نساء أوروبيات مغامرات في عالم الاستشراق
"بلاد الرافدين وبلاد الشام 1800- 1945"
سمير عنحوري
لا بد
لي قبل أن أسرد قصة بعض تلك النساء الأوروبيات اللواتي اقترن اسمهنَّ
بشكل أو بآخر بتاريخ منطقة الشرق الأوسط خلال القرن التاسع عشر والنصف
الأول من القرن العشرين، أن أشرح باختصار الظروف العامة التي توضح سبب
وجودهنَّ في بلادنا خلال تلك الحقبة من الزمن.
امتزج تاريخ الشرق والغرب في عدة أزمنة من التاريخ القديم والحديث
بدءًا من فتوحات الاسكندر المقدوني التي تبعتها الفتوحات الرومانية ثم
الحروب الصليبية وانتهاءً بالفتوحات العثمانية التي ضمَّت إلى
ممتلكاتها جزءًا من أوروبا الشرقية، فتشكل من مجموع هذه الأحداث
الكبيرة جوهر
تاريخنا القديم والمعاصر الذي اقتصر في الفكر الأوروبي حتى أوائل القرن
التاسع عشر إلى كونه أحداث تاريخية مجرَّدة ومدوَّنة في كتب التاريخ.
نشأت في أوروبا الغربية في أوائل القرن التاسع عشر حركة فكرية أُطلق
عليها اسم الاستشراق
Orientalisme،
طالت مختلف النواحي الفكرية من أدب وشعر وفلسفة وفن وسياسة. بدأ هذا
الاهتمام الجديد انطلاقًا من قصة ألف ليلة وليلة التي ترجمها
A. Galland
إلى الفرنسية في أوائل القرن الثامن عشر فانتشرت هذه الترجمة في كل
أرجاء أوروبا ونالت قصصها الاسطورية الساحرة اعجاب الجماهير. لكن
الحركة الفكرية للاستشراق بدأت فعليًا منذ حملة نابليون بونابرت أيام
الحكم العثماني على مصر وفلسطين عام 1798 والتي دامت ثلاث سنوات وانتهت
بالفشل بعد انكسار الاسطول الفرنسي ضد الاسطول البريطاني بقيادة
Nelson
في معركة أبو قير. لكن هذه الحملة التي كان من أهم أهدافها السياسية
والاستعمارية قطع الطريق البري للاستعمار البريطاني في الهند، ضمَّت
أيضًا بين أفرادها عشرات العلماء والباحثين الفرنسيين في مختلف
المجالات العلمية والفنية وكان من أهمهم العالمَين
Denon
وMonge
بغية التنقيب ودراسة الحضارة الفرعونية وعلومها مما سمح للعالم الفرنسي
Champollion
لاحقًا وبعد عقدين من الزمن بفك أسرار ورموز الكتابة الفرعونية.
تزامنت حركة الاستشراق هذه بحركة فكرية أخرى عمَّت مختلف البلاد
الأوروبية منذ نهاية القرن الثامن عشر وبلغت أوجها في منتصف القرن
التاسع عشر وهي الرومانسية
Le Romantisme
شملت جميع الاتجاهات الفكرية والفنية في ذلك العصر وكان من أهم رائديها
ورموزها
Goethe , Schiller , Beethoven ,
وWagner
في ألمانيا،
Bayron , Scott
وTurner
في انكلترا،
Verdi
وManzoni
في ايطاليا،
Zorilla Y Moral
في اسبانيا،
Chateaubriand
وLamartine
(اللذين زارا بلاد الشام خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر)،
Musset , Berlioz , Hugo
وDelacroix
في فرنسا،
Tchaikovsky
وLermontov
في روسيا وغيرهم...
شكَّلت الرومانسية اتجاهًا مناهضًا للفكر الكلاسيكي، يعتمد في أدبه
وشعره وفنونه من رسم وموسيقى على الخيال الجامح مقترنًا بالحسِّ المرهف
في وصف المشاعر والحب المثالي من جهة، والطبيعة والأحداث التاريخية
والاسطورية في جميع مظاهرها من ناحية أخرى. ومن هنا شغف الاستشراق
الهادف هو الآخر في التنقيب عن الآثار والأوابد بهدف ابراز والتعريف عن
الحضارات القديمة وخاصة الشرق أوسطية منها مضافًا إليها مصر وبلاد
أفريقيا الشمالية، بلاد فارس، الأندلس العربي، اليونان، وكذلك مدينتي
القسطنطينية والبندقية اللتين كانتا تعتبران بوابات الشرق. وبالخلاصة
فقد هدف الاستشراق والرومانسية معًا وبرغبة مشتركة في اكتشاف معالم
الشرق الذي كان قديمًا حاضنًا للحضارات والديانات والفلسفة مما يجعل
منها بنظرهم مصدر إلهام عميق لاكتشاف أسرار الوجود والمعرفة.
إن هذه النظرة الرومانسية التي تعتمد على وجود شرق خيالي واسطوري يمثل
للإنسان الأوروبي عالمًا ثابتًا لا يتغير ولا يتبدل خلافًا لما يحدث في
أوروبا من تغييرات وانقلابات جديدة وجذرية أوجدت في الفكر الأوروبي
أوهامًا وأساطير ساهم في نشرها الحكم العثماني الجامد لا بل المتجمد،
مما سبَّب خطأ فادحًا في تفهم واقع العالم العربي والإسلامي والذي ظهرت
نتائجه السياسية السلبية والمدمِّرة على منطقة الشرق الأوسط بعد انتهاء
الحرب العالمية الأولى وتقسيم البلاد سياسيًا إلى أوطان وقوميات ذات
حدود وهمية لا نزال نعاني من نتائجها الوخيمة حتى اليوم. وهنا لا بدَّ
أن أشير إلى الكاتب الفلسطيني الكبير إدوارد سعيد الذي انتقد بشدة
الاستشراق الرومانسي الذي تمثله صور نمطية منذ القرن التاسع عشر لا
تزال حيَّة حتى الآن في فكر وذهن ومفهوم الغرب للشرق الأوسط مع
"تطبيقاته السياسية على الأرض، هذه الدائرة المغلقة حيث لا شيء يتغير".
ألف ليلة وليلة - شهريار وشهرزاد
***
|
|
Lady Hester Stanhope
|
|
كانت السيدة البريطانية (Lady Hester Stanhope
(1776- 1839 أولى النساء الأوروبيات اللاتي
قَدِمْنَ إلى بلاد الشام في أوائل القرن التاسع عشر. كانت هذه السيدة
تنتمي إلى أكبر العائلات البريطانية وأكثرها ثراءً، لكنها قررت بعد
وفاة عمها رئيس الوزراء البريطاني الشهير
William Pitt
"الثاني" في عام 1808 الذي كان من أشد مناهضي الثورة الفرنسية والأكثر
عداءً لنابليون بونابرت، مغادرة بريطانيا لأسباب مجهولة للسفر والتنقل
بين العواصم الأوروبية حيث استُقبلت أينما حطَّت بما يتناسب مع مكانتها
الاجتماعية المميزة وأصالة نسبها.
لم ترضَ
Lady Hester
بأيٍّ من النبلاء الكثر الذين رغبوا بالزواج منها وقررت بشكل مفاجئٍ
جمع ثروتها ومتاعها ومجموعة كبيرة من خدمها مغادرة انكلترا من جديد
متوجهة بحرًا إلى القسطنطينية حيث مكثت فترة من الزمن معزَّزة مكرَّمة
من قبل السلطة العثمانية، ثم اتجهت بحرًا مع كافة متاعها وحاشيتها (حسب
إحدى الروايات) إلى مرفأ اللاذقية حيث مكثت عدَّة أشهر في ضواحي
المدينة لدراسة الأوضاع الجغرافية والاجتماعية والسياسية للمنطقة قبل
مباشرة مغامرتها الخطيرة (في تلك الأيام) والطويلة في بلاد الشام، حيث
أمضت بقية حياتها. وقد ماتت عام 1839 في قصرها الكائن في منطقة الشوف
في جبال لبنان.
كثُرت الروايات وتعدَّدت حول تفاصيل حياة الليدي هيستر في بلادنا.
ويمكنني تلخيص قصتها بما يلي وهي برأيي الأقرب إلى الحقيقة والواقع:
كانت تتمتع الليدي ستانهوب عندما قررت اكتشاف بلاد الشام والسفر في
جميع أنحائها بحماية السلطة العثمانية وحكَّامها من ولاة في فلسطين
ولبنان وسوريا وبلاد الرافدين. أحبَّت الصحراء وبادية الشام وفُتنت
بالشرق وأسراره. وكان من أهم المواقع التي خلَّدت اسمها مدينة تدمر
عاصمة الصحراء التي قصدتها على رأس قافلة كبيرة من الجمال والجياد
نقلتها من دمشق إلى هناك حاملة متاعها وأوانيها الفضية والمنزلية
وحاشية هامة تتضمَّن سكرتيرًا ومترجمًا وطبيبًا وعددًا كبيرًا من الخدم
الأجانب والمحليين.
نصبت ليدي هيستر خيمتها الواسعة والفخمة في تدمر ودعت إلى حفلة غداء لم
يعرف لها مثيل جمعت فيها مشايخ البدو في بادية الشام مع عدد كبير من
أفراد قبائلهم، وقيل أن عدد هؤلاء بلغ "الخمسين ألف شخصًا". ذهل هؤلاء
الضيوف بشخصية الليدي هيستر الساحرة التي يمتزج فيها الكبرياء والسلطة،
وبلباسها الشرقي النفيس المزركش بالحلي والجواهر الثمينة، وبالأواني الفضية الأنيقة التي كان يقدَّم فيها الطعام والشراب الفاخر،
وكذلك بكرم وسخاء الضيافة الذي استقبلتهم به هذه السيدة البريطانية
النبيلة، فأطلقوا عليها بالإجماع تعبيرًا عن احترامهم وتقديرهم لها لقب
"ملكة تدمر"، وضمنوا لها الحماية والحرية الكاملة في التجوُّل هي
وأصدقاءها في جميع أرجاء البادية.
قررت الليدي هسيتر بعد ذلك الإقامة والعيش في منطقة الشوف بجوار مدينة
صيدا. وقد زارها في قصرها هناك الشاعر والكاتب الفرنسي
Lamartine
عام 1832 وقد ذكر تلك الزيارة بإسهاب في كتابه الذي
يروي رحلته إلى بلاد الشام. كما زارها أيضًا في قصرها عام 1820
Louis-Marie Demartin du Tirac Vicomte de Marcellus
وهو الشخص نفسه الذي ابتاع آنذاك لحساب ملك فرنسا التمثال الشهير
La Venus de Milo
الموجود في متحف اللوفر في باريس، الذي تم اكتشافه قبل أسابيع فقط من
تاريخ هذه الزيارة.
وسأنقل هنا ما جاء في المجلد الثالث من "لبنان – صور من التراث"،
منشورات "شاهين غاليري"، بيروت، عام 1998، النص التالي حول الليدي
ستانهوب:
بعد أن قامت الليدي هيستر برحلات طويلة في جميع مناطق الشرق استقرت آخر
الأمر في وحدة منيعة على أحد جبال لبنان بجوار صيدا. وقد منحها باشا
عكا عبدالله باشا الذي كان يكنُّ لها احترامًا كبيرًا، بقايا دير وقرية
"جون" التي سكنها دروز. وهناك بنت عدَّة منازل يحوطها سور شبيهة
بتحصيناتها في العصر الوسيط. وأنشأت ببراعة حديقة رائعة على طريقة
الأتراك. حديقة أزهار وثمار وكروم، وأشكاك حافلة بالمنحوتات والرسوم
على الطراز العربي، ومياه جارية في أقنية من رخام ونوافير وسط ساحة
الأكشاك. وقباب أشجار برتقال وتين وليمون حامض. هناك قضت الليدي
ستانهوب عدَّة سنوات في جو شرقي فخم أصيل يحوطها عدد كبير من التراجمة
الأوروبيين أو العرب وحاشية كبيرة من النساء والعبيد السود. وكانت على
علاقة ودية وسياسية مع الباب العالي وعبدلله باشا والأمير بشير حاكم
لبنان وخصوصًا الشيوخ العرب في صحارى سورية وبغداد.
فقدت الليدي هيستر ثروتها على مر الزمن نتيجة الإسراف في البذخ وسوء
الإدارة، وعاشت آخر أيامها غارقة في الأحلام والأوهام بما يشبه حالة
الفقر، محاطة بمن بقي حولها من موظفين وخدم وعمال مزارعين تتحكم بهم
(مرتدية دائمًا اللباس اللبناني التقليدي) بدكتاتورية مطلقة أسوة
بالأمراء الاقطاعيين في ذلك العصر.
وقد وصفت الأديبة الفرنسية
Mme. Paule Henri-Bordeaux
حوالي عام 1930 في كتابها "La
sorcière de Joun"
نقلاً عن ما كتبه لامارتين سابقًا في هذا الخصوص روعة حياة الليدي
ستانهوب السابقة ونهايتها التي ملؤها الوحدة والتعاسة.
***
ولدت
Jane Digby
البريطانية عام 1807 وأصبح اسمها بعد زواجها الباكر من أحد النبلاء
Lady Jane Ellenborough
وكانت من أجمل نساء عصرها. لم يكن زواجها ناجحًا فتطلَّقت وهي في
العشرين من عمرها مما جعل منها امرأة غير مرغوبًا بها في المجتمع
البريطاني المتحفظ والمتزمِّت الذي كانت تحكمه في ذلك الوقت الملكة
الشابة فكتوريا التي دام حكمها من عام 1837 حتى عام 1901.
قررت
Jane Digby
مغادرة بريطانيا فتوجهت بادئ الأمر إلى بلدان أوروبا حيث عاشت هناك عدة
سنين صاخبة تتنقل من علاقة غرامية إلى أخرى تسحر الرجال بجمالها الرائع
وخاصة النبلاء والأثرياء منهم. ومن جملة عشَّاقها نبيل نمساوي، ثم
تزوجت من نبيل ألماني من بافاريا اسمه
Baron Von Venningen
ثم هجرته لتصبح عشيقة لويس الأول ملك بافاريا. ثم تزوجت نبيل يوناني من
جزيرة كورفو عرفته في باريس اسمه
Spiridon Theotoky،
سلبها منه أثناء إقامتها في اليونان زعيم ألباني يلقَّب بملك الجبل
وكان يتزعَّم جماعة من المجرمين وقطَّاع الطرق. هربت منه لاحقًا وتوجهت
إلى جبال لبنان حيث عاشت فترة من الزمن مع عشيقها أحد زعماء الدروز
هناك. أعجبت بالجياد العربية الأصيلة التي كانت تمتطيها بمهارة فائقة
فعزمت على ابتياع عددًا منها أرسلتها إلى بريطانيا حيث قاموا هناك
بتهجينها بالجياد الانكليزية الأصيلة فنتج منها ما يسمَّى بالجياد
Anglo-arabe.
ويُقال أن سيدة نبيلة أخرى اسمها
Anne Blunt
(1837 – 1917) وهي حفيدة الشاعر البريطاني الشهير
بايرون عاشت في بلاد الشام ومصر في تلك الفترة ابتاعت هي أيضًا الجياد
العربية الأصيلة وارسلتها إلى انكلترا حيث سُمِّيت هذه الجياد هناك
Pur-sang arabe.
تجولت الليدي جين في بلاد الشام وتوجهت بشكل خاص إلى بادية الشام
وصحرائها التي سحرتها بشمسها المضيئة الوقَّادة ومساحاتها الواسعة
اللامتناهية، مما أمتع فكرها وخيالها الجامح وبحثها الدؤوب طيلة حياتها
عن "المطلق اللامتناهي" في الحب وسر الوجود، فوجدت في تدمر هدفها في
الحب المثالي والاستقرار العاطفي بين ذراعي الشيخ مجوال المزراب أحد
زعماء قبيلة العنزة في بادية الشام الذي كان يصغرها بعشرين عامًا فهام
في غرامها ولازمها حتى آخر أيام حياتها.
كانت الليدي جين قد بلغت في ذلك الوقت الخمسين من عمرها لكنها كانت لا
تزال تتمتع بروعتها التي سحرت كلَّ من عرفها في بلاد الغرب والشرق.
عاشت هذه المرأة الاستثنائية منذ ذلك الحين وحتى آخر حياتها بسعادة
تامة تتنقل حسب فصول السنة للعيش في مضارب البدو في تدمر أو في منزلها
في دمشق القائم في حيِّ القيميرية ليس بعيدًا عن منزل الأمير عبد
القادر الجزائري في حي العمارة، الذي أنقذها رجاله من الموت أثناء
مذابح حادثة "الطوشة" المرعبة في دمشق عام 1860. تمتعت هذه السيدة
دائمًا باحترام وتقدير جميع من عرفها أو كان على صلة بها. زارها في
بيتها عدد كبير من الأجانب أصحاب الألقاب الذين زاروا دمشق في تلك
الفترة حيث استقبلتهم في دارها بكرم فائق على الطريقة الشرقية، وهي
محاطة في دارها بورود الياسمين والمانوليا التي يُقال أنَّها أول من
أوجدها في دمشق.
أنجبت الليدي جين عدَّة أولاد من أزواجها السابقين لكنها فجعت في
حياتها بموت ابنها المفضل
Leonidas
في إيطاليا وكان عمره ست سنوات فقط حين سقط من شرفة الفندق عندما كان
ينظر إليها وهي واقفة في الأسفل عند الباب. ربما كان هذا الحادث الأليم
هو ما جعلها تهيم طيلة حياتها في مسيرة طويلة هدفها النسيان والبحث عن
الحب الذي يعوِّضها عن فقدان ابنها. وجدت السلوى والاستقرار أخيرًا هنا
في دمشق وتدمر بعد بحث طويل عن شيء كانت تجهل مكوناته ومعناه.
صادف الكاتب الفرنسي الشهير
Balzac
الليدي جين في باريس حين إقامتها هناك حوالي عام 1835 أثناء علاقتها
الغرامية بـ
Theotoky
فسحرته بجمالها. ثم صادفها لاحقًا وبعد سنوات في ألمانيا وربما ارتبط
بها هناك بعلاقة غرامية. وقد أوحت إليه بشخصية
Lady A. Dudley
العاشقة الجامحة بطلة روايته
Le Lys dans la vallée،
والتي كانت هي أيضًا تتطلَّع في حياتها إلى سحر الشرق ولذَّاته.
توفيت
Lady Jane Digby
في دمشق عام 1881 ودُفنت فيها ويُروى أن مودِّعيها أثناء مراسم الدفن
سمعوا صوت حوافر فرس يدنو بسرعة من بعيد حتى وصل إليهم ووقف إلى جانب
القبر وعلى ظهره الشيخ مجوال. وقف الفارس وجواده صامتَين لحظات دون أي
حركة ثم رمى الشيخ مجوال على القبر وردة المانوليا التي كان يحملها
بيده ثم أدار جواده وذهب بسرعة من حيث أتى. كانت هذه خاتمة لقصة حبٍّ
جميلة ورومانسية لامرأة عاشقة للحياة والحب وسراب الصحراء وشمسه
الحارقة.
|
|
Lady Anne Blunt & Kassida |
Lady Anne Blunt |
***
Gertrude Bell
لمعت هاتان الفراشتان الجميلتان بجميع ألوانها في الغرب والشرق، لا بل
لمعتا كنجمة الزهرة الساطعة في سماء الشرق وصحرائه فحققتا حتى النهاية
المطلقة حلمهنَّ الخرافي الذي ضاهى أساطير ألف ليلة وليلة في روعتها
ومغامراتها المثيرة، تاركة في ذاكرة الناس آثار وذكريات جميلة
وأسطورية.
أما السيدة الثالثة فكانت أيضًا بريطانية ولكن لم تسطع بنورها
كسابقتيها بل آثرت البقاء في ظلال نور الشرق بما يتناسب مع طبيعتها
الصامتة والسرية وأحلامها التي كانت لا تقل جرأة وخيالاً عن سابقتيها،
مما كلَّفها الكثير من الجهد والدراسة والتخطيط لتحقيق هدفها بعيدًا عن
العفوية والعاطفة وعالم الحب والجمال.
إنها
Gertrude Bell
الباحثة في عالم الآثار والتنقيب. ولدت عام 1868 وتلقت العلوم ومعرفة
اللغات في عدد من جامعات انكلترا ثم التحقت بين عامي 1892 و1907 ببعثات
بريطانية للتنقيب في منطقة الشرق الأوسط عن الآثار الحثيَّة والبابلية
في شمالي سورية وبلاد الرافدين حيث التقت هناك عام 1911 بلورانس
Lawrence
الذي كان يعمل أيضًا منقبًا وباحثًا في المنطقة نفسها، بالإضافة إلى
عمله سرًا مع المخابرات البريطانية.
قامت
G. Bell
عام 1913 برحلة طويلة إلى بلاد الشام والجزيرة العربية جمعت خلالها
معلومات هامة ودقيقة حول المنطقة وسكانها وخاصة عشيرة الحويطات وذلك
بسبب معرفتها الجيدة باللغة العربية التي كانت تتكلم بها كما كان يفعل
أيضًا لورانس بلهجة سكان شمال سورية والعراق. وقد استفاد لورانس من هذه
المعلومات لاحقًا واستخدمها في تعامله مع العرب في عامي 1917 و1918
أثناء الثورة العربية الكبرى ضد الدولة العثمانية.
عادت
G. Bell
إلى انكلترا عام 1914 حيث التحقت بجهاز المخابرات البريطانية
Intelligence service
وأصبحت منذ ذلك الوقت وحتى مماتها من عداد العاملين فيها. تمَّ تعيينها
كخبيرة في "مكتب الشؤون العربية" في القاهرة التابع للقيادة البريطانية
هناك حيث كانت تتمتع بمكانة مميزة نظرًا لمعرفتها الدقيقة بأمور وأحوال
المنطقة العربية. لذا تمَّ تعيينها كمراسلة "لمكتب الشؤون العربية" في
البصرة في العراق ثم كممثلة دائمة له في كافة بلاد الرافدين.
التقت
G. Bell
مجددًا مع لورانس في القاهرة وفي البصرة وفي الحجاز فكان يأخذ برأيها
ويوافقها عامة في تحليلها السياسي والاستراتيجي للمنطقة ويحترم بُعْد
نظرها لمستقبل بلاد الشام لفترة بعد انتهاء الحرب (العالمية الأولى)
والانتصار المحتمل للحلفاء على ألمانيا وحليفتها الدولة العثمانية.
تواجدت
G. Bell
بعد انتهاء الحرب في "مؤتمر السلام" في باريس عام 1919 بصفتها خبيرة
بريطانية في سياسة وشؤون منطقة الشرق الأوسط، وتواجد أيضًا هناك
الكولونيل لورانس وكان مرافقًا للأمير فيصل ابن الحسين بصفة مستشار. لم
تستجب فرنسا لمطالب الأمير في تحقيق مملكة عربية كبرى تضم بلاد الشام
والرافدين ويكون هو فيصل ملكًا عليها استنادًا إلى وعود بريطانيا
بتحقيق هذ الأمر بعد الانتصار على الدولة العثمانية وفصل الولايات
العربية عنها. كما تنصَّل أيضًا الانكليز عن وعودهم هذه لعدم اغضاب
فرنسا حليفتهم في الحرب من جهة (رغم العداء الخفي والدائم بين تلك
الدولتين بسبب تضارب مصالحهم السياسية والاستعمارية)، واتفاق سايكس-
بيكو الذي جرى بينهما عام 1916 من جهة أخرى الذي يقسِّم منطقة الشرق
الأوسط إلى منطقتَي نفوذ إحداها فرنسية والثانية بريطانية، ضاربة بعرض
الحائط بالعهود السابقة المقدَّمة للشريف حسين وابنه الأمير فيصل.
أُبعد الملك فيصل عن سورية بعدما احتلها الفرنسيين عام 1920 ثم عُقد
مؤتمر القاهرة عام 1921 الذي شاركت فيه
G. Bell
على قدم المساواة مع كبار السياسيين والقادة العسكريين البريطانيين
وكان بينهم الوزير تشرشل والكولونيل لورانس. تمخض عن مؤتمر القاهرة هذا
- وكان تأثير
G. Bell
على مجرياته وقراراته السياسية كبيرًا وهامًا - على تعيين فيصل ملكًا
على العراق لتعويضه عن فقدان مملكته في سورية، وكذلك تعيين الأمير
عبدلله الابن الآخر للشريف حسين أميرًا على إمارة شرق الأردن التي
أوجدت خصيصًا لارضائه وارضاء والده.
كانت
G. Bell
تتمتع بذكاء حاد وشخصية قوية ومميزة إضافة إلى طموح كبير وإرادة حديدية
مما مكَّنها في تحقيق أهدافها ورفعها إلى مصاف صانعي القرار والملوك
والدول، مكانة قلَّ أن وصلت إليها بقية النساء وحتى أكثر الرجال. لم
تكن هذه المرأة تتمتع بالأنوثة والجاذبية فلم تتزوج ولم يُعرف عنها أي
علاقة عاطفية مع أي شخص كان. عاشت القسم الأكبر من حياتها منعزلة بعيدة
عن عائلتها التي توفي أفرادها في انكلترا الواحد تلو الآخر مما سبب لها
حزنًا عميقًا وتعاسة دائمة. أمضت أكثر حياتها في ظل الأبنية والمكاتب
الحكومية الرسمية ونالت أرفع الأوسمة البريطانية والعراقية لكن لم يسطع
نجمها بأي بريق خاص يؤهلها للبقاء في ذاكرة الناس وأساطير الشرق. أمضت
بعد ذلك بقية حياتها في بغداد بصفة مستشارة شخصية للملك فيصل الأول ملك
العراق، وتوفت هناك عام 1926 منتحرة حسب الإعلان الرسمي لوفاتها.
***
وفي عام 1920
احتل الفرنسيون سورية ولبنان واحتلت بريطانيا فلسطين والأردن والعراق، وكان البريطانيون متواجدون سابقًا بطبيعة الحال في مصر. كان
الحليفان الفرنسي والبريطاني ينظران إلى بعضهما بعين الريبة والحذر
بسبب خلافاتهم السياسية التوسعية في منطقة الشرق الأوسط، ولم يتوانَ
البريطانيون خلال سنين الانتداب والاحتلال عن القيام بأعمال عدائية ضد
فرنسا في المنطقة كتزويد رجال الثورة السورية الكبرى بالسلاح وحماية
الفارِّين منهم إلى العراق والأردن ورفض تسليمهم إلى السلطة الفرنسية.
توجَّه إلى منطقة الشرق الأوسط خلال هذه الفترة عدد من البعثات العلمية
للتنقيب عن الحضارات القديمة وآثارها وكان أكثرهم بطبيعة الحال فرنسيون
وبريطانيون، وقد عمل بعض أفرادها إلى جانب عملهم العلمي المعلن بنشاطات
استخبارية خفية لصالح بلادهم. كما نشطت خلال هذه الفترة أي بين الحربين
العالميتين الأولى والثانية حركة سياحية واسعة تخيِّم عليها روح
الاستشراق التي كانت لا تزال حيَّة في ذاكرة وثقافة الكثير من
الأوروبيين والأجانب.
هيَّأت هذه الأجواء الغنيَّة بالأحداث الثقافية والاجتماعية والسياسية
لمجيء عدد من المغامرين والمغامرات ذوي الأهداف المعلنة أو الخفية
لزيارة بلاد الشرق والتعرف على آثارها التاريخية، وكانت لا تزال ذاكرة
الليدي هيستر ستانهوب والليدي جين ديغبي وجيرترود بِلّ والكولونيل
لورانس ماثلة في كلِّ الخواطر خاصة بعد أن نشر لورانس في الثلاثينات من
القرن الماضي كتابه الشهير:
Les sept piliers de la sagesse،
الذي يروي بشكل دقيق ورومانسي أعماله ومغامراته الحربية في بلاد الشام
وأحداث الثورة العربية الكبرى التي قادها مع الأمير فيصل ابن الحسين ضد
الجيش العثماني بين عامي 1917 - 1918.
حفل تتويج الملك فيصل ملكًا على العراق وبجانبه مجموعة من كبار الضباط
البريطانيين
***
Marguerite (Marga) d’Andurain
كانت إحدى تلك المغامِرات سيدة فرنسية اسمها
Marguerite (Marga) d’Andurain
الذي اقترن اسمها هي أيضًا بمدينة تدمر لكن بشكل مختلف ونقيض تمامًا
للسيرة المضيئة اللامعة لسابقتيها الليدي هيستر والليدي جين.
ولدت مارغا عام 1893 في مدينة
Bayonne
في فرنسا وتزوجت في سنٍّ مبكرة من ابن عمها الشاب
Pierre
ثم ذهبا معًا قبل الحرب العالمية الأولى إلى الأرجنتين ليعملا هناك في
تربية المواشي. غادرا الأرجنتين بعد سنوات قاصدين مصر عام 1925 حيث
استقرا في مدينة القاهرة في منزل يقع في شارع سليمان باشا مقابل مطعم
غروبّي الشهير، هادفة إلى تأسيس صالون تجميل للسيدات ولمبيع حجارة
اللؤلؤ الصناعي. جذبت مارغا بجمالها وأنوثتها وأناقتها المجتمع الراقي
البريطاني هناك مما دفعها لأن تختلق لنفسها لقب
Comtesse
فأصبحت تعرف باسم
La Comtesse d’Andurain.
عزمت مارغا بعد سنتين على السفر إلى فلسطين وسورية بصحبة صديقة
بريطانية وضابط بريطاني
Major Sinclair
وهو رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية البريطانية في حيفا. ذهبوا إلى
تدمر حيث كانت ترابط هناك حامية فرنسية مؤلفة من فرقة الهجَّانة
الشهيرة
Unité des Meharistes du Levant
وعناصرها مؤلفة من بدو المنطقة بقيادة ضبَّاط فرنسيين تتنقل في أنحاء
بادية الشام على ظهور جمالهم أو في سيارات مصفَّحة لمراقبة الحدود مع
العراق والأردن وحفظ النظام وحلِّ الخلافات بين القبائل الرحَّل وحماية
المطار العسكري في تدمر.
كانت لا تزال العلاقات متوترة على أشدِّها في تلك الفترة بين الفرنسيين
والبريطانيين بعد انتهاء الثورة السورية الكبرى، فارتاب الفرنسيون من
هؤلاء الغرباء الذين قدموا إلى تدمر فوضعوا مارغا والميجور سينكلر
(الذي أصبح عشيقها) تحت المراقبة أثناء إقامتهما في فندق تدمر، ورُفع
تقرير سرِّي حول هذا الموضوع إلى الكولونيل
Catroux
رئيس المخابرات الفرنسية في بيروت آنذاك، وبدأت منذ ذلك الوقت تحيط
شخصية هذه المرأة الإشاعات التي سمَّمت علاقتها مع المؤسسات الأمنية
الفرنسية طيلة حياتها حول دوافعها الحقيقية والشك في كونها عميلة
للمخابرات البريطانية. وقد زادت هذه الشكوك حدَّة عند الموت المفاجئ
للضابط سينكلر بعد بضعة أشهر منتحرًا "في سبيل الحب" كما قيل آنذاك.
أحبت مارغا تدمر وصحراءها وسماءها وسكانها من البدو الذين أصبحت
ترافقهم في تجوالهم لصيد الغزلان، ولتعيش حسب طريقتهم وحياتهم اليومية.
انضمَّ إليها لاحقًا زوجها وأولادها وأقاموا جميعًا في فندق تدمر. كان
هذا الفندق هو الوحيد في المنطقة ويعاني من الإهمال وسوء الإدارة
بالرغم من موقعه الاستثنائي وسط المدينة وآثارها الرائعة.
قامت شركة "كتَّانة" التجارية التي كان لها مكاتب في دمشق ببناء هذا
الفندق في العشرينات من القرن الماضي لاستثماره سياحيًا وتجاريًا وعُهد
ببنائه إلى المهندس الإسباني الأصل
Fernando de Aranda
وكان والده رئيس الفرقة الموسيقية الملكية في اسطنبول أيام السلطان عبد
الحميد. ومن المعروف أن هذا المهندس الذي عاش في دمشق منذ أيام العهد
العثماني قام ببناء أو المشاركة ببناء عدَّة أبينة ومنازل جميلة في
دمشق أهمُّها مبنى محطة الحجاز وبناء العابد (ساحة المرجة)، ومات في
دمشق في الستينات من القرن الماضي.
ابتاعت مارغا الفندق على ما يبدو وأطلقت عليه اسم "فندق زنوبيا" ملكة
تدمر الشهيرة، وأجرت عليه بعض التحسينات لتستقبل في غرفه الصغيرة
وأثاثه البسيط جميع السيَّاح القادمين إلى تدمر، بعد أن كان هذا الفندق
سابقًا مركزًا للراحة والتسلية للعسكريين الفرنسيين هناك.
لم يساعدها زوجها كثيرًا في إدارة الفندق إذ كان يمضي معظم أوقاته
بصحبة ضباط الحامية والمطار ويمارس بشغف كبير ركوب الخيل في الصحراء
الواسعة. سئمت مارغا حياتها الروتينية والعائلية وعاودتها أحلامها
وطموحاتها للقيام بأعمال عظيمة وأسطورية تفوق ما حققته مجتمعة السيدات
البريطانيات من قبلها. راودتها فكرة جنونية تهدف أن تجعل منها أول
امرأة أوروبية تقوم بزيارة مكة المكرمة في فترة الحجِّ. فبدأت تخطط عام
1933 لإنجاز هذه الخطة الجريئة والخطيرة واستعملت كلَّ الطرق الممكنة
لتحقيق هدفها هذا دون أيِّ حساب لما سوف يترتب على ذلك من صعوبات
ومخاطر ونتائج وخيمة. سأسرد هنا ملخصًا لما جاء في الكتاب الرائع
Boussole
للكاتب الفرنسي
Mathias Enard
(الذي نال كتابه هذا جائزة
Goncourt
في نهاية العام الماضي) حول هذا الموضوع:
أقنعت مارغا بدويًا ساذجًا في تدمر اسمه سليمان الدقمري وأصله من نجد
في الجزيرة العربية أن يتزوجها ويرافقها إلى الحجاز مقابل مبلغ من
المال يتقاضاه منها بعد عودتهما من هناك. فذهبا معًا إلى فلسطين حيث
تزوجا صوريًا بعد أن أعلنت إسلامها وأجبرت سليمان أن يقسم بحضور شهود
ألا يمسَّها بأي شكل من الأشكال وأن يطيع أوامرها في كلِّ شيء، وحصلت
من "أصدقائها" البريطانيين على جواز سفر بعد أن غيَّرت اسمها إلى
"زينب"، يسمح لها بالذهاب معه إلى مكَّة لتقديم فريضة الحج.
كانت المملكة السعودية الوهابية حديثة العهد في تأسيسها وكان ملكها
ومؤسسها عبد العزيز ابن سعود يحذر كلَّ الحذر من أي تدخل بريطاني أو
فرنسي في شؤون المملكة التي كانت تُطبِّق فيها قوانين واجراءات أمنية
مشددة وصارمة لا تقبل أي تجاوز أو اهمال.
وصل الزوجان إلى مرفأ جدَّة المليء بالبواخر والبضائع إضافة إلى حشد
كبير من الحجَّاج. وكانت جدَّة في ذلك الوقت مقرًا حصريًا لجميع
القنصليات الأجنبية المعتمدة في المملكة. بدأت الصعوبات تعترض طريق
"زينب" وزوجها منذ أن وطئت أقدامهما جدَّة إذ تمَّ إبلاغهما أن
القوانين الشرعية لا تسمح لزينب بالذهاب إلى مكَّة لأداء فريضة الحج
إلا بعد مضي سنتين على إشهار إسلامها، فاضطر زوجها للذهاب بمفرده إلى
مكَّة للحصول من الملك نفسه على إعفاء استثنائي لزوجته، ومكثت مارغا
بادئ الأمر بمفردها في جدَّة بضيافة حاكم المدينة وضمن حريمه (زوجته
وبناته) لاستحالة تواجدها بمفردها في الفندق كونها امرأة.
عاد سليمان دون الحصول على الموافقة فأقام مع زوجته في فندق بمساعي
قنصل فرنسا في جدَّة يدعى
Roger Maigret.
رغب سليمان بالذهاب معها لزيارة أهله وعشيرته في الصحراء ولكنها رفضت
الذهاب معه بعيدًا عن سلطة القنصل خوفًا من أن يبقيها هناك ويمنعها من
العودة. ذهب بمفرده وبقيت هي في جدَّة منتظرة عودته وقد ربطتها في هذه
الأثناء مع ابن القنصل علاقة غرامية سريَّة وملتهبة دفعت بهما إلى
ارتكاب حماقات عديدة وخطيرة.
داهمتها الشرطة الملكية في الفندق أثناء وجود عشيقها الشاب معها الذي
اختبأ تحت السرير واقتيدت إلى السجن حيث زُجَّت في غرفة صغيرة حارَّة
ومظلمة مليئة بالحشرات وفي غاية القذارة، حيث مكثت فيها مدَّة شهرين
بانتظار أن يُصدر القاضي حكمه فيها الذي سيقضي حكمًا بإعدامها بتهمة
التجسس والدعارة والقتل، وسبب هذه التهمة الأخيرة الموت المفاجئ لزوجها
سليمان الذي اتهمها قبل أن يلفظ الروح بتسميمه للتخلُّص منه والعودة
بمفردها إلى سورية.
أُعلن عن إعدامها شنقًا في جريدة
L’Orient le Jour
البيروتية بتاريخ 30 أيار وبدأت تنتشر القصص والتكهُّنات عن حقيقة هذه
المرأة المغامِرة التي سبَّبت موت اثنين من عشَّاقها في ظروف غامضة.
لكن خبر موتها كان خاطئًا والحقيقة أن مارغا نجت من الموت واُخلي
سبيلها لعدم اثبات التُّهم عليها بشكل قاطع، فعادت إلى تدمر لمتابعة
حياتها ظاهريًا مع عائلتها وكأن شيئا لم يكن.
إنَّ ما حصل لها من خيبة واحباط وخوف أثناء رحلتها الفاشلة إلى المملكة
العربية السعودية شكَّل منذ عودتها انعطافًا خطيرًا في حياتها وحُسْن
ادراكها لواقع حياتها مما جعلها تنحرف إلى اللامبالاة في خوض حياة
جديدة ملؤها الدسائس والمغامرات المشبوهة والخطيرة التي أوصلتها بعد
بضع سنوات إلى مصيرها التعيس والمحتوم. وأتابع هنا ما جاء في كتاب
M. Enard
حيث يروي:
... مات زوجها مقتولاً بطريقة عنيفة ومرعبة في ظروف غامضة بعد عودتها
بقليل، فعادت الشائعات والشكوك والتكهنات تحوم حول هذه الجريمة التي
أُعزيت إلى عمل إجرامي انتقامي قام به بعض أفراد عائلة سليمان، بينما
ادَّعت مارغا وابنها بانها كانت من تدبير وتنفيذ المخابرات الفرنسية.
سئمت مارغا على ما يبدو حياتها في الصحراء وعادت إلى فرنسا قبل بدء
الحرب العالمية الثانية، ثم أمضت فترة الاحتلال الألماني تتنقل بين
مدينة
Nice
وباريس تمارس أعمالاً متنوعة ومشبوهة كتهريب الذهب والأوبيوم وغيرها.
انتحر ابنها البكر عام 1945 ثم قتل بعد عام في ظروف غامضة قريبها
Raymond Clarisse
الذي كان يعمل سرًا أثناء الحرب ضمن إحدى المجموعات الفرنسية المناضلة
ضد الاحتلال الألماني، فألقت السلطات الفرنسية القبض على مارغا بتهمة
قتله أو الضلوع في هذه الجريمة.
كانت هذه الجثة الخامسة التي ترافق سيرة حياتها، فتعرَّضت مارغا في
فرنسا إلى هجوم صحفي وكلامي في غاية العنف وأُلصقت بها كافة التهم من
جاسوسية وتعاون مع الألمان وتهريب وقتل لأكثر من خمسة عشر شخصًا ضمنهم
أقرب الناس إليها. لكن أُطلق سراح مارغا هذه المرة أيضًا بعد أيام لعدم
وجود أدلَّة تدينها!
غادرت فرنسا إلى أفريقيا الشمالية حيث تابعت كالمعتاد نشاطاتها
المشبوهة التي أصبحت وكأنها جزءًا حيويًا وهامًا في طبيعتها مما أدى في
أحد أيام 1948 إلى قتلها بشكل مروِّع على ظهر سفينتها من قبل مجهولين
وإغراق جثتها مثقلة بحجر كبير في عرض البحر قرب مرفأ طنجة.
انتهت حياة مارغا بشكل عنيف وغرقت معها أحلامها وطموحاتها الفاشلة
فكانت شبيهة بالفراشة التي أحرقت أجنحتها بلهيب الشمس الحارة ونارها
الملتهبة ظنًّا منها أنها مصدر حريتها واشراقها.
Le commendant Muller, figure emblématique des unités
méharistes du Levant
كانت تراودني أثناء كتابتي قصة مارغا داندوران قصة شبيهة لها ومختلفة
في آن واحد لسيدة شرقية عاشت هي أيضًا في الفترة نفسها حياة مغامرة
واستثنائية وماتت في ظروف غامضة في زمن مليء بالاضطرابات والدسائس
السياسية التي سبقت ورافقت الحرب العالمية الثانية، وهي نجمة وأميرة
الغناء أسمهان، هذه الفراشة الشرقية الجميلة التي لا زالت روحها ترفرف
فوق رؤوسنا لتطربنا بصوتها الرخيم الرائع.
وأخيرًا لا بدَّ لي قبل أن أنهي بحثي هذا أن أذكر بشكل مختصر ثلاثة
سيدات أوروبيات أخريات حفظ تاريخ الشرق ذكرهنَّ ولو بشكل عابر وهنَّ:
Agatha Christy
المنقَّبة والكاتبة الشهيرة (1890 – 1976) التي تجوَّلت في سورية
ودوَّنت اسمها في كتاب الشرف في فندق بارون في حلب. والكاتبة السويسرية
Isabelle Iberhard
(1837 – 1904). والصحفية والكاتبة السويسرية
Anne-Marie Schwarzenbach
(1908 – 1942) التي تنقلت في بلاد الشام وايران ودوَّنت اسمها هي أيضًا
في فندق بارون في حلب، وقد التقت أثناء زيارتها لتدمر بمارغا داندوران
التي تركت لديها أثرًا عميقًا من اعجاب يشوبه الحذر من هذه المرأة التي
كتبت عنها أنها "من الممكن أن تكون قاتلة".
|
|
|
Agatha Cristy |
Isabelle Iberhard |
Anne-Marie Schwarzenbach |
دمشق 21 أيار 2016
*** *** ***