من خطب الزعماء*

 

ترجمة وإعداد: وفيق فائق كريشات

 

يقول أحد الباحثين في موضوع اللغة:

اللغة طريقة فعالة لتغيير سلوك الآخرين. فبالحديث تستطيع أن تُغير فِعل المرء. وهذا ينطوي أحيانًا على نتائج غير لفظية من مثل ما يحدث حينما نطلب من إنسان أن يحرك شيئًا ما أو أن يأتي بشيء ما إلينا. وأحيانًا تكون له نتائج لفظية من مثل ما يحدث حينما نغير ما يجب على أحد الناس أن يقول في شيء من الأشياء[1].

وإدراكًا من البشر لهذه الخصيصة التي للغة فلقد اتخذ الكثير منهم الخطابة وسيلة للتأثير في الآخرين. وفي ما يلي خطب مختارة لمجموعة من قدماء السياسيين والعسكريين بحسب تسلسلهم تاريخيًا.

***

دان، من آل تشو
(حَكَم بين سنتي 1043 و1036 ق.م)
بلاغ شاو
لويانغ، الصين
نحو سنة 1036 ق.م

كتاب المستندات هو أحد أقدم النصوص الصينية، ويدعى أحيانًا كتاب التاريخ. يحتوي الكتاب على أخبار وخطب تُنسب إلى قدامى الملوك وغيرهم من مسؤولي القصور الملكية. من المعتقد أن كونفوشيوس (551 – 479 ق.م) قد عمل على تحرير هذه النصوص وأنها كانت آنئذٍ قديمة العهد. عكف الصينيون على هذه النصوص قرونًا يدرسونها واتخذوها مصادر للمعرفة مهمة وأمثلةً على الحكم الصالح. يفتتح كتاب المستندات بأخبار عن ياو وشون الملكين الحكيمين الصينيين اللذين يتردد ذكرهما في المرويات، ثم يمضي في عهدي سلالتي شيا (2070 - 1600 ق.م) وشانغ (أو يين 1600 -1046 ق.م) وأوائل عهد سلالة تشو(الغربية) (الذي يبدأ من سنة 1045 ق.م). (السلالة هي حكام متعاقبون من أسرة قوية). كان الملك تشِنْغ ثاني حكام سلالة تشو الغربية؛ مَلَك من سنة 1043 ق.م إلى سنة 1021، غير بعيد جدًا عن تاريخ قهر والده، الملك وو، لآخر ملوك شانغ. كان الملك تشِنْغ طفلاً لما تولى الحكم؛ تولى الأخ الأصغر لأبيه - دان، أحد آل تشو الأقوياء - الوصاية على العرش سبع سنين حتى بلغ تشنغ سنًّا تؤهله أن يأخذ على عاتقه "توكيل السماء" (أو تيانْمينغ)، وهو السلطان الديني الذي يخوله أن يسود. في آخر سنيِّ وصاية دان من آل تشو، وعندما كانت لويانغ المدينة الجديدة تبنى، ألقى هذه الخطبة، "بلاغ شاو"، يصف فيها التوكيل الذي يستلمه الملك الفاضل وورثته ما داموا يحكمون بالحكمة وفِعْل الخير. حين تتقوض السلالة، ربما بسبب الفساد أو القسوة، ويطاح بالأسرة من العرش، يقال إنها فقدت التوكيل الذي خولها أن تحكم بالحق الإلهي. يذكر دان من آل تشو في هذه الخطبة يين، أهل سلالة شانغ السابقة المهزومة. كان دان من آل تشو أحد الآباء المؤسسين للنظام السياسي الصيني؛ سوف تدوم سلالة تشو الغربية التي كان عونًا على تأسيسها نحوًا من 275 سنة مَلَك منها 12 ملكًا.

الخطبة

آه! السماء الجليلة، الإله العلي قد بدَّل ابنه المقدَّم، وسحب "التوكيل" من يين هذه الدولة العظيمة. عندما يستلم الملكُ التوكيلَ فإن المنة من لدن مصدرها تكون بلا حد، لكن كذلك يكون الهمُّ لها بلا حد، آه! كيف يقصِّر في أخذ حذره موقّرًا! لقد رفضت السماء توكيل يين هذه الدولة العظيمة ووضعت نهاية له. وعلى هذا النحو، ومع أن لـ يين في السماء ملوكًا حكماء متقدمين كُثُر، فإنه لما تولى خلفاؤهم من الملوك والأقارب القيام بتوكيلهم انتهى الأمر بالحكماء والصالحين إلى عيشة البؤس. ولما كان هؤلاء يعلمون أنه يجب عليهم رعاية زوجاتهم وأطفالهم وإعالتهم فقد توجهوا بالنداء إلى السماء متألمين وفرُّوا إلى حيث لا تنالهم الأيدي. آه! السماء أيضًا حزنت لأجل الناس من كل البلدان، راغبة، بمودة، أن تستخدم، بما تعطيه من توكيلها، أصحاب الالتزام العميق. ينبغي على الملك أن يأخذ حذره من أمر فضيلته أخذ توقير.

انظروا إلى المتقدمين من أهل الزمان الغابر، إلى شيا. لقد أرشدتهم السماء ودللتهم وجعلت عينها عليهم كي يجتهدوا في فهم ما تحبه السماء؛ لكنهم بحلول هذا الزمان قد تركوا توكيلهم يسقط أرضًا. الآن انظروا إلى يين؛ لقد أرشدتهم السماء وظلت قريبة منهم وغذتهم كي يجتهدوا في فهم ما تحبه السماء؛ لكنهم الآن قد تركوا توكيلهم يسقط أرضًا.

الآن يخلف على العرش ابنٌ صغير؛ فلا يتجاهلنَّ، إذًا، الكبار والمجربين. إنهم ليسوا فقط يفهمون فضيلة رجالنا الأقدمين - كلا، بل إنهم يستطيعون أحيانًا أن يفهموا المشورات التي تأتي من السماء.

آه! إن يكن الملك صغيرًا، فهو الابن المقدَّم [عند السماء]. ليكن قادرًا قدرة عظيمة على أن يأتلف مع العامة. في وقت المنة الحاضر، لا يجوز للملك أن يكون بليد العقل، بل ينبغي عليه أن يكون حصيفًا سريع الفهم لما يقوله الناس.

سوف يمثِّل الملكُ اللهَ العلي ويتولى بنفسه [الحكم هنا] في وسط الممتلكات. أقول، أنا دان: "لتُجعل هنا مدينة عظيمة؛ ليقُمْ من هذا المكان بوظيفته مساعدًا للسماء الجليلة، مقدمًا الذبائح بتوقير للأرواح العليا والدنيا. ليحكم من هذا المكان حكمًا مركزيًا. متى يكن للملك توكيل فعال تمامًا فإن حكمه للناس سوف ينعم بالقبول [من السماء].

بتولي الملك [إدارة] القيمين على الشؤون العامة من يين، ينبغي له أولاً أن يرافقهم مع القيمين على الشؤون العامة من طرفنا نحن تشو، لتأديب طباعهم، ويومًا بعد يوم فإنهم سوف يترقّون.

ليقم الملك بوظيفة منصبه بتوقير؛ لا يجوز له إلا أن يأخذ حذره من أمر فضيلته أخذًا موقرًا. لا يجوز أن نقصِّر في رؤية أنفسنا بمرآة شيا؛ كذلك لا يجوز أن نقصِّر في رؤية أنفسنا بمرآة يين. لا يجوز أن نتجرأ على الظن بأن شيا قد استلموا توكيل السماء لأجلٍ مسمى من السنين؛ لا يجوز أن نتجرأ على الظن بأنه ما كان ليستمر. فلأنهم لم يأخذوا حذرهم من أمر فضيلتهم أخذًا موقرًا فإنهم تركوا توكيلهم يسقط باكرًا. لا يجوز أن نتجرأ على الظن بأن يين قد استلموا توكيل السماء لأجل مسمى من السنين؛ لا يجوز أن نتجرأ على الظن بأنه ما كان ليستمر. لأنهم لم يأخذوا حذرهم من أمر فضيلتهم أخذًا موقراً فإنهم تركوا توكيلهم يسقط باكرا. الآن قد خلفهم الملك في استلام توكيلهم؛ فلنعمل أيضًا، في ما يتعلق بتوكيل هاتين الدولتين، على أن نجعله يستمر مع ما شاكله من المآثر؛ [إن نفعل ذلك]، حينئذ يشرع الآن الملك [حقًا] في تولي التوكيل.

آه! مثل هذا الأمر هو كمثل إنجاب طفل: الأمر برمته موقوف على ما يحصل عند مولده؛ يعطيه المرء بنفسه نصيبه من الحكمة [في المستقبل]. الآن في ما يتعلق بأمر هل سوف تمنح السماء هبة من الحكمة، من الحظ السعيد أو الشقي، أو هبة من كذا من السنين الطويلة، فإننا نعلم [فقط] أننا نشرع الآن في تولِّي التوكيل.

ليأخذ الملك، إذ يقيم في هذه المدينة الجديدة، حذره من أمر فضيلته أخذ توقير متلهفًا. حين تكون الفضيلة هي ما يستعمله الملك، حينئذ فليدعُ السماء سائلاً توكيلاً باقيًا. وإذ يقوم بوظيفته ملكًا، فلا يتجرأ، بسبب ضلال العامة واقترافهم الأخطاء، أن يحكمهم بعقوبة الإعدام القاسية؛ على هذا النحو سوف ينجز الكثير. وإذ إنه هو الملك، فليتخذ منصبه في سمو الفضيلة. حينئذ سوف تتأسى به العامة في أرجاء العالم جميعًا؛ سوف يغدو الملك مشهورًا بأعماله.

ليقل الذين هم فوق وتحت، ليقولوا من حماستهم ويقظتهم: "ونحن نستلم توكيل السماء، ليكن مماثلاً على نحو عظيم للسنين الطويلة التي نعمت بها شيا، ولا يقصِّر عن السنين التي نعمت بها يين" - لعل الملك يستلم [بحسب ما نتمناه]، من خلال العامة، توكيل السماء الباقي.

***

داريوس الأول
(نحو سنة 549 -486 ق.م)
"حكم الواحد"
ميديا، فارس
تشرين الأول 522 ق.م

مات قمبيز الثاني (ابن قورش الأكبر) الملك الفارسي المجنون بعد ست سنين من قتله سرًا لأخيه سميرديس. أعلن دجَّال ادَّعى أنه سميرديس نفسه ملكًا في ميديا (الجزء من الإمبراطورية الفارسية الذي هو الآن إيران). كشف والد زوجة قمبيز عن أمر الخديعة، وقتل، مع بضعة أشراف، الدجَّال في 29 أيلول 522 ق.م. كان أحد المتآمرين هو داريوس ابن التاسعة والعشرين، وهو ابن ساتراب (حاكم) بارتيا، وابن عم قمبيز. تداول المتآمرون السبعة في أمر كيف ينبغي أن تُحكم المملكة وقد مات سميرديس وقمبيز كلاهما. زكَّى أحدهم "حكم الكثرة" لأنه من المحتمل جدًا أن يغدو الملك طاغيًا؛ فقال: بدلاً من ذلك "ارفعوا الشعب إلى سدة السلطة". اقترح آخر أن يكون الحكم فقط "للأفضل" (الأوليغارشية) أو أن يكون لزمرة منتخبة من المواطنين، لأن الشعب جاهل ومخلوع اللجام على نحو عظيم. اتخذ داريوس رأيًا غير ذلك - حُكمُ "أفضل رجل في الدولة كلها" (الملكية). انتخب السبعة داريوس ملكًا عليهم، علمًا بأن هيرودوت المؤرخ اليوناني، الذي سجل الوقائع في كتابه التاريخ، يروي أن الاختيار للمُلك قد وقع على الذي صهل حصانه أولاً صبيحة اليوم التالي. (يعتقد بعض المؤرخين المحدثين أن قصة الدجَّال برمتها هي ربما من اختراع داريوس ليسوغ أخذه للسلطة.) لسرعان ما صار داريوس يدعى داريوس الأكبر. لقد غدا فاتحًا لكثير من البلدان ومديرًا قديرًا لإمبراطورية شاسعة، اشتملت على ما هو اليوم أفغانستان وتركيا والعراق... [وفلسطين] والأردن ولبنان وسورية، ومعها أجزاء من باكستان ومصر وليبيا والسعودية وسواحل البحر الأسود في بلغاريا ورومانيا وأوكرانيا. كان نظام الحكم الذي اتبعه، واستخدم فيه ساترابات (موظفين تابعين) لحكم الولايات الفارسية العشرين، فعَّالاً جدًا حتى إن الإسكندر الأكبر بعده قد استعمله أيضًا. حاول داريوس أن يضم اليونان إلى مملكته - وشرع في الحروب الفارسية من أجل ذلك - لكنه مات ولم يفلح.

الخطبة

خذوا أشكال الحكم الثلاثة هذه - الديمقراطية والأوليغارشية والملكية - واجعلوها في خير صورها، فإنني أصر على القول بأن الملكية تبزُّ الأخريين بمراحل.

أي حكم يمكن له أن يكون خيرًا من حكم أفضل رجل في الدولة بأسرها؟ إن آراء رجل كهذا هي مثله هو، ولذلك فهو يحكم جماهير الشعب بما فيه رضى قلوبهم؛ مع بقاء تدابيره في حق الأشرار سرية على نحو أكبر مما في الدولتين الأخريين.

بخلاف ذلك، في الأوليغارشيات، حيث يتنافس الرجال بعضهم مع بعض لخدمة الصالح العام، فبالحريِّ أن تنشب عداوات حامية بين الرجل والآخر، رغبة من كل واحد في الزعامة، وفي إنفاذ تدابيره؛ حينئذ تثور الشجارات العنيفة، فتفضي إلى نزاع علني، كثيرًا ما ينتهي إلى سفك للدماء. حينئذ من المؤكد أن تأتي الملكية بعقب هذا؛ وهذا يبين أيضًا كم يبزُّ ذلك الحكم سائر ما سواه.

من ناحية أخرى، من المستحيل في الديمقراطية ألا تقع انحرافات في الممارسة. لكن هذه الانحرافات لا تفضي إلى عداوات، بل إلى صداقات وثيقة تقوم بين المنغمسين فيها، إذ يتعين عليهم أن يتماسكوا معًا كي يستمروا في جرائمهم. وتجري الأمور على هذا المنوال إلى أن ينهض رجل بصفته بطلاً للعامة ويقمع الأشرار. ومن غير تردد، يُعجب الكل بصاحب هذه الخدمة العظيمة، ومن الإعجاب به لسرعان ما يُعيَّن ملكًا؛ وعلى هذا النحو فمن الصريح هنا أيضًا أن الملكية هي خير الحكومات.

أخيرًا، لنلخص ما تقدم بكلمة - وأسألكم: من أين لنا الحرية التي ننعم بها؟ هل الديمقراطية هي التي أعطتنا إياها، أم الأوليغارشية أم الملكية؟ لما كان رجل واحد قد استرد لنا حريتنا فإن حكمي هو التمسك بحكم الواحد. بل لو نحينا هذه جانبًا، فإنه لا ينبغي لنا أن نبدل نواميس آبائنا ما دامت تعمل على نحو ملائم، لأن فِعل ذلك ليس بحسنٍ.

***

الإسكندر الأكبر
(356 - 323 ق.م)
"لن يكون لهذه الإمبراطورية حدود"
الهند، باكستان حاليًا
سنة 326 ق.م

كان الإسكندر الأكبر أحد أنجح القادة العسكريين في العالم القديم؛ كان ابنًا لفيليب الثاني، ملك مقدونيا، مملكة في شمالي اليونان فيها نفوذ منها. أعد فيليب جيشًا عظيمًا لإخضاع الدول اليونانية المتحاربة؛ ترك بموته في سنة 336 ق. م العرش والجيش للإسكندر. في سنة 334، عَبَر الإسكندر الشاب، ولما يتجاوز العشرين، الهيليسبونت (المضيق الذي يفصل بين أوروبا وآسيا، ويدعى اليوم الدردنيل). زحف جنوبًا وشرقًا لفتح الدول-المدينية التي بيد الفرس في آسيا الصغرى (تركيا الحديثة) وقطع "العقدة الغوردية" الصعبة في غورديوم، فكان ذلك نبوءة بأنه سيتزعم آسيا كلها. سقطت سوريا وصور وغزة واحدة إثر واحدة، ومن بعدها مصر. وفي مصر، أسس الإسكندرية ودعي إلهًا من كبار الكهنة. في سنة 331 ق. م، انعطف شمالاً فتغلب على الإمبراطورية الفارسية في ما بين النهرين، وزحف مخترقًا بابل (العراق اليوم) ومن بعدها ميديا وهيركانيا على بحر قزوين، ومضى شرقًا إلى سوسيانا (وهي جميعًا في إيران اليوم) بحلول سنة 330 ق. م، هازمًا للملوك والزعماء في طريقه. قام بحملة في الجبال ثلاث سنين مخترقًا بكتيريا وهندوكوش (كلاهما في أفغانستان)، ثم عطف جيشه الذي طال عناؤه داخلاً إلى الهند (باكستان الحديثة) في سنة 326 ق. م. عبر هيداسبيس، من روافد نهر السند، ونازل الملك بوروس، الذي أرعبت فيلته خيل الإسكندر وهو ما صعَّب عليه أمر استراتيجيته. وظفر المقدونيون، لكن الفصل كان فصل المطر وبعد ثماني سنين من الزحف حَرَن الرجال المنهكون عن المضي داخل الهند. (أثار حفيظتهم أيضًا أن الإسكندر حاكى آداب القصر الفارسي وكَبُر عليهم السجود له كما لو كان إلهًا). خطب الإسكندر في المتمردين يحضهم على عبور نهر هيفاسيس وفتْحِ آسيا بأسرها. أبى الرجال، فأخذ الإسكندر في رحلة العودة مخترقًا فارس. مات في بابل في حزيران سنة 323 ق. م، ولما يبلغ الثالثة والثلاثين، وقد فتح معظم العالم الذي كان يعرفه. روى هذه الخطبة التي يحض فيها الإسكندر رجاله على اتِّباعه المؤرخ اليوناني أرّيان النيقوميدي في القرن الثاني الميلادي.

الخطبة

ألاحظ، أيها الأماجد، أنني لما عزمت أن أقودكم في مغامرة جديدة فإنكم لا تتبعوني بعزمكم القديم. لقد طلبت أن نلتقي لعلنا نتخذ قرارًا معًا: هل نمضي قدمًا، كما أرى، أم ننعطف عائدين، كما ترون؟

إن تكن لكم شكوى من نتائج جهودكم إلى هذا الحين، أو مني بصفتي قائدًا لكم، فما من شيء يقال بعد هذا. لكن دعوني أذكِّركم: بشجاعتكم وتحمُّلكم ملكتم يونيا والهيليسبونت والفريجيتين وكابادوكيا وبافلاغونيا وليديا وكاريا وليكيا وبامفيليا وفينيقيا ومصر.

الجزء اليوناني من ليبيا هو الآن لكم، ومعه جزء كبير من بلاد العرب وسوريا السفلى وما بين النهرين وبابل وسوسيا. فارس وميديا ومعها كل الأقاليم التي سيطرتا عليها سابقًا أو لم تسيطرا هي في أيديكم.

لقد جعلتم من أنفسكم سادة البلدان التي وراء بوابات قزوين، ووراء القوقاز، ووراء تانايس، وسادة بكتيريا وهيركانيا والبحر الهيركاني. لقد دفعنا السكيثيين ورددناهم إلى الصحراء؛ السند ومعه هيداسبيس، وأكيسينيس ومعه هيدراوتيس هذه الأنهار تجري الآن في البلاد التي هي لنا.

لماذا، وقد أنجزتم كل ذلك، تترددون في مد سلطان مقدونيا - سلطانكم - على هيفاسيس والقبائل التي على الجانب الآخر؟ أتخشون أن من قد بقي من أهل البلاد سوف يبدون مقاومة؟ هلموا، هلموا! أهل البلاد هؤلاء إما أن يستسلموا من غير حرب أو أن يُمسَكوا وهم يفرون - أو أن يتركوا بلادهم بلا دفاع لتأخذوها. وعندما نأخذها، نهديها للذين انضموا إلينا بإرادتهم الحرة ويقاتلون في صفنا.

للرجل الذي هو رجل، العملُ، في اعتقادي، إذا وجِّه إلى أهداف شريفة، ليس له قصد وراء ذاته. ومع ذلك، إذا كان أحد منكم يرغب في معرفة الحد الذي قد يوضع لهذه الحملة بعينها، فلأقل لكم إن البقعة التي ما تزال أمامنا من البلاد، من هنا إلى نهر الغانج والمحيط الشرقي، هي صغيرة مقارنة بغيرها. مما لا ريب فيه أنكم ستجدون أن هذا المحيط موصول بالبحر الهيركاني، لأن التيار العظيم للمحيط يطوق الأرض. أضف إلى هذا أنني سوف أثبت لكم، يا أصدقائي، أن الخليجين الهندي والفارسي والبحر الهيركاني ثلاثتهم جميعًا موصولون ومتصلون. سوف تبحر سفننا فتدور حول الخليج الفارسي نحو ليبيا حتى أعمدة هرقل، ومن هناك لسرعان ما تكون ليبيا في جهة الشرق كلها لنا، وآسيا كلها أيضًا، ولن يكون لهذه الإمبراطورية حدود إلا ما صنعه الله بنفسه للعالم برمته.

أما إذا انعطفتم الآن راجعين، فإنه سوف تبقى الكثير من الشعوب المولعة بالحرب التي لم تُخضع بين هيفاسيس والمحيط الشرقي، وليس بعيدًا عنهم عددٌ أكبر من عددهم في جهة الشمال والبحر الهيركاني، والسكيثيون أيضًا؛ وعلى هذا فإنْ ننسحب الآن يكن خطرٌ ألا وهو أن الأرض التي لم نمسكها بعدُ بإحكام قد تحركها للثورة أمةٌ لم نجبرها بعدُ على الخضوع. إن يحصل ذلك، يكن كل ما عملناه وكابدناه بلا ثمرة - أو إننا سنواجه مهمة فِعْل ذلك مرة أخرى من البداية. يا أماجد مقدونيا، وأنتم، يا أصدقائي وحلفائي، لا يجوز لهذا أن يكون. اصمدوا؛ فأنتم عالمون جيدًا بأن المشقة والخطر هما ثمن المجد، وأن مذاق حياة الشجاعة حلو وكذلك مذاق الشهرة التي لا تموت وتبقى خارج نطاق القبر.

ألا تعلمون أن هرقل، سلفي، لم لو يمضِ وراء تيرينس أو آرغوس - أو حتى وراء البيلوبونيز أو طيبة - ما كان له الظفر بالمجد الذي حوَّله من رجل إلى إله، حقًا أو ظاهرًا؟ بل إن ديونيسوس، وهو إله حقًا، بمعنى غير ما يصدق على هرقل، قد واجه مهام شاقة ليست قليلة. ومع ذلك فلقد فعلنا أكثر من ذلك: لقد جاوزنا نيسا وأخذنا صخرة آورنوس التي عجز عن أخذها هرقل نفسه. هلموا، إذًا؛ ضموا بقية آسيا إلى ما قد ملكتموه - إضافة صغيرة إلى الحصيلة العظيمة لفتوحاتكم.

أي عمل عظيم أو شريف كان لنا أن ننجزه لو قلنا في أنفسنا كفى، عائشين في دعة في مقدونيا، قانعين بحراسة منازلنا، غير قابلين لعبء يتجاوز وقف تعديات التراقيين على حدودنا، أو الإليريين والتريباليين، أو ربما اليونانيين الذي قد يتبين أنهم خطر عظيم على راحتنا؟

ما كنت لألومكم أن كنتم أول من وَهَنَ لو لم أشارككم، أنا قائدكم، في زحوفكم المنهكة وحملاتكم المحفوفة بالمخاطر؛ لو أنكم قمتم بالعمل كله لتدعوا غيركم يجني المكافأة لكان الأمر طبيعيًا بقدر كافٍ. بيد أن الأمر ليس كذلك. لقد تقاسمنا، أنتم وأنا، أيها الأماجد، العمل وتقاسمنا الخطر، والمكافآت هي لنا جميعًا.

الأرض المفتوحة هي لكم. من صفوفكم اختير حكامها. لقد حصل في أيديكم الجزء الأعظم من كنزها، وعند الفراغ من اجتياح آسيا كلها حينئذ سوف أمضي وراء مجرد إرضاء طموحاتنا: أقصى الآمال في الثروة أو السلطة التي يتعلق بها قلب كل واحد منكم سنكون قد تجاوزناها بمراحل وكل من رغب في الرجوع إلى الوطن سوف يُجاز له ذلك، معي أو من دوني.

سأجعل الذين يبقون مَحسدةً للذين يرجعون.

***

الإمبراطور كوتوكو
(596؟ - 654)
في أمر التَّدْرُج الأبيض
أسوكا، اليابان
650

تأثرت الثقافة اليابانية الباكرة بالصين تأثرًا قويًا، من طريق شبه الجزيرة الكورية. وصلت البوذية إلى اليابان في القرن السادس، لما كانت عاصمة الإمبراطور كوتوكو في أسوكا، بالقرب من نارا اليوم. وضع "إصلاح تايكا"، الذي نشره الإمبراطور في سنة 646 سعيًا منه لصوغ الحكم الياباني بالأسلوب الصيني المركزي، وضع كل الأراضي في حوزة الإمبراطور وفرض الولاء على العشائر وكبار القادة العسكريين. كذلك أسس جهازين جديدين للضرائب واستعمال الأرض. درس الشعب الياباني اللغة الصينية والفنون الصينية والأدب والدين الصينيين. في سنة 650، جلب أحد الموظفين من ولاية آناتو للإمبراطور تَدْرُجًا أبيض نادرًا عثر عليه في جبل أونوياما. فتش المؤرخون من مملكة بيكشِه الكورية في سجلاتهم فوجدوا أن طيور التَّدْرُج البيضاء قد شوهدت حقًا في الصين في سنة 68، في عهد مينغ تي من سلالة هان، وكذلك في سلالة تشو الباكرة. كان الطائر فألاً حسنًا لليابان. اقترح الرهبان البوذيون على الإمبراطور إعلان عفو عام للاحتفال مع الشعب. لاحظ الكاهن الأكبر أن المخلوق هو آية لمُلك حاكم حكيم ورؤوف، وقال أيضًا: "متى تكن للحاكم عادات مقتصدة فإن طيور التَّدْرُج البيضاء تأتي ظاهرة على التلال". بعد ذلك بأيام قليلة، حُمل التَّدْرُج الأبيض، الذي خصص لحظيرة حديقة القصر، مُهابًا في محفة إلى قاعة الإمبراطور بأيدي كبير الموظفين الإمبراطوريين وحاشيته. هناك أخذ حرس القصر صفوفهم لابسين أفخر ثيابهم التي يلبسونها في أعظم المناسبات الاحتفالية. تناوب الوزراء الكبار وبعض الأمراء والمُقدَّمين على نقل محفة التَّدْرُج ووضعوها أمام كوتوكو وولي عهده. هنأ أحد الوزراء الإمبراطور قائلاً إنَّ التَّدْرُج هو آية على أنَّه سوف يحكم عشرة آلاف سنة. ردًا على ذلك ألقى كوتوكو هذه الخطبة، مختتمًا بالأمر أن تُبعد البواشق، لأنَّها من الجوارح التي هي خطر على طيور التَّدْرُج.

الخطبة

عندما يظهر حاكم حكيم في العالم ويحكم الإمبراطورية تسرع السماء في الاستجابة له وتبدي البشارات. في الزمان الغابر، شوهدت طيور التَّدْرُج البيضاء في زمان مُلك تشنغ-وانغ من سلالة تشو، وهو حاكم للبلاد الغربية، ومرة أخرى في زمان مينغ تي من سلالة هان.

في بلادنا اليابان هذه، في زمان مُلك الإمبراطور هومودا، اتخذ غراب أبيض عشه في القصر. في زمان الإمبراطور أو - سازاكي، ظهر في الغرب تنين - حصان. يُبين هذا الأمر أنه منذ غابر الأزمان وإلى الآن قد حدث مرات كثيرة أن ظهرت الأمارات الميمونة استجابة للحكام الفاضلين. إن ما ندعوه بالعنقاء والفرس الوحيد القرن والتَّدْرُج الأبيض والغراب الأبيض، وما شابه ذلك من الطير والوحش، ومعها النبات والشجر، واختصارًا كل الأشياء التي لها خاصة الاستجابة ذات المغزى، هي بشارات وآيات ميمونة أتت بها السماء والأرض.

الآن من الملائم والصحيح أن ينال الملوك والحكماء المتنورين أمارات ميمونة كهذه. لكن ما السبب في أننا، نحن أصحاب الخواء والضحالة البالغين، قد نلنا هذا الحظ السعيد؟ لا ريب في أن مرد ذلك برمته هو إلى مساعدينا ووزرائنا وكبار الموظفين الإمبراطوريين وكبار الموظفين الإلهيين وكبار موظفي القصر وكبار الموظفين المحليين، إلى امتثال كل واحد منهم، بغاية الولاء، إلى التنظيمات الموضوعة. من أجل هذا فليعمل الجميع، من الوزراء إلى من دونهم من الموظفين، على أن يُجِلُّوا بقلوب نقية آلهة السماء والأرض، وليجعلوا، بقبولهم أفرادًا وجماعة للأمارة السارَّة، الإمبراطوريةَ تزدهر.

لما كانت السماء قد وضعت في عهدتنا الولايات والنواحي في الجهات الأربع، فإننا نُنْفذ حكمنا السامي في الإمبراطورية. الآن في ولاية آناتو، التي حكم عليها أسلافنا الإلهيون، ظهرت هذه الأمارة الميمونة. لهذا فإننا نعلن عفوًا عامًا في أرجاء الإمبراطورية كافة، ونفتتح عامًا جديدًا ندعوه هاكو-تشي، أي التَّدْرُج الأبيض. علاوة على ذلك فإننا نحرِّم طيران البواشق داخل حدود ولاية آناتو.

***

طارق بن زياد
(توفي سنة 720)
قبل معركة غواداليته
جبل طارق
30 نيسان 711

الخطبة[2]

أيُّها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدوُّ أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر.

واعلموا أنَّكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، وقد استقبلكم عدوّكم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوّكم، وإن امتدَّت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمرًا ذهبت ريحكم، وتعوضت القلوب من رعبها منكم الجراءة عليكم.

فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإنَّ انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت، وإنِّي لم أحذِّركم أمرًا أنا عنه بنجوة، ولا حملتكم على خطةٍ أرخص متاعٍ فيها النفوس إلا وأنا أبدأ بنفسي.

واعلموا أنَّكم إن صبرتم على الأشقِّ قليلاً، استمعتم بالأرفه الألذِّ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فما حظكم فيه بأوفى من حظيَّ.

وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان، من بنات اليونان، الرافلات في الدرِّ والمرجان، والحلل المنسوجة بالعقيان، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان.

وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عربانًا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارًا وأختانًا، ثقةً منه بارتياحكم للطّعان، واستمتاعكم بمجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حظَّه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة. وليكون مغنمها خالصة لكم من دونه ومن دون المؤمنين سواكم. والله تعالى وليَّ إنجادكم على ما يكون لكم ذكرًا في الدارين.

واعلموا أنِّي أوَّل مجيبٍ إلى ما دعوتكم إليه، وأنِّي عند ملتقى الجمعين حاملٌ بنفسي على طاغية القوم لذريق فقاتله إن شاء الله تعالى، فاحملوا معي، فإن هلكت بعده فقد كفيتكم أمره، ولم يعوزكم بطلٌ عاقل تسندون أموركم إليه.

وإن هلكت قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه، احملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا الهمَّ من فتح هذه الجزيرة بقتله، فإنهم بعده يخذلون.

***

وليام الفاتح
(نحو 1028 - 1087)
قبل معركة هيستينْغز
تل سينلاك، ساسِكس الشرقية، إنكلترا
14 تشرين الأول 1066

ولد وليام الفاتح في نحو سنة 1028 في نورماندي، في البقعة من شمالي فرنسا التي ما تزال تدعى بذلك الاسم؛ كان ما يزال في السابعة لما أصبح يدعى وليام الثاني دوق نورماندي، خلفًا لأبيه، روبرت الثاني دوق نورماندي، في سنة 1035. لما فتح إنكلترا، في سنة 1066، أصبح أيضًا وليام الأول ملك إنكلترا. استوطن إنكلترا منذ القرن الخامس شعب ينتسب إلى قبائل الأنكل والساكسون (من ألمانيا) وكذلك اليوتيون (من الدانمارك). في الجانب الآخر من "القنال الإنكليزي" كان النورمانديون قد نسلوا حديثًا من جذور الفايكنغ في إسكندنافيا. بعد حروب مع الفرنكيين الفرنسيين، سكنوا في نورماندي (اسم مشتق من "إنسان الشمال")، قبالة الساحل الجنوبي لإنكلترا. قامت بين البلدين علاقات متنامية. في القرن الحادي عشر اتخذ الملوك الإنكليز زوجات لهم من أشراف النورمانديين. كانت أم إدوارد المعترف (مَلَك 1042 - 1069)، وهو الملك قبل الأخير من الملوك الأنكلوسكسون، كانت أمه، إمّا، ابنة ريتشارد الأول دوق نورماندي (مَلَك 996 - 1026/1027) وإمّا هي عمة الدوق وليام. في الحقيقة، قضى الملك إدوارد شبابه منفيًا في نورماندي هربًا من أعمال السلب التي قام بها الفايكنغ في غزو سنة 1013. لم يكن لإدوارد وريث مباشر. وعند وفاته في كانون الثاني 1066، توج هارولد غودوينسون، إيرل ويسكس القوي وهو من الأنكلوسكسون، توج ملكًا لإنكلترا باسم هارولد الثاني. في نورماندي، اغتاظ الدوق وليام، الذي ادعى أن الملك إدوارد - ابن عمته - قد وعده بالعرش الإنكليزي وأن هارولد قد حلف له بالتأييد. شن وليام غزوته في أواخر أيلول؛ في 14 تشرين الأول التقى جيشه بجيش هارولد على تل سينلاك بالقرب من بلدة هيستينغز. قُتل هارولد وهُزم جيشه. غدت معركة هيستنيغز المرحلةَ الأولى من الفتح النورماندي لإنكلترا والنهايةَ لعصر السيادة الأنكلوسكسونية. جلب النورمانديون معهم أعراف الولاء وملكية الأرض والعمل، وهي أعراف النظام الإقطاعي الأوروبي، أتوا بها إلى إنكلترا وأضافوا مقدارًا عظيمًا من المفردات إلى اللغة الإنكليزية. روى هنري الهنتنغدوني، وهو مؤرخ إنكليزي من القرن الثاني عشر، روى خطبة قال إن وليام ألقاها على كتائب خيالته الخمس قبل معركة هيستينغز.

الخطبة

ما ينبغي عليَّ أن أقوله لكم، أيها النورمانديون، يا أشجع الأمم، لا ينبعث عن أدنى شك في بسالتكم أو ريب في النصر، الذي ما أفلت قطُّ من مساعيكم بسبب مصادفة أو عائق. لو أنكم، حقًا، فشلتم ولو مرة واحدة في فتحٍ، لربما كان من الضروري إيقاد شجاعتكم بالتحريض. لكن ما أقلَّ ما تحتاجه عزيمة عرقكم المورثة إلى الاستثارة!...

ألم يُخضع رولّو، أحد آبائي، مؤسس أمتنا، مع أسلافكم، في باريس ملك الفرنكيين في قلب ممتلكاته؟ أم هل قر له قرار حتى قدَّم بتواضع مُلك البلاد - التي تدعى بسببكم نورماندي - إلى يدي ابنته؟

ألم يأخذ آباؤكم ملكَ الفرنسيين أسيرًا، واعتقلوه في روين حتى ردَّ نورماندي إلى دوقكم ريتشارد، وهو يومئذ صبي؛ تحت هذا الشرط، ألا وهو أنه في كل اجتماع بين ملك فرنسا ودوق نورماندي، يكون مع الدوق سيفه على جنبه، أما الملك فلا يُسمح له حتى بخنجر؟ لقد أرغم آباؤكم الملكَ العظيم على الخضوع والقبول بهذا التنازل، على سبيل الإلزام إلى الأبد.

ألم يتولَّ نفس الدوق قيادة آبائكم إلى ميرماند، عند أسفل جبال الألب، وفرض على سيد البلدة، وهو صهره، أن يطيع زوجته، ابنة الدوق؟ أم هل كفاه قهر الفانين؛ فلقد تغلب على الشيطان نفسه، لما صارعه وطرحه أرضًا وقيدَّه، فتركه في مشهد مخزٍ أمام الملائكة.

لكن لماذا أرجع إلى الزمان الغابر؟ لما اشتبكتم في زماننا نحن، مع الفرنسيين في مورْتيمَر، ألم يختر الفرنسيون الفرار على القتال، ألم يستعملوا مهاميزهم بدلاً من سيوفهم؛ أما أنتم - وقد قُتل رالف، القائد الفرنسي - فقد جنيتم ثمار النصر والشرف والغنيمة، بصفتها نتائج طبيعية لنجاحكم المعتاد؟

آه! ليتقدم أي واحد من الإنكليز الذين هزمهم أسلافنا، من الدانماركيين والنرويجيين كليهما، في مئات المعارك، ليتقدم وليبيِّن أن عرق رولّو كابد مرةً الهزيمة منذ زمانه إلى اليوم، فإنني أخضع وأتراجع.

أليس من المعيب، إذًا، أن شعبًا تعوَّد أن تُفتح بلاده، شعبًا جاهلاً بفن الحرب، شعبًا لا يمتلك حتى السهام، يتظاهر بالاصطفاف لخوض المعركة في وجهكم، يا أشجع الشجعان؟ أليس من المعيب أن هذا الملك هارولد، الذي حنث في حضوركم، أن يجرؤ على أن يبدي وجهه لكم؟

إنه لمن المدهش لي أنه أتيح لكم رؤية الذين قطعوا - بجناية فظيعة - رؤوس أقربائكم ورأس ألفْرِد قريبي، وأن رؤوسهم الملعونة ما تزال فوق أكتافهم.

ارفعوا، إذًا، يا رجالي الشجعان، راياتكم، ولا تجعلوا لغضبكم المُحِقِّ حدًا. ليلمع برق مجدكم، ولتُسمع رعود هجومكم ما بين المشرق والمغرب، ولتكونوا منتقمين للدم الشريف الذي أريق.

***

رئيس أندلسي من لشبونة
(من القرن الثاني عشر)
"هذه المدينة لنا"
لشبونة، البرتغال
30 حزيران 1147

في 23 أيار 1147 أبحر أسطول يضم 164 سفينة من إنكلترا قاصدًا الأرض المقدسة... يحمل على متنه صليبيين إنكليز وفلمنكيين ونورمانديين في البعثة الوحيدة التي نجحت من بعثات الحملة الصليبية الثانية... توقف الأسطول في أوبورتو ليقدم العون لألفونسو الأول، أول ملوك البرتغال، في الاستيلاء على لشبونه... وقع هجوم على لشبونه غير ناجح شنه صليبيون آخرون قبل ذلك بخمس سنوات، في سنة 1142. في 30 حزيران 1147 التقى كبير أساقفة براغا وأسقف أوبورتو وكلاهما مسيحيان برتغاليان، خلفهما نحو 13000 رجل، التقيا عند أسوار المدينة المحاصرة مع كبار رؤساء مسلمي لشبونة وقائد حصن المدينة. عرض كبير الأساقفة عليهم الصلح والأمان والحق في ممارسة دينهم إذا استسلمت لشبونه، والخراب إذا قاوموا. ردَّ أحد رؤساء الأندلسيين، لم يسجَّل اسمه، عرضَ الغزاة. سجَّل خطبةَ الرئيس أوسبيرنوس، صاحبُ تاريخ "فتح لشبونه"، وهو بحسب اعتقاد العلماء، كاهنٌ كان مع الصليبيين. في الأول من تموز بدأ الهجوم وأُخذت المدينة في 23 تشرين الأول. قضى الصليبيون الشتاء في لشبونه، ثم استأنفوا مسيرهم إلى القدس في شباط التالي.

الخطبة

أدرِك أنكم تملكون كلماتكم جيدًا. كلامكم لم يستخفكم، ولم يأخذكم إلى وراء ما تريدون. لقد كانت له غاية دون غيرها، ألا وهي أخذ مدينتنا.

بيد أنه لا ينقضي عجبي منكم، فمع أن غابة واحدة أو رقعة من الأرض تكون فيها كفاية لأفيال وأُسود كثيرة، فإنه ليس في البر ولا البحر كفاية لكم. حقًا أقول إن الذي يسوقكم ليس هو الرغبة في الممتلكات بل جامح طموح العقل.

أما ما تقدمتم به آنفًا في ما يتعلق بقَدَر كل طرف، فإنكم حقًا تتدخلون في مصيرنا. إنكم إذ تصفون طموحكم بأنه حماسة للاستقامة، فإنكم تلبسون الرذائل لباس الفضائل. فلقد بلغ طمعكم حدًا صارت معه الأعمال الخسيسة لا تلذ لكم فقط بل إنها تبهجكم؛ والآن مرت الفرصة لإحداث الشفاء أو كادت، لأن البطلان التام لطمعكم قد كاد يتجاوز نطاق الحد الطبيعي.

تحكمون علينا بالنفي والإملاق طلبًا منكم للرفعة. هذا التباهي بزهو يُعرف بأنه الطموح الجامح. لكن طعمكم، لما تجاوز الحد، قد تضاءل من نفسه دائمًا وتلاشى. كم نذكر إلى يومنا هذا من مرات كثيرة جئتم بالحُجَّاج والبرابرة لإخضاعنا وطردنا من هنا؟ لكنْ ألا تسركم ممتلكاتكم البتة، أم إنكم قد جلبتم على أنفسكم لومًا في الوطن حتى إنكم لا تنفكون عن الانتقال؟ مما لا ريب فيه أن تواتر ذهابكم وإيابكم هو دليل على عدم استقرار عقلي فطري، لأن الذي لا يمكنه أن يكبح حركة الجسد السريعة غير المنضبطة لا يمكنه السيطرة على العقل.

لم يبلغ بنا الأمر أن نقرر تسليم مدينتنا إليكم من غير قيد أو شرط أو نبقى فيها ونصير رعية لكم. لم يبلغ الأمر بشهامتنا حدًا أن نستبدل باليقين شكًا. من الواجب، في الأمور العظيمة، اتخاذ القرار برحابة في الرؤية.

لقد كانت هذه المدينة حقًا، كما أعتقد، لشعبكم ذات مرة؛ أما الآن فهي لنا. في المستقبل ربما تكون لكم. لكن ذلك سوف يكون بحسب أمر الله. سنملكها ما شاء الله لنا أن نملكها؛ متى يشأ غير ذلك تخرج من ملكنا. ما من سور يمنع من حكم مشيئته. لنقنع، إذًا، بما يرضي الله الذي طالما حقن دماءنا من أن تسفك بأيديكم. لقد حُق لنا، لهذا السبب، ألا نكف عن العجب منه ومن قدراته، والسبب في هذا، على وجه التحديد، هو أنه لا يُغلب، ولأنه قد جعل كل شر تحت قدميه، ولأنه - وهذا سبب لا يمكن أن يكون سبب آخر أعجب منه - يكشف عنا البلايا والأحزان والأضرار.

فانصرفوا من هنا، لأن باب الدخول إلى المدينة لن يفتح لكم إلا بسلِّ السيوف. فتهديدكم وجلَبَة البرابرة، الذين نعرف قوتهم أكثر مما نعرف لسانهم، ليس لهما موقع عظيم بيننا. أما النكبات والشرور التي لا تُدفع التي تتوعدوننا بها فإنها من أمر المستقبل، هل تأتي ومتى تأتي؛ ولا ريب في أنه ليس من العقل أن يشتد همُّ المرء لأمر المستقبل وأن يدعو البؤس إلى نفسه طواعية...

لكن ما بالي أطيل تأخيركم؟ افعلوا ما قَدِرتم عليه. أما نحن فسوف نفعل ما تحكم به مشيئة الله.

***

موكْتيزوما الثاني
(نحو 1466-1520)
ترحيب بهيرنان كورتيس في المكسيك
تينوشْتيتلان، أو مدينة مكسيكو
8 تشرين الثاني 1519

في مكان مدينة مكسيكو اليوم كانت تقوم ذات يوم تينوشْتيتلان العاصمة المزدهرة لشعب أزتيك (أو شعب ميخيكا) على بحيرة تيخكوكو... حكم موكْتيزوما الثاني آخر الملوك الكبار (مَلَك بين سنتي 1502و1520) حين كانت إمبراطورية الأزتيك في أوج غناها وسلطانها. وفي سنة 1519، وصل هيرنان كورتيس إلى ساحل يوكاتان مع 600 من الفاتحين بحثًا عن الذهب. في زحف كورتيس داخل البر، اختار حلفاء من المدن والأقاليم، من مثل سيمبوالا وتلاخكالا، التي نالها الظلم على يد الأزتيك. قال المؤرخون الأوائل إن موكْتيزوما قد حسب، لسوء حظه، أنَّ كورتيس هو الإله كويتْزالْكواتْل وقد رجع من المشرق (على ما يظن أن عِلْم الازتيك قد تنبأ به)، فأرسل الرسل يقدمون المشغولات الذهبية إلى الإله الذي ظن أنَّه كورتيس. لكن مؤرخي الوقت الحاضر ينسبون تلك الفكرة إلى النفوذ الإسباني وما حاكه من أساطير. على كل حال، التقى ملكُ الأزتيك، وقد ارتدى أفخر ملابسه، وفي حضور الأشراف، التقى الإسبانيَ بعقد من الذهب خرافي وبخطبة ترحيب. رد كورتيس قائلاً: "لقد قدمنا إلى منزلك في المكسيك كأصدقاء. ما من شيء تخشونه". لسرعان ما حُبس ملك الأزتيك بأمر كورتيس، وقُتل بعد ذلك بثمانية أشهر. ألقى الفاتحون الحصار على تينوشْتيتلان وعمدوا إلى النهب والحرق والقتل حتى استسلمت المدينة المدمرة في 13 آب 1521. لخطاب موكْتيزوما المرحب بكورتيس نسختان، واحدة في "رسائل كورتيس إلى شارل الخامس" لكورتيس، والأخرى في "المخطوطة الفلورنسية" وهي رواية محلية. للاختلاف الكبير الذي يظهر بين الخطبتين أسباب كثيرة. لقد اقتضى الحديث الذي دار بين موكْتيزوما وكورتيس مترجمَين: امرأةً محلية ترجمت من ناهوتال وهي لغة موكْتيزوما إلى لغة مايا، وإسبانيًا كان يتكلم بلغة مايا بطلاقة. لقد دوَّن كورتيس نسخته بعد وقت قصير من المحادثة، أما الرواية المكسيكية فقد كُتبت (بمساعدة كاهن إسباني) بعد ذلك بخمس وثلاثين سنة من قِبل مسنين محليين كانوا حاضرين وقت الفتح.

خطبة موكْتيزوما، من المخطوطة الفلورنسية

إنك مرهق، يا سيدي. لقد أتعبك السفر، لكن الآن قد بلغت الأرض. لقد أتيت إلى مدينتك مكسيكو. أتيت إلى هنا لتجلس على عرشك.

إن الملوك الذين مضوا، وهم مندوبوك، قد حرسوه وحفظوه لأجل مقدمك. لقد حكمَ الملوك إتْزكواتْل وموتيكوهْزوما الأكبر وآخاياكاتْل وتيزوك آهويتْزول حكموا بأمرك في مدينة مكسيكو. بسيوفهم احتمى الشعب وبدروعهم استتر.

هل يعلم الملوك مصير الذين خلَّفوهم وراءهم، ذريتهم؟ ليتهم نظروا! ليتهم استطاعوا رؤية ما أرى!

كلا، هذا ليس حلمًا. لست أمشي في نومي. لست أراك في أحلامي... أخيرًا رأيتك! لقيتك وجهًا لوجه! لقد تألمت خمسة أيام، عشرة أيام، وقد تسمرت عيناي على "إقليم الغموض". والآن قد أتيتَ من السحاب والضباب لتجلس على عرشك من جديد.

لقد تنبأ الملوك الذين حكموا مدينتك بهذا، وها قد حصل الآن. قد رجعت إلينا؛ نزلت من السماء. لتسترحْ الآن، ولتحُزْ منازلك الملكية. مرحبًا بك، يا سيدي، في بلادك!

خطبة موكْتيزوما، من "رسائل كورتيس" لكورتيس

علمنا منذ زمان بعيد، من تاريخ آبائنا، أنه لا أنا ولا الذين يسكنون هذه البلاد، هم من ذرية أهلها، بل من ذرية قوم غرباء جاؤوها من منطقة قصية جدًا.

ونعتقد أيضًا أن عرقنا قد جيء به إلى هذه المنطقة على يد سيد، فكانوا جميعًا مُقطَعوه[3]، وقد رجع إلى بلاده، وأنجب أولادًا كثيرين، وشيد مدنًا سكنوا فيها. ولما أراد أن يأخذهم معه أبوا أن يذهبوا، بل لم يقروا به حاكمًا عليهم، فغادرهم.

ولقد اعتقدنا دائمًا أن الذين نسلوا منه سوف يأتون ليخضعوا هذه البلاد ويخضعونا، ويجعلوننا مقطعين له. وبحسب الجهة التي قلت إنك منها أتيت، وهي جهة مطلع الشمس، واستنادًا إلى ما تنبئنا به عن سيدك العظيم، الملك، الذي أرسلك إلى هنا، فإننا نعتقد، ونتيقن، أنه سيدنا حقًا، ولا سيما أنك تقول إن أخبارنا قد بلغته منذ أيام طويلة.

لأجل هذا فلتكن على يقين من أننا مطيعون لك، وأننا نراك مندوبًا لهذا السيد العظيم الذي تتحدث عنه، وأنه لن يكون في هذا تقصير ولا خديعة؛ وفي أرجاء البلاد كلها لك أن تأمر فتطاع (أتحدث عما أحوزه في ممتلكاتي)، لأنك سوف تطاع ويُقَر لك بالحكم، وكل ما نملكه هو تحت تصرفك.

وإذ إنك في موضعك الذي هو حق لك، وفي منازلك، فلتنعم ولتسترح، متخلصًا من مشقة السفر والحروب التي مررت بها، فأنا على علم جيد بكل ما حصل لك في ما بين بونْتونْشان وهاهنا، وأعلم جيدًا أن أهل سيمْبوال وتاسْكالْتيكال قد حدثوك عني بالكثير من الأشياء الشريرة.

لا تصدق شيئًا سوى ما تراه بأم عينيك، ولا سيما ما يبلغك من أعدائي وكانوا مقطعين لي فتمردوا علي عند مقدمك (كما يقولون) من أجل أن يعينوك. أعلم أنهم قالوا لك أيضًا إن لي منازل حيطانها من ذهب، وإن أثاث قاعاتي وسوى ذلك من أغراض خدمتي هي أيضًا من ذهب وإنني إله، أو إنني أجعل من نفسي إلهًا، والكثير من الأشياء الأخرى. المنازل التي رأيتها هي من كلس وحجر وتراب.

انظر إلي ترَ أنني من لحم وعظم، مثلما أنت، مثل كل الناس، وأنا من الفانين والمحسوسين. انظر كيف كذبوا عليك! من الحق أن لي أشياء من ذهب، تركها لي أبائي الأولون. كل ما أملكه هو لك متى شئت.

سوف أنصرف الآن لأسكن في منازل أخرى؛ أما أنت فسوف يُقدم لك هنا كل ما تحتاجه أنت ومن معك، ولن تعاني إزعاجًا، لأنك في منزلك وبلدك.

*** *** ***


 

horizontal rule

* المصدر

McIntyre, Suzanne. Speeches in World History. Facts On File: New York, 2009.

[1] جين أتشِسن، بذور الكلام: أصل اللغة وتطورها، ترجمة: وفيق فائق كريشات، الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، 1999، ص 45.

[2] نقل المؤلفُ الخطبةَ مترجمةً من كتاب"نَفْح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" للمقري التلمساني (1584-1631) ونحن أوردناها بنصها العربي من ذلك الكتاب. اكتفينا بالخطبة من غير تقديم لها لشهرة فتح الأندلس عند القراء العرب، لكننا ننوه بأن الملك الإسباني الذي كان خصم طارق في المعركة هو رُدِريك وتورده المصادر العربية باسم لذريق. [المترجم]

[3] المُقطَع شخصٌ يقطعه السيد الإقطاعي أرضًا لقاء تعهده بتقديم المساعدة العسكرية له. [المترجم]

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني