في كون الأسطقسات بعضها من بعض على
السواء لينحفظ بها الوجود، مثال ذلك أنه لو بعدت الشمس إلى جهة الجنوب
برد الهواء جهة الشمال فكانت الأمطار وكثر كون الاسطقس المائي، وكثر في
الجنوب تولد الاسطقس الهوائي، وفي الصيف يحدث العكس، وهذه الأفعال التي
تُلفى للشمس من قبل القرب والبعد تُلفى للقمر ولجميع الكواكب فإن لها
أفلاكًا مائلة وهي تفعل فصولاً أربعة في حركاتها الدورية، وقد أعطى ابن
رشد للأجرام السماوية حياة وإرادة ممثلة بالحركة قائلاً بأن الأجسام
السماوية حية مدركة لعظم أجرامها وشرف وجودها وكثرة أنوارها، وإذا تأمل
الإنسان هذه الأجسام العظيمة الحية الناطقة المحيطة بنا ونظر إلى
عنايتها بما ها هنا وهي غير مُحتاجة إلى ذلك في وجودها، علم بأنها
مأمورة بهذه الحركات ومُسخرة لما دونها من الحيوانات والنباتات
والجماد، والأمر كله لله تعالى.
بذلك يكون أكد غائية الكون الحتمية رغم أنه أرجعها لحكمة إلهية بحتة،
حيث يؤكد بأن كل ما في العالم هو لحكمة، وإن قصرت عن فهم الكثير منها
عقولنا، وأن الحكمة الصناعية إنما يفهمها العقل من الحكمة الطبيعية،
فإذا كان العالم مصنوعًا واحدًا في غاية الحكمة، فهنا ضرورة حكيم واحد
هو الذي افتقرت إلى وجوده السموات والأرض وما فيها.
فقد ظهر عنده بالاستقراء أن جميع ما يظهر في السماء هو لموضع حكمة
غائية وسبب من الأسباب الغائية، وإذا كان الأمر في الحيوان كذلك، فأولى
أن يكون أيضًا في الأجرام السماوية.
ويؤمن ابن رشد بمبدأ حيوية العالم المادي ككل فالعالم عنده واع قائم
على الحركة حيث يقول:
إن كمال الحي بما هو حي هي الحركة، وإنما لحق السكون الحيوان الكائن
الفاسد بالعرض وذلك أن التعب والكلال إنما يدخل على هذا الحيوان من قبل
أنه هيولاني، وأما الحيوان الذي لا يلحقه تعب ولا نصب، فواجب أن تكون
حياته كلها وكماله في الحركة، فالحركة هي مثله الخاص الذي من أجله وجد.
*** *** ***