ماذا فعلت بالحياة التي كانت على زورق؟
راما وهبة
(1)
أحدق في الوجوه
الوجوه جميعها
تلك التي فقدت أسماءها في العودة.
العازف يحفر وجهه
بالأنفاس المفتوحة على سلالة الأرق
والمدن تزدحم بالرئات اللقيطة مما لا سبيل إلى احتوائه.
أردت أن أعرف طعم
الخفة
كوجه تلك المرأة التي تحمل سيجارتها بأطراف أصابعها
وتغمض جفنيها على إيقاع لحن بطيء
وكأن هذا العالم لم يعد كافياً للارتماء.
حين تعلمني كيف تفسر
اللمس بأرض ثانية
سأخبرك كيف يتبعك الكلام
بالوجوه التي يمحوها المطر
لنتوقف قليلاً عن الهذيان بالسلاسل.
الوجه الذي يرتفع
في الشهيق الحاد لرطوبة النوافذ
ليماثل نيسان في افتراقه نحو الأجراس
والسؤال الذي يحترق كل شيء بعده مؤنثاً بالريح.
الوجه الذي لا يتكرر
أبداً
حين أحصي الربيع من مسافات نادرة
لألمس الصدفة الأولى بين الهواء والأغنية.
ليس أكثر من عينيك
للشرود مع المحال
ليس أكثر من نزوتك للاقتراب من بديهة الروائح
ليس أكثر من التفاتك بقمح النهار
ليس أكثر من فمك الذي يختار نضوجه بدقة
ليس أكثر من وجهك
في الوجوه جميعها
تلك التي فقدت أسماءها في العودة
***
(2)
متعب
من لا شيء
ليس دم الطائر ما يجمعنا
ولا حتى فراغ الوقت من كل ما نريد
ليحاول الربيع أن ينزه الأبد في كلمات قريبة.
لا أعرف كيف أشارك
الآخرين
السؤال الذي يمضي هاربًا
بكلتا يدي.
رأيت ذلك المشهد
المرعب
لسماء زرقاء بلا أدنى حركة
وعرفت كيف الحب أيضًا
لا يكتفي بالبقاء.
أحب الشعر الذي
يجعلني
كحقيقة
تجاور الزوال.
بعينين
سأكون هذا الصمت الذي يحملك
من نجمة إلى أخرى.
***
(3)
كلانا يعلم
بأن البحر هجرة شموس لا تحصى
وأننا لن نصل إلا إلى حيث يفتقد كل شيء معناه
في توهج الصمت الأخير.
دميتي الأولى
كانت حبات الجوز التي تطفو على الماء
كاتساع الدوائر في كلمات مفردة.
أتذكر حين مزقت أمي
ثوبي الأحمر
لتصنع منه فزاعة للعصافير
التي تكاثرت حوله.
بإمكانك أن تعرفني
دائمًا
من الموت الناعم لأزهار التفاح
مثلها أحببت كثيرًا
أحببت مرة
ولازلت وحدي.
لا تصغ إلى فان غوخ
سيستبدل رأسك بزهرة عباد شمس
ليوهمك بأن الضوء طريق في العزلة
ويكمل رقصه في السنابل مع ارتفاع سواد الغربان.
لا أعلم ما الذي
يحتويك أكثر
الفجر العنيد بكل روائحه
أم الانعكاس المبهم لحركة الأوراق
إلا أنه سيكون من الصعب مغادرة هذا العالم
لمجرد أن الكلمة احتراق مضاعف
من وراء كل العيون التي
تسيل على حافة.
***
(4)
عوضًا عن الصمت أزرع
الحديقة
بتلك الأشياء التي فشلنا مرارًا في قولها
تقول: لا بدَّ للأغنية من بدايات في الريح
أقول: تطلع الكلمة من عتمة مفتوحة على الإزهار
ونسينا أن الأصوات جميعها حياة تنتظر.
أبحث عن يدك
كما لو كانت صليبًا
تقول: لم يعد بإمكانك حشد قلب للزوال
ولا أدري لم الصرخة يستعيدها الموج بكل عزلته الشاقة
أهذي:
في الموت يرى الحب نفسه.
في اللحظة التي تثلج
فيها على العالم
أطمئن
للجدار الذي ينهدم.
سمها خطوة
بينما تتقدم رافضًا رأسك في الهواء
تلك النجمة التي تلمع على لسان الله كحليب الصُّدفة.
ربما كنت امرأة تعجز
عن أشياء كثيرة
كالضحك بصوت مرتفع
الرقص مع الآخرين
الكلام كما يجب
النوم كحقيقة
لكنني أحببتك
لأنك لن تكون مثلي يومًا.
***
(5)
لماذا تعود أيها
النهار
مدعيًا أن الريح تعرفنا جميعًا
بهيئة احتراق اللحظة بين عظامنا البيضاء؟
لم أتمكن من النوم
الليلة
تسع خطوات بين طاولتي والمطبخ
كانت كافية لأكره ما أحب وأتأمل صمتي بقدمين باردتين
أتذكر صياح أمي: "لا تمش حافية... مثل فلاحة".
تبدو الحدائق ليلاً
وكأنها تمتلك الرؤية خلف أسوار
وتعرف المطلق الذي يمنح الوردة موتها.
لا أريد لكلماتي أن
تكون أكثر
من هذه الأبخرة التي ترسم أنفاسك على الزجاج في دوائر.
مثل عينيك
قرابتي بالنجوم
كالزبد الذي ينطفئ آخر الموسيقى.
أعلم أنني حين لا
أقول شيئًا
سأبقى كفكرة
ترتعش.
***
(6)
لندع الأشياء تتحدث
كما لو أننا نحصي المسافة
بين الأصداء التي تنطفئ على مهل
الكلمة لا تخرج من شفتيك
إلا وهي تراب.
يدان لعالم واحد
كجميع الظلال التي تتجاوب
في الأوراق الصغيرة لشجر الحور
لتعرف مرة أخرى طعم الأنهار.
حين تغمض جفنيك
لا أعرف كيف أستعيد بريتي
دون أن أجرح ركبة ضالة.
الأصوات التي نحملها
أكثر اتساعًا
لمغيب الشمس
كحنجرة في الماء.
كما لقلبك مجهول
المنارات
القواقع في كنائسها أيضًا
تعرف البحر
طفلاً.
لا يمكنك التأرجح
على لون مهزوم
كالشواطئ السوداء
بقدمين حافيتين وحدك لا تعلم
ماذا فعلت بالحياة
التي كانت على زورق؟
أنا أيضًا أضعت
مفاتيحي
أذناي الصغيرتان
كل ما يدفعني للارتماء.
هل فكرت يومًا
باننا نتكلم لنجاور السؤال
الذي يستعصي
على وردة؟
***
(8)
طائران
كلاهما سؤال للآخر
كما يحق للموسيقى وحدها
أن تمتزج بالهواء كأحلام مفردة.
الظلال لا ترى نفسها
ولا حتى حيث يتساوى الضوء بالحجارة
تنحني أطراف السرو لتستعيد الشفافية بأثر لا يكتمل
هكذا الشعر أيضًا.
لن أحمل من هذا
العالم شيئًا
رغبتي في أن أنفصل
النجوم تلمع أيضًا بتلك الخفة.
مهما بالغت في إشعال
السجائر
وتأمل أشكال الدخان
اللحظة لا تلتفت.
أعرف تلك الضحكة
بعِرق نافر على الجبين
ويدين تتعرقان قليلاً
من رغبة تخفيها عن النظر.
قد أصدق أي شيء
تقوله لي
كأن تقول إن صوت الله ينام في التفاح
ليطفو بلذة حمراء
ورائحة أشهى من أوتار المغيب
لأغمض جفني أخيرًا عن الكلام.
***
(9)
تبدو فكرة حمقاء
أن أعد القهوة لنفسي
وأفتقدك في أشياء لا أعرفها
كمن يلتفت للزمن في لوحة لا ترى إلا مجردة من الأفكار
ويلتقط حواسه برغبة الظلال في أن يسمعها أحد
تمطر في الخارج
وأشعر بأنني غابة من الرموز
ليدين تطويان النظر في أبخرة السقوف الحمراء
لأختصر العزلة أفكر بأسباب أخرى لابتعاد العصافير مفردة بأشكالها
أبحث عن أغنية تبدو كأنها معتقة برائحة التبغ والنبيذ في فونوغراف خشبي
أقرأ الشعر كمن يقدح الأرض بالأجنحة ليواسي الغيم بالأسئلة التي لا
تعود
وأود أن أقول لك إن المطر في نيسان امرأة ولدت في عيني ملاك
لتصبح هذا الوميض الخافت لأكثر الآلام هشاشة
هل كنت ستخبرني حينها بأنني زهرة القطن التي تؤنث الماء؟
هل كنت ستمرر أصابعك على بشرتي بما يبقي الكلام خارج الكلام
وأعرف بأن للمسافة بين جسدي والهواء نبضًا مالحًا؟
هل كنت ستعرف كم أشبهك أكثر حين تتألم مما تحبه ولا يكون؟
يكفيني ألا تقول شيئًا الآن
سوى أن تتبع بفمك المطر إلى حافة الهواء
كما لو أن هذا العالم بيننا لن يحدث مرة أخرى
كم هي فكرة حمقاء حقًا
أن أعد القهوة لنفسي
وأفتقدك في أشياء لا أعرفها؟
***
(10)
قولوا هذا عبورنا
القصير
كالحرائق التي تؤسس جدواها في الريح
أو وخزة من حشيش مداس كفكرة ضالة
قلبي الذي على مفترقات يتسلق ضفتيه للشمال من الأغنية.
الأصوات في كل شيء
مطلقة تنفصل
مبددة أشكالها في الرؤية
كم يؤلمنا الزمن حين يكون النظر طريًا كغد يلتفت.
أشعر بالمطر دائمًا
كأصابع صغيرة
تلوح لك.
مثل الأكورديونات
الحمراء في شوارع ضيقة
لا أعرف إلا الكلام الذي يسيل من جرحه
وما من إيحاء أكثر نضوجًا
من قمر أخرس.
قد أكون تلك المرأة
التي تفتح بين فخذيها كتابًا
في شهوة البحر
لكنك تلك النظرة المالحة على ندمها.
ربما لن نعرف إلا
رقصًا أعزب للانتهاء
ما إن تلمس الكثافة التي ترج التوقع
لخاصرة تنحني
حتى تتمزق على شفاهنا ثمار المرحلة.
*** *** ***