احتجاج
بشار
عطا الله البطرس
قبل
أن أستيقظ، كان سكان الطوابق
العليا، قد سبقوني بملابس النوم، ينظرون إلى مدخل البناء، بعضهم يشتم،
وبعضهم يحني جذعه، كي يرى من الأدراج، ماذا يحصل أمام شقة الطابق
الأرضي التي أسكنها.
نظرت في العين الساحرة، فرأيت قطيعًا من الكلاب، تجمهر أمام الباب
الخارجي لشقتي، لم أستطع حصر عددها، فلم تكن كلها في مرمى النظر،
استغربت الأمر وفكرت: "هل أنا المقصود بهذه الزيارة الليلية؟ وإذا كنت
أنا فلماذا؟".
اختلطت الأصوات... حاول بعض السكان طرد القطيع مستخدمين سطول الماء،
وحبات البصل والبطاطا، بعضهم تجرأ على النزول قريبًا من الدرجات
الأولى، وصار يحرك ذراعيه مهددًا. كانت الكلاب توقف النباح، وفي أحسن
الأحوال تهرب إلى آخر المدخل، ثم تعود، وتقعى عند بابي!
سمعت من خلف الباب أصواتًا تنادي: "يا أستاذ محمود، افتح الباب، ودعنا
نر، فلعل حل الموضوع في يديك!".
الكلاب أمام بابي تمامًا، يتقدمها كلب أسود هرم، لم تعد ترهبها حبات
البصل والبطاطا من جيران يائسين خائفين، أقلعوا عن محاولاتهم منكسرين،
ولم يبق من الجلبة سوى أصوات الأطفال، الذين أرعبهم المنظر، فتمسكوا
بأثواب أمهاتهم، وأداروا ظهورهم للمشهد معانقين رقاب من حملهم!
جهزت بندقية صيد الكلاب، التي استلمتها من لجنة الحي لملاحقة الكلاب
الشاردة في شوارعه، وقتل إناثها بعد منتصف الليل عند حاويات القمامة،
أو في شوارعه الفرعية للحد من تكاثرها، فاستطعت بمساعدة الزملاء
التقليل من عددها في الحي.
استجمعت، ما بقي لدي من هدوء أعصاب، وفتحت الباب!
بيني وبينها أقل من متر، لذلك لم أتعد عتبة الباب، صوبت البندقية إلى
رأس الكلب الأسود، مراعيًا أنه لو هاجمني، سأغلق الباب حتمًا، لم يتحرك
بل نظر إلي بدون خوف أو همهمة، محركًا طرف ذيله الحر جراء إقعائه على
الأرض...
هل أطلق؟!
صرخ بعض الرجال من فوق الأدراج: "أطلق يا أستاذ محمود.. على علمنا أنكم
خلصتمونا من الكلاب الشاردة، وأخذتم مكافأة من المحافظة، فما هذا الذي
نراه؟".
لم أجب الرجل! لكنني عرفته، إنه طبيب أمراض نسائية جبان، وكان أول من
اشتكى للجنة الحي موضوع الكلاب الشاردة.. كان ذهني مركزا على ما سأفعل،
فالكلب الأسود لم تخفه البندقية! لا بد أنه اعتاد عليها، حينما طورد
بمثلها يومًا، والآن لا يعنيه الموت بمجرد ضغطي على الزناد.
"أطلق يا أستاذ محمود! لا بد أنك حين تقتل هذا التيس الكبير، فإن
الكلاب ستتفرق". قلت في نفسي: "ماذا لو هاجت الكلاب أكثر، فالواضح أن
لديها رسالة ما، وفي مخزن البندقية خمس طلقات فقط، وباقي الكلاب الحية،
قد تهاجم الجيران؟".
"أطلق يا أستاذ بحق الله! نريد أن ننام، ألا ترى خوف الأطفال؟".
أرخيت البندقية، فتحت المصراع الثاني للباب، ووقفت ملصقًا ظهري
بالجدار، فاسحًا أكبر فراغ في الباب المفتوح.
قام الكلب الأسود، تمطى، رفع ذيله في الهواء، عبر عتبة الباب معلنًا عن
رغبته ودعوته لرفاقه، في أن يدخلوا خلفه!!
سبقته إلى الصالون، أرشده إلى الطريق، تبعني وتبعته عشرة كلاب، تركتها
هناك وخرجت إلى الباب المفتوح.
كان الذهول يسم وجوه رجال البناء، لقد تجرأ بعضهم، ونزل ومد رأسه عبر
الباب. قلت لهم: "لن أوصد الباب، قد تخاف الكلاب أكثر، إن حصل مكروه،
فأرجو الاتصال بالإسعاف فورًا"! وعدت!
جلست الكلاب على مقاعد غرفة الصالون، ولأن المكان لا يتسع إلا لعشرة
زائرين، فقد بقيت أنا والكلب الأسود بلا أمكنة!! آسفًا.
تبرع كلب، تبدو عليه اليفاعة بمقعده للكلب الأسود، لكنه رفض، وجلس في
صدر الصالون وراء "الطربيزات"، سحبت إحداها من أمامه، كي أجلس في مكان،
يراني، وأراه على أفضل وجه. هكذا صرنا صندوقًا مفتوحًا، في مركزه أقعى
الكلب الأسود الضخم، وأنا في مواجهته، والكلاب على يميننا ويسارنا!!
ساد الهدوء.. لم تأت الكلاب بأية حركة بانتظار إشارة ما.
هززت رأسي آسفًا.. هل يقضي واجب الضيافة، أن أقدم لها شيئًا؟ هل تشرب
الشاي أم القهوة المرة؟ وإذا كانت جوعى، فكيف أقدم لها اللحم، إذا
توفرت عندي كمية كافية لأحد عشر ضيفًا!!
لم يعطني الكلب الأسود فترة أطول للتفكير، مال على جنبه الأيمن، ففعلت
الكلاب مثله، بعضها عانى من ضيق المقعد، لكنها تدبرت أمرها.
باستعراض سريع، اكتشفت أنها كلاب ذكور!!
باعد الكلب الأسود ما بين ساقيه، وقرب لسانه العريض، وبدأ يلعق!
نظرت يمينًا ويسارًا: على كل مقعد من مقاعد صالوني، بدأ ينتصب قضيب
مختلف الحجم والطول لكل كلب!
كانت الكلاب مستعجلة في أداء عملها، حتى أنها لم تنظر إلي، أو إلى
الكلب الأسود لحظة واحدة!
انهمكت كليًا في هذا الطقس، حتى أنهى بعضها عمله، وعاد إلى جلسته
الطبيعية، وبعضها ما يزال يحاول، أما الكلب الأسود، فكان يلعق بهدوء،
ويستريح قليلاً، فلا بد أن عمره لا يساعده! إلى أن أنهى عمله، بعد أن
فرغت الكلاب جميعها من عملها! نظر إلي نظرة، لا تحتاج إلى ذكاء في
التفسير!
خرج من الصالون، يتبعه رفاقه محافظين على أدوار نزولهم عن المقاعد،
عبروا، ومضوا بخفة النمور.
"طمئنا يا أستاذ محمود! لقد خرجت الكلاب بوداعة تلفت النظر".
"ذهبوا، ولن يعودوا مرة ثانية!!".
*** *** ***