مقولة الحال عند
أبي هاشم الجبائي
حمزة رستناوي
الحالُ نازلة تنزل بالقلوب فلا تدوم
الجُنيد البغدادي
أولاً: مدخل
تأثَّر علم الكلام الإسلامي[1]
واستخدم المفاهيم المعرفية والفلسفية التي كانت سائدة أبان فترة ظهوره
في بداية القرن الثاني للهجرة ومن ثم ازدهاره في القرون اللاحقة. ولما
كانت المعرفة الفلسفية آنذاك تنطلق من مقولات تجسِّد مفاهيمًا ثابتةً
للوجود كالماهيَّة الجوهرانيَّة والعلِّية والأقيسة البرهانيَّة
ونحوها... كان من الطبيعي أن نجد حضورًا بارزًا لهذه المقولات في علم
الكلام الإسلامي. نظر الفلاسفة والمتكلمون العرب إلى الكينونة كجوهر
وأعراض وفق صيغة المقولات العشر لأرسطو، فالجوهر هو الثابتُ القائم
بذاته، في مقابل الأعرض المتغيرة، والجوهر هو المُستغني عن الموضوع في
مقابل الأعرض المُحتاجةِ إلى موضوع وإلى مَحَلٍّ تحلُّ فيه، ويعرِّف
الشريف الجرجاني "الجوهر" في كتابه التعريفات بما يلي: "ماهيَّة إذا
وُجدت في الأعيان كانت لا في موضوع.. وهو إما أن يكون مركباً أو لا،
والأول - أي المركب - هو الجسم. والثاني - أي غير المركب - إما حال أو
محل، فالأول - أي الحال - الصورة، والثاني - أي المحل – هو الهيولي"[2].
ولقد سعى علماء الكلام بجميع فرقهم لتطبيق هذا التصوُّر الأرسطي على
توحيد الربوبية[3]
مع اختلافات في التفاصيل فيما بينهم، وقصدوا بالجوهر الذات وبالأعرض
الصفات، وقد أخذت هذه الاختلافات طابع الخلاف العنيف أحيانًا وتمَّ
استثمارها سياسيًا من قبل السلطة القائمة آنذاك في الدولة العباسية[4]
وينطبق هذا على جميع فرق المتكلمين من المعتزلة وخصومهم، وعمليًا خرج
الاختلاف من الحقل المعرفي إلى الحقل العقائدي/السياسي. وفي هذه
المقالة التي نحن بصددها سنحاول التأكيد على البعد المعرفي لماهيَّة
الكينونة في إطار الثقافة العربية الاسلامية أبان فترة ازدهارها، وهو
بُعد ما قبل - أي سابق - عقائدي وما قبل سياسي، وسنبحث في ارهاصات وجود
فهم مُختلف لماهيَّة الكينونة، أو حتى على الأقل تحسُّس وجود إشكاليَّة
معينة في تصوُّر معرفي كان سائدًا آنذاك. وستكون مقولة "الحال" لأبي
هاشم عبد السلام الجبائي (275-321 للهجرة )[5]
موضوع مقالنا هذا، هذه المقولة التي لم تجد تقبُّلاً لها في أوساط
الفلاسفة والمتكلمين بما فيه المعتزلة أنفسهم، فكانت موضع تندُّر
"وأكثر الناس طعنوا في هذا الكلام، وقالوا: عجائب الكلام التي لا حقيقة
لها ثلاثة، طفرة النظام، وأحوال أبي هاشم، وكسب الأشعري وأنشد في ذلك[6]:
مما
يُقال ولا حقيقــة تحتــــــهُ معقولة تدنو إلى
الأفهـــــــــامِ
الكسبُ عند الأشعري والحَالُ عندَ البهشمي وطفرة
النظَّامِ
والمقصود بالبهشمي: أبو هاشم الجبائي، وهو نحت لغوي من الكلمتين: أبي
وهاشم. وقبل الالتفات لمناقشة أقوال أبي هاشم الجبائي في (الحال) يجدر
بنا الإشارة إلى أنَّه لم يصلنا أي مخطوط من الكتب العشرة الذي نسب ابن
الجوزي تأليفها لأبي هاشم الجبائي[7]
بسبب الصراع العقائدي/السياسي آنذاك وأسباب أخرى غير مقصودة لتقادم
حوادث الزمن كذلك. وإضافة إلى ذلك لم يصلنا شيء من كتابات تلاميذه، وما
وصلنا في معظمه جاء من كتابات منحازة ضدَّه، وهذا ما سيصعِّب علينا
مهمة البحث في مقولة (الحال) وسيفتح الباب للتأويل وترك تساؤلات قد لا
نستطيع الإجابة عليها ولكن سنُقاربها في حدود المُمكن المُتاح.
ثانيًا: عرض مقولة
الحال
يعرض الشهرستاني في الملل والنحل نوعين من الأفكار ينسبهما لأبي
هاشم الجبائي، النوع الأول أفكار يشترك فيها مع والده أبي علي الجبائي
أما
المسائل التي انفردا بها عن أصحابهما: فمنها.. إثبات موجودات هي
أعراض أو في حكم الأعراض لا محلَّ لها، كإثبات موجودات هي جواهر أو في
حكم الجواهر لا مكان لها، وذلك قريب من مذهب الفلاسفة حيث أثبتوا عقلاً
هو جوهر لا في محل ولا في مكان، وكذلك النفس الكلية والعقول المفارقة[8].
وأما النوع الثاني فهو انفراد أبو هاشم الجبائي في القول بالأحوال، من
حيث أنَّهُ
أثبتُ أحوالاً هي صفات لا موجودة ولا معدومة، ولا معلومة ولا مجهولة،
أي هي على حيالها لا تعرف كذلك بل مع الذات[9].
ويورد الكفوي في كتاب الكلِّيات أنَّ
بعض
المتكلمين قد أثبتَ واسطة بين الموجود والمعدوم وسمَّاها الحال، وعرف
بأنها صفة لا موجودة ولا معدومة لكنها قائمة بموجود، كالعالِمية وهي
النسبة بين العالِم والمعلوم[10].
وأيًّا يكن الأمر، يميز أبو هاشم الجبائي في المعرفة ما بين المُطلق
والمُتعيَّن المشروط، وهو يُثبتُ أعراضًا لا محلَّ لها، وهذه من خصائص
مفهوم الجوهر وفقًا للتصوُّر الفلسفي المعاصر آنذاك، وكذلكَ يثبتُ
الجبائي صفات من غير تعين تحتمل الوجهتين أي ما بين الوجود والعدم صفات
تقوم على ذات الموصوف
فكل صفة لموجود لا تتصف بالوجود، فهي حال سواء كان المعنى الموجب مما
يشترط في ثبوته الحياة أو لم يشترط، ككون الحي حيًا وعالمًا وقادرًا
وكون المتحرك متحركًا، والساكن ساكنًا والأسود والأبيض إلى غير ذلك[11].
ثالثًا: السياق
العقائدي/الثقافي لمقولة الحال
كانت الإشكالية العقائدية الفلسفية - في توحيد الربوبيَّة- هي المحرِّض
على افتراض مفهوم الحال عند أبي هاشم الجبائي لتجاوز إشكالية تتعلَّق
بتوحيد الربوبيَّة، وإثبات الصفات وطبيعتها[12].
ولم تخمد مقولة الحال من بعد وفاة أبي هاشم الجبائي، فقد تبعهُ فيها
عددًا من أشهر علماء أصول العقيدة من السنَّة والأشاعرة، حيث يورد أبو
بكر الباقلاني (338 -402 للهجرة):
كل
صفة لموجود لا تتصف بالوجود فهي حال، سواء كان المعنى الموجب مما يشترط
في ثبوته الحياة أو لم يشترط، ككون الحي حيًا وعالمًا وقادرًا، وكون
المتحرك متحركًا والساكن ساكنًا والأسود والأبيض إلى غير ذلك[13].
وقال بها الجويني الملقب بإمام الحرمين (419-478 للهجرة) وفق ما أورده
الايجي في المواقف[14]،
وعمليًا يميز الأشاعرة في بحث الصفات الإلهية ما بين صفات المعاني
والصفات المعنوية، الأولى هي ما تدلُّ على معنى وجودي قائم بالذات وهي
الصفات السبع: "الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والبصر، والكلام،
والسمع" وأمَّا الصفات المعنوية فهي: "كونه حيًا، عليمًا، قديرًا،
مريدًا، سميعًا، بصيرًا، متكلمًا". وهي نفسها الأحوال التي قال بها أبو
هاشم الجبائي، وسواء إن ذكر ذلك صراحة أو إشارة أو سُكِتَ عنه.
وقد يبدو مفهوم الحال بمثابةِ طرح غامض يَتَحَوَّى مصالح غموض عقائدي
وفلسفي، ولكنه طرح يقدِّم مخرجًا لرتق الهوَّة التي كانت قائمة ما بين
المعتزلة وخصومهم الأشاعرة، مخرج سلسٌ قادر على تجاوز إشكالية عقائدية،
جرى استثمارها وتصعيدها سياسيًا لتلقي بظلال سلبية على واقع الثقافة
العربية الإسلامية آنذاك، وما قد يُوجَّهُ من نقد لحال الجبائي في كونه
غامضًا هو مبرَّر تمامًا من حيث أنَّ المصالح العقائدية مُسْتَغْلَقَة
وقد تكون مستحيلة البرهان بطبعها ولا غرابة في ذلك. لقد كان مفهوم
الحال بمثابة تسوية نظرية لإشكالية عقائدية، تسوية ذات بعد براغماتي.
ولكن السؤال الذي يفرض نفسه، هل تَتَحَوَّى مقولة الحال أي أبعاد أخرى
معرفية غير برغماتية؟! إنَّ هذا يقتضي منَّا تحييد البعد العقائدي في
هذه المقولة، وهو ما سوف نأتي إليه وبشكل مخصوص في الفقرة التالية.
رابعًا: السياق
المعرفي لمقولة الحال
أ- إنَّ قبولَ مفهوم الحال عمليِّا ينقض النسق المعرفي القائم على
الجوهر كمحدِّد لهويَّة الكينونة، ومن خصائص الجوهر - وفقًا لأرسطو -
أنَّه ثابت قائم بذاته لا محلَّ له، على النقيض من الأعراض المتغيرة
القائمة بالجوهر ولها محلٌّ، "فإثبات موجودات هي أعراض أو في حكم
الأعراض لا محلَّ لها، كإثبات موجودات هي جواهر أو في حكم الجواهر لا
مكان لها" يلغي وجود فارق جوهري ما بين الجوهر القائم بذاتهِ والأعراض.
ب- إذا كانت الحال وفقًا لأبي هاشم الجبائي لا توصف بالوجود أو العدم،
فهذا يعني أنَّها تَتَحَوَّى إمكانات مختلفة للوجود، ليس الوجود بالنفي
سوى إحداها.
ت- ثمَّة اعتراض متكرِّر يسوقه المنتقدون للحال في أنَّها قائمة بذاتها
- أي أنَّها جوهر - وغير منسوبة إلى جوهر بما يفضي بنسبة الحال إلى
نفسها أو إلى حال غيرها! وهذا ما ساقه أبو علي الجبائي الوالد في
اعتراضه أبي هاشم الجبائي الابن "وإلا فيؤدي إلى إثبات الحال للحال،
ويفضي إلى التسلسل[15]
أو أنَّهُ يؤدي إلى قيام العرض بالعرض، فتعيَّن بالضرورة أنَّها
أحوال"[16]
بما قد يسلب خصيصة أخرى من خصائص الجوهر في كونه الوحيد القائم بذاته
دونما أعراض.
ث- لنتوقَّف عند هذا الاقتباس الطويل نسبيًا مما يورده الشهرستاني على
لسان أبي هاشم الجبائي:
والعقل يدرك فرقًا ضروريًا بين معرفة الشيء مطلقًا وبين معرفته على
صفة؛ فليس من عرف الذات عرف كونه عالِمًا، ولا من عرف الجوهر عرف كونه
متحيِّزًا قابلاً للعَرَض، ولا شكَّ أن الانسان يدرك اشتراك الموجودات
في قضيَّة وافتراقها في قضية، وبالضرورة يعلم أنَّ ما اشتركت فيه غير
ما افترقت به، وهذه القضايا العقلية لا ينكرها عاقل، وهي لا ترجع إلى
الذات، ولا إلى أعراض وراء الذات، فإنَّه يؤدي إلى قيام العرض بالعرض،
فتعيَّن بالضرورة أنَّها أحوال، فكون العالِم عالمًا حال، هي صفة وراء
كونه ذاتًا، أي المفهوم منها غير المفهوم من الذات[17].
التعقيب:
أ- يقرِّر النص حقيقة اختلاف الموجودات، ولا يعزو ذلك إلى وجود جواهر
ثابتة قائمة بذاتها مختلفة للموجودات، ولا حتَّى إلى اشتراكها في
الجوهر واختلافها في الأعراض، بل هو يرى في الاختلاف إحدى البداهات.
ب- الدافع إلى افتراض الأحوال هو تجاوز إشكالية التسلسل واثبات الأعراض
إلى نفسها، أو اثباتها إلى جوهر.
ت- اشتراك الموجودات حال، واختلافها حال كذلك، و"هذه القضايا العقلية"
لا يجري تفسيرها كقضايا حمليَّة تسند الصفة إلى الموصوف أو تسند
المُسند إلى المُسند إليه أو تسند العرض إلى الجوهر.. ونحوها.
ث- طرح العديد من نقّاد نظرية الحال كالشهرستاني وابن تيمية وابن حزم
وغيرهم، فكرة كونها مجرَّد تصوُّرات وتوهُّمات لا صلة لها بالأعيان
"وتفسيره للأحوال ممتنع فهي لا وجود لها إلا في الأذهان لا الأعيان -
فالأحوال عنده مرتبة بين الوجود والعدم، أي أمر اعتباري تعلقي فقط -
ليس للحال حدٌّ حقيقي يذكر حتى نعرفها بحدها وحقيقتها على وجه يشمل
جميع الأحوال - لا وجود لها إلا في الذهن ونحوه.. الخ". ويمكن تفهُّم
هكذا اعتراض، حيث أنَّ مقولة الحال جاءت من خارج النسق المعرفي المهيمن
والسائد آنذاك، ولكونها غالبًا لم تحظ بفرصة عرض كافية لأسباب
أيديولوجية.. وهذا ما يفسِّر غياب أي مخطوط وصل إلينا لصاحب نظرية
الحال أو لأحد من تلاميذه حتَّى. وأيًا يكن الأمر وفي مواجهة هذه
الاعتراضات سنستفيد من تصوُّر وضعه كارل بوبر للعوالم، من حيث أنًّهُ
يميِّز بين ثلاثة عوالم، أولها العالم المادي وثانيها العالم الذاتي،
بينما يُعَرِّف الثالث بأنه العالم الموضوعي، يضم العالم الأول، كل
المكونات المادية من أشياء وذوات.. أما العالم الذاتي فيتكون من
الخبرات الشعورية والخيالات والميول نحو الفعل، إنه عالم التمثيلات
الذاتية، وأخيرًا يتكون العالم الثالث أو الموضوعي من الأفكار
والنظريات العلمية والمعاني والكتب والمتون، ويتميز العالم الموضوعي
بأنه عالم مستقل عن الإنسان رغم أنه هو من يخلقه[18].
فمن المشروع افتراض أي مفهوم أو نظريَّة من قبل العلماء والمؤلفين، ومن
الطبيعي أن تكون هكذا افتراضات في الأذهان، وتُقاس مبرِّرات وجودها
وجدارة انتمائها إلى العالم الموضوعي بقدرتها على تفهُّم وحل مشكلة
تواجه العِلم والعالِم.
خامسًا: الخلاصة
عرضنا أعلاه لمقولة الحال كما ظهرت عند أبي هاشم الجبائي وكونها قد
أسَّستْ لفهم مختلف على المستوى المعرفي العام، فهم يتجاوز التصوُّر
الجوهراني لهويَّة الكينونة وثنائيَّة الجوهر والأعراض التي قال بها
أرسطو في المقولات العشر، وهو ما كان سائدًا في العصور الوسطى في
العموم، وصحيح أنَّ مقولة الحال لم يتم صياغتها وعرضها كنظرية
أبستمولوجية شاملة في تفسير الوجود والموجودات، ولكنها حملت في نقدها
وصياغاتها الجزئية المنثورة هنا وهناك هكذا إمكانية واحتمال.
وفي نهاية المقال وبناء على ما سبق عرضهُ، يقترح كاتب السطور الصيغة
التالية لنظرية الحال: الشيء حال، والأشياء تختلف في حال وتتماثل في
حال، وتوجد في حال وتتغير من حال إلى حال، وتعدم في حال.
*** *** ***
Summary of Abu Hashim
Aljubbai’s concept of Status
In this article،
we discussed the concept of “Status” which was appeared in 10th
century by Abu Hashim Aljubbai. This concept of “Status” established
a new cognitive understanding which was completely different than
the “Substance” comprehension of the identity as well as the Dualism
of the Substances and the Accidents that Aristotle explained them
in his concepts of “Ten Categories”،
and were generally dominant concepts during the period of Middle
Ages of European history. It was clear that the “Status” concept was
not presented as a comprehensive epistemological theory to explain
the “Universe” and its “Existences”. But its criticism and partial
formulations، which were
scattered everywhere، carried
out the possibility to be recognized as “a comprehensive
epistemological theory ” different than the Ten Categories in the
future.
At the end،
I suggested and explained a formula to the theory of the “Status” in
which I considered any “Thing” as a “Status” and “Things” may
contain some similarities and some differences،
may exist in certain cases، may
change from case to case،
and may disappear in certain cases.