نعوم تشومسكي: حول ألغاز اللغة غير المحلولة والدماغ
تيغر ويب
ترجمة: أوراس الجاني
في
سنته السابعة والثمانين، ومع اقتراب كتابه المحوري "بنى نحوية"
من بلوغ عامه الستين، ما زال نعوم تشومسكي يفكر باللغويات
linguistics.
يعلم تيغر ويب لماذا بعض الأسرار المحيطة باللغة قد لا تُعرف أبدًا
ولماذا قد لا يكون ذلك أمرًا سيئًا.
فيا لحسرة العلماء!
لننطلق ونراجع أية قائمة علماء جديرين بالاحترام، فنستنتج حقيقة واحدة:
الأقل إثارة للجدل هو ما يعول عليه.
اللغة في الأساس أداة للتفكير.
قد تستثني من حفلة عشاءك آينشتاين (فهو اختصاصي جدًا) أو تتردد بشأن
هيلديغارد بينجين (وهي كنسية جدًا) لكن حالما يخطر دافينشي في بالك،
فأنت في المكان الصحيح.
لنعد بالزمن إلى سقراط وانطلاقته اللطيفة، رغم أخذ العلماء آنذاك
الأمور على نحو بسيط، وقلة المعارف غير الراسخة وكون العلوم أقل
اختصاصًا بكثير عما هي عليه اليوم.
امتزجت شخصيات الفنانين بشخصيات المهندسين فكتبوا الأغاني ومارسوا
الفلسفة بشكل طبيعي أو بأي شكل آخر. وكما لو أن الناس كلهم، وفي وقت
واحد، قرروا التوقف عن إهدار مواهبهم على نسق كبير من الفروع.
رغم ذلك، حصل اثنا عشر شخص على جوائز صناعات الترفيه الأميركية
الرئيسية الأربعة كلها – إيمي للتلفاز، غرامّي للموسيقا المسجلة،
أوسكار للأفلام، وتوني للمسرح.
(رغم كل تألقها على الشاشة، قد لا تعتبر أودري هيبورن عالمة، وهي التي
أتمت حصولها على الجوائز الأربع في عام 1994، بالإضافة إلى جائزة
غرامّي لاحقًا بعد وفاتها لأجل أغنيتها
Audrey Hepburn's Enchanted Tales).
على الجهة المقابلة، يعمل نعوم تشومسكي (لغوي، منظر إعلامي، فيلسوف...
الخ) على سحب اللقب.
مازال هنالك ما لا يعرفه في مجال اللغويات الحديثة رغم اعتراف الكثيرين
له بالإبداع فيه.
"يكمن اللغز في اللغة نفسها" يقول تشومسكي، مما يدفعنا لنستذكر ما
يدعوه بـ "التحدي الغاليلي".
لم يكن غاليليه وزملاؤه الفلاسفة في الثورة العلمية أول من طرح الأسئلة
حول طبيعة اللغة – مفاهيم دو سوسور في القرن العشرين حول الدال
والعلامة، كان قد أثارها أفلاطون قبله بعدة قرون.
كانت طريقة التفكير الغاليلي مبتكرة، لاعتباره اللغة كالآلة. بعد ذلك،
أصبح "التحدي" بسيطًا بشكل خادع: كيف علينا أن نتصور اللغة؟
اعتبر علم وظائف الأصوات (الفونولوجيا) إحدى العدسات التي فُحصت عبرها
اللغات المحكية (من قبل اللغويين على الأقل – غالبًا ما لا يتوقف الناس
العاديون للتفكير ببنية اللغة وهو أمر يتطلب إتمامه القيام بالكثير):
محصلة أصوات اللغة المعنية، مكان وطريقة نطقها، وكيف يمكن لتغير طول أو
موضع الصوائت
vowel
أن يساعد أو يعيق في الفهم بين المتكلمين.
انطلاقًا من هذه الزاوية اعتبرت اللغة تكيفًا فيزيولوجيًا – في نقطة ما
من تاريخنا التطوري أصبحت ألسننا قادرة على القيام بحركات مميزة للنوع
البشري عُرفت لاحقًا بالكلام. أو ربما انخفاض الحلق هو ما ساعد على
إخراج الأصوات الكلامية.
يعتبر تشومسكي أن التركيز على كيفية تطور اللغة يتجنب السؤال الأهم وهو
لماذا تطورت اللغات أصلاً؟ ما هو الهدف الذي يسعى له نظام ما كاللغة؟
أو كما يصوغ تشومسكي السؤال نفسه: "ما هي طبيعة هذا النظام التركيبي
التوليدي الذي يعطي نسقًا غير منتهٍ من الصيغ المركبة التي تعبر كل
صيغة منها عن فكرة ما عبر قاعدة معينة؟".
عندما يحتل هذا السؤال – التحدي الغاليلي – مرتبة متقدمة، سيتحول كل
تفسير تطوري للغة إلى مخرج تافه.
وبشكل مطابق لا يكترث تشومسكي لفكرة أن اللغة البشرية مجرد شكل من
أشكال التواصل المدعوم بيولوجيًا، أي امتداد لأغنية الطائر.
يقول تشومسكي: "إن تجسيد اللغة في نظام حسي حركي ما – حيث النطق هو
النظام المعتاد – هو أمر جانبي بالنسبة لصميم طبيعة اللغة". ويتابع،
"اللغة في الأساس أداة للتفكير،" أما كيفية نقل الفكرة عبر أعضاء النطق
– أكان عبر الكلام أو الكتابة أو الإشارة – فذلك غالبًا أمر جانبي.
معاصرو غاليليو (وديكارت أحدهم) اعتبروا الكون مثل آلة. نظر علم
الميكانيكا الكلاسيكي إلى العالم على أنه نظام من التروس والروافع،
واعتقد أن حركة الفُلك تنجم عن تفاعل القوى وتبدد الطاقة.
واعتقد كثيرون أن الخالق إذا وجد فسيكون شبيهًا بميكانيكي ماهر جدًا.
"تلك كانت الفلسفة الميكانيكية، وهي نسخة أكثر تعقيدًا من المُؤتْمَتات
[الآلات ذاتية الحركة]
Automata
الرائعة، التي كانت تبنى فعليًا آنذاك".
لكن للآلات أجزاء مكوِّنة، وبحكم طبيعتها، عليها أن تقبل التجزئة. فإذا
ما كانت اللغة امتدادًا للآلة البشرية، فما هي أصغر أجزائها المكونة؟
كيف يجب تعريف الكلمات؟ هذا بالنسبة لتشومسكي هو الجزء الثاني من
التحدي الغاليلي.
"كل نظام تجميعي يبدأ من الذرات: عناصر غير قابلة للتحليل من وجهة نظر
النظام التجميعي".
في اللغة، تعدُّ الذرات هي الكلمات ويمكن اعتبارها عناصر أيضًا – عناصر
مليئة بالمعنى: كلمات مثل "شجرة" أو "بيت العنكبوت".
وبمعنى آخر، تطرح الكلمات لغزًا هائلاً. "الكلمات مجهولة تمامًا في
أجهزة الحيوان. وليست لدينا أدنى فكرة كيف تطورت ومن أين نشأت". "وهي
مشتركة بين كل البشر، ولكل الكلمات معانٍ فريدة".
معانٍ سنظل نجهلها. انتقلت محاولة إيجاد أصل اللغات (في السابق، كانت
إعادة تركيب اللغة الأساسية للبشر هدف فقهاء اللغة في العالم برمته) من
"أصعب مشكلة في العلم" إلى إجماع مريح حول "لغة بدائية أوروبية
مفترضة"، وعند هذه النقطة يعتقد تشومسكي أن البحث سيتوقف.
"بالطبع لا نملك تسجيلات صوتية من 200.000 عام خلت - عندما بدأ الهومو
سابينز يطور قدرته على الكلام - ولهذا لا يوجد أي سبيل آخر لتحري موضوع
أصل اللغات".
"الأعمال المقارنة مع فصيلة الرئيسات والكائنات الحية الأخرى لن تفضي
إلى أي مكان. فهم لا يملكون أجهزة كالتي عندنا".
مشكلة أخرى بخصوص الكلمات، يضيف تشومسكي: "لا يوجد بينها شيء مترابط،
داخل العقل أو خارجه".
ومقارنة بعمل بقية أجهزتنا الداخلية، كالبصر أو السمع، يبقى فهم
العلماء ساذجًا لدور الدماغ في تكوين الصوت الداخلي.
مازال فهمنا محدودًا للآلية التي تسمح بامتلاكنا الكلمات بشكل فطري
كجزء من طبيعتنا الأساسية، مثل ما هو الحال بالنسبة لامتلاكنا لجهاز
بصري خاص بالثديات.
"وبقدر ما نأخذ بالحسبان النظام التطوري، تظل هذه المشكلة عصية
تمامًا".
أخيرًا ثمة معضلة الفعل الإرادي - لماذا يتكلم تشومسكي أصلاً عن اللغة
في هذه المقابلة، وليس عن موضوع آخر من جملة المواضيع غير المحدودة
التي يمكَنُنا نظامنا التجميعي من التكلم بها؟
"في هذه اللحظة تمامًا، يمكنني البدء بالحديث عن الطقس في الخارج أو عن
مباراة بيسبول شاهدتها قبل 50 سنة، لدينا دافع لقول شيء معين لكننا
لسنا مرغمين على فعل ذلك".
تشومسكي مخطئ بشأن هذه النتيجة: فهو مرغم على الإجابة عن هذه الأسئلة
(أقلَّه جزئيًا) بحكم بنى اجتماعية راسخة كليًا: "المحادثة" أو
"المقابلة".
فيما يتعلق بأحدث الدراسات عما يحصل في الدماغ خلال الفعل الإرادي،
يعلق تشومسكي بأن البحث مازال في مراحله الأولى. "بدأنا نفهم الدمية
والخيوط، لكن ليس لدينا أي فكرة عمَن يحرك اللعبة".
النظريات الحديثة لا تستطيع شرح أو وصف الأجزاء المكوِّنة للغة بشكل
كامل، لكن حسب معيار واحد لا يمكن اعتبار ذلك فشلاً.
رغم هذا، فلسفة نيوتن الميكانيكية – إضافة إلى ليبنتز وهويغنز وحتى
ديكارت – لم تدم للأبد. "بعد نيوتن - يضيف تشومسكي - تغيرت كامل مقاربة
العلم بشكل محكم". "بدلًا من محاولة إظهار أن العالم مفهوم بالنسبة
لنا، تدنى هدف العلم بشكل ضمني نحو تكوين نظريات بحيث تكون مفهومة
بالنسبة لنا".
كمثال على نظرية تشرح عالمًا غير مفهوم يذكر تشومسكي التأكيد الأخير
حول وجود الأمواج التثاقلية التي تنبأ بها آينشتاين: "تلك النظرية
معقولة بالنسبة لنا، لكن التصور التي بنيت عليه، التواء الزمكان
والمبادئ الكوانتية المتعلقة بها، كانت ستبدو خارج نطاق معرفة غاليليو
وهيوم ولوك". "هذه النظريات مفهومة، لكن العالم غير مفهوم، فهو ليس
آلة".
البشر أيضا ليسوا آلات، وتوجد حدود لفهمنا لأنفسنا. "بافتراض أننا
مخلوقات عضوية، ولسنا ملائكة - يضيف تشومسكي بامتعاض - لدينا بعض
القدرات الثابتة التي تمنحنا مجموعة من الإمكانات لكنها تفرض حدودًا
أيضًا". "الجينوم البشري يقودنا لننمي أيدٍ وأرجل وليس أجنحة ونظامٍ
بصري خاص بالثديات وليس بالحشرات". ويتبع ذلك وجود حدود راسخة لما يمكن
أن نفهمه حول الدماغ وبالتالي اللغة.
قد لا يُحل التحدي الغاليلي أبدًا. ومما يدعو للسخرية أنه بالكاد ما
تعدّ هذه المسألة جديدة: نظَّر لوك ذات مرة قائلًا إن الله ربما زود
أنواع معينة من المادة "بقوة فهم مضافة". اعتقد لوك أن السؤال بشأن
كيفية حصول ذلك غير مهم نسبيًا. بحلول عصر داروين أمسى تقبلنا لحدودنا
أمرًا عاديًا كموقف فكري مريح.
داروين نفسه قال إن فكرة مادة (جوهر معروف) منتجة للفكر "جوهر ممكن غير
معروف" ليست أكثر غموضًا من مادة (جوهر معروف) تتحكم بها الثقالة
(نظرية غامضة).
يرى تشومسكي ألغاز الدماغ بشكل مشابه، "‘الفكر‘ مظهر من مظاهر المادة
كما هي الخواص الكهربائية من مظاهر المادة".
في هذا العام سيكمل كتاب تشومسكي الأول وذو التأثير العميق في اللغويات
الحديثة "بنى نحوية" سنته الستين. وتشومسكي نفسه سيكمل عامه
السابع والثمانين. سئل في آخر المقابلة أن يلخص أفكاره، توقف قليلاً
وأجاب:
"نحن غامضون جدًا، أقلّه بالنسبة لأنفسنا".
"ربما يفهمنا أحد آخر".
*** *** ***
المصدر:
The Philosopher's Zone (Wednesday 30 March 2016)