الأسس الفلسفية للعلمانية - د. عادل ضاهر

إميل جعبري

 

في مراحل الأزمات والتحولات الكبرى تكثر محاولات مقاربة الحلول، وتتعدد الطروحات ووجهات النظر تعدد المصالح والرؤى والغايات، وفي جميع الحالات تحاول كل منها أن تستند إلى أسس وركائز فكرية ونظرية متينة تؤسس لها وتحشد حولها أكبر قدر ممكن من القوة لدفعها إلى مواقع التحقق، وليس ثم أسس أمتن وأعمق من الأسس الفلسفية التي تعمل على تحديد المفاهيم حينًا وعلى كشفها أو ابتكارها أحيانًا وعلى تبرير الأنسب والأدق والأصلح بينها.

ولأننا في الشرق الأوسط بشكل عام وفي كل دولة منه بشكل خاص وفي الدول ذات الأغلبية المسلمة دينيًا بشكل أخص نمر بأزمة ليست ككل الأزمات بل هي بامتيازٍ مأساوي أزمة وجود وحاضر ومستقبل تتصارعها الإرادات والقوى والمفاهيم. لكل ذلك تغدو شديدة الالحاح مهمة إبراز وتنقية مفهوم العلمانية الذي يتعرض إلى محاولات حثيثة ومستميتة لاستبعاده من مدارات الحلول وطمسه وتشويهه، لأنه في النهاية وفي حال ترسيخه وتبنيه فكريًا وسياسيًا وجماهيريًا يشكل خطرًا على مصالح وقوى لا تزال تقف جبل عثرات في طريق مستقبل حر منتج لشعوب المنطقة منسجم مع ما توصلت إليه البشرية من درجات الرقي والتمدن.

وانطلاقًا من قوة ودقة التأسيس الفلسفي وقدرته على الإقناع من جهة، وعلى استبعاد التشويهات والمغالطات من جهة ثانية تأتي هذه الإشارة.

في تأسيسه الفلسفي لمفهوم العلمانية يقوم الدكتور عادل ضاهر عبر اثني عشر فصلاً، إضافة إلى تحليل المفهوم وتبريره إنسانيًا، بتناول أهم المقولات والأفكار والادعاءات المتعلقة به. وخلال رحلة التأصيل الفلسفي هذه يرفع الكاتب المفهوم إلى موقعه المفصلي إن لم يكن المصيري في سيرورة التطور المعرفي والسياسي والاجتماعي للمنطقة، في محاولة للتعويض عن أهم العوامل التي أدت إلى تراجع المفهوم ألا وهو عدم تحقق حركة فلسفية نقدية شاملة تُعمل أدواتها النقدية في شتى مجالات القيم والدين والسياسة والاجتماع وتفسح سياقًا تطوريًا لترسيخ مفهوم العلمانية في الفكر والمجتمع، لاسيما في مواجهة الهجوم الشامل والمنظم الذي تعرضت له العلمانية من القادة الفقهيين ومختلف المفكرين الإسلاميين الذين جعلوا المفهوم مرادفًا للإلحاد والدعوة إليه مروقًا على الدين، على العكس تمامًا من فضاء حريات الاعتقاد والتفكير والسلوك التي تزدهر في ظلها جميع الدعوات المنسجمة مع استقلال الإنسان ككائن فاعل أخلاقي عاقل.

من الصعب إن لم يكن من المجحف عرض كتاب فلسفي عدد صفحاته 425 صفحة في حدود مقالة، إنما هي محاولة تسليط الضوء على بعض الأفكار والمحاور نأمل أن تحرض على قراءة الكتاب أو أقله إثارة شيء من الإشارات الكافية مما يستحقه.

في التعريف:

ينبه الكاتب قبل التعريف إلى الفرق بين العِلمانية التي تتخذ من المعرفة العِلمية كما هي ممثلة في العلوم الطبيعية بخاصة نموذجًا لكل أنواع المعرفة، وبين العَلَمانية بفتح العين واللام التي هي مدار التأسيس الفلسفي في كتابه ويعرفها بأنها موقف من الإنسان والقيم والدين، موقف كما هو معني بدور الإنسان في العالم وبتأكيد استقلالية العقل الإنساني هو موقف أبستمولوجي أي موقف من طبيعة المعرفة العملية ومن طبيعة علاقتها بالمعرفة الدينية.

يحدد الكتاب في الفصلين الرابع والخامس مكونات وطبيعة المعرفة العملية التي يجد فيها مسرح الحياة البشرية بما هي المعرفة المطلوبة لتنظيم شؤوننا السياسية والاجتماعية والاقتصادية بشقيها العلمي (التطبيقي والنظري) والمعياري من حيث هو معرفة الغايات التي ينبغي أن نحققها من خلال تنظيم المجتمع، وهي غايات يسوغها فلسفيًا المنظور الخلقي ويعطيها الأولوية. وذلك بعد أن يوضح في الفصل الثالث طبيعة المعرفة الدينية وحتمية استنادها إلى معرفة بين-ذاتية قَبْلية عليها، وذلك انطلاقًا من تحليل منطقي مستفيض يصل في نهايته إلى أن المعرفة العملية والمعيارية غير متضمنة في المعرفة الدينية وبالتالي مسوغًا رفض الدولة الدينية ومبينًا في الوقت ذاته ما الذي لا يعنيه رفض الدولة الدينية بما هو رفض قائم على اعتبارات فلسفية من النوعين المفهومي والأبستمولوجي تعتمد الأسبقية المنطقية لمعرفة القيم على المعرفة الدينية وذلك عبر تحليل مشوق وحثيث لمعظم التساؤلات المنطقية المتعلقة بالمفاهيم الأساسية للديانات الابراهيمية.

مركِّزًا على تبيين الفارق بين العلمانية اللينة والعلمانية الصلبة التي تعني أمرين أساسيين أولهما ما أشرنا إليه من أسبقية القيم على الدين والثاني أن العلاقة بين الروحي والزمني علاقة موضوعية تفرضها ظروف تاريخية ولا يمكن أن تنبع من الماهية العقدية للدين أي لا يمكن للربط مفهوميًا بين الدين والدولة (الذي طرحه وأصر عليه المفكرون الدينيون) إلا أن يجعل المنظومة الاعتقادية للدين المعني منظومة غير متماسكة منطقيًا. وبالتالي سواء كان المجتمع متعدد الأديان أو غيرها من الانتماءات الاجتماعية أو غير متعدد فإن الموقف العلماني يبقى هو المناسب لتحقيق المجتمع الفاضل أو الأفضل.

ومع تأكيده أن الأطروحتين اللتين تقوم عليهما العلمانية الصلبة المفهومية والابستمولوجية لا تتضمنان موقفًا إلحاديًا لا منفردتين ولا مجتمعتين، إذ انطلاقًا من عدم إمكانية التوصل إلى المعرفة العملية من المعرفة الدينية لا يمكن نفي صدق المعرفة الدينية إن كانت صادقة.

واستنادًا إلى الأسس الفلسفية ذاتها يبين د. ضاهر أن المعرفة الخلقية مثلها مثل المعرفة العلمية غير متضمنة في المعرفة الدينية وأنها وليدة شروط ومعطيات الوضع المعين الذي تنبع منه وأن هذه النتيجة توصل إليها الكثير من المفكرين الذين قالوا إن المعرفة الأخلاقية على العموم لا تحتاج إلى معرفة لاهوتية ذلك أنها ممكنة قبل ذلك عند المؤمنين وغيرهم لا بل إن أسبقيتها المعيارية ضرورية حكمًا للمؤمن للتمييز، مثلاً، بين شيطان ديكارت كلي الصفات ما عدا الخير وبين الإله كلي الصفات بما فيها الخير. وبالتالي يمكن للأوامر والنواهي الإلهية أن تكون جزءًا من المعيار الأخلاقي إن تطابقت معه أما غيابها فإنه لا يعني غياب المعيار الأخلاقي الذي لا يغيب.

هذا يعني أن تنظيم المجتمع على هذا النحو أو ذاك ليس عائدًا إلى أن الله يأمرنا به بل لأن هذا ما يستلزمه العقل العملي أو الاعتبارات المعيارية القائمة على أسبقية المعرفة الأخلاقية، المستقلة عن الاعتبارات الدينية.

ومن المهم هنا التنبيه إلى أن المؤلف يناقش مختلف الاعتراضات والأفكار التي يطرحها المفكرون الدينيون وغيرهم بما في ذلك مختلف وجهات النظر الفلسفية التي تخص أسس نظرية المعرفة وعلاقة المعرفة بالوحي على مدار الفصل العاشر من الكتاب، وخلاصة مناقشته هي أنه لا يمكن، اعتمادًا على مختلف نظريات المعرفة وبتطبيق مختلف أنواع التحليل على موضوع الوحي ومتلقِّي الوحي المباشرين أو المحيطين بهم، إلا أن نعود في النهاية إلى العقل لا إلى الوحي لتحليل ونقد وتقرير ما يتعلق بموضوعات المعرفة.

الإسلام والعلمانية

يناقش الكاتب في الفصل الحادي عشر مسألة شديدة الأهمية وهي العلاقة بين العلمانية والإسلام التي ناقشها مختلف المفكرين الإسلاميين وطرحت أمام للجمهور مقدمةً الإسلام على أنه ناف للعلمانية بالضرورة من جهة، وأنه دين ودولة من جهة ثانية، وأن العلاقة بين الإسلام والدولة علاقة مفهومية.

وعبر مناقشة حثيثة واستنادًا إلى ركائز فلسفية منطقية ومفاهيمية، يفند الكاتب الدعوى القائلة إن العلاقة بين الإسلام والدولة علاقة تاريخية موضوعية مرتبطة بظروف نشأة الإسلام وإلا انسحب ذلك على الديانات الأخرى السماوية وغيرها ويحق عندها لأتباع كل ديانة ادعاء أن الدولة عند الله هي دولة ديانتهم (وهو ما تشهده الساحة السياسية الدولية من ادعاء اليهود المتشددين بأن إسرائيل دولتهم على أرض فلسطين وأنها دولة يهودية وإحدى حججهم لذلك هي إسلامية الدولة السعودية) ويكونون بذلك إما محقين جميعًا أو مخطئين جميعًا. فإن كانوا محقين فهذا يعني عدم وجود اختلافات بينهم وبالتالي لا وجود في النهاية لأديان مختلفة وهذا مخالف للواقع.

العلمانية والعقلانية واستقلالية الإنسان

يختتم الكاتب في الفصل الثاني عشر تأسيسه الفلسفي للعلمانية بدراسة علاقتها بالإنسان لناحية ما يراه العمق الحقيقي له ككائن عقلي وكائن أخلاقي، مبيِّنًا أن المعرفة النظرية (العلمية والرياضية والمنطقية) ليست وحدها من اختصاص العقل بل كذلك المعرفة المعيارية التي هي أساس المعارف الدينية واللادينية، وبالتالي لا توجد هناك معرفة يدعي صاحبها كما سلف أنه استمدها من مصدر غير العقل يمكن اعتبارها معرفة بالمعنى الحق ما لم يخضع موضوعها لمعايير العقل، أي ما لم نتحقق من صحة هذا الموضوع بين-ذاتيا، وبما أن العقل هو الفيصل الأخير في كل شؤون المعرفة فإن استقلاليته على المستوى الابستمولوجي تامة ومطلقة.

كذلك الأمر بالنسبة لاستقلالية الإنسان ككائن أخلاقي، أي بوصفه فاعلاً أخلاقيًا ويحمل بالتالي مسؤولية أفعاله التي تنتج عن أسباب عقلية متماهية مع الرشد تقود إلى تفكير متروٍّ مستقل غير خاضع للوصاية يعمق العلاقة بين المسؤولية الأخلاقية واستقلال العقل.

هذه الاستقلالية هي إحدى الأعمدة الرئيسية التي تشغل حيزًا كبيرًا في وجود الإنسان ولا يمكن أن تتحقق إلا استنادًا إلى الموقف العلماني، حيث:

أ‌.       العلمانية شرط ضروري ولكنه غير كافٍ للاستقلالية.

ب‌.  أما النظام اللاعلماني فهو شرط نافٍ بطبيعته لاستقلالية الإنسان العقلية والأخلاقية. ذلك أنه لتحقيق وضمان استقلالية الإنسان عقليًا وأخلاقيًا لا بد من الحفاظ على مجموعة من المبادئ التي يضمنها النظام العلماني أو اشتراط العلمانية، وهذه المبادئ تتلخص في أنه:

-       لا يحق لأحد احتكار معرفة الشؤون الدنيوية استنادًا إلى معرفة أرادها الله له، ولا يجوز إعطاء الأولوية على مستوى المعرفة سوى لمعايير العقل.

-       إن القيم موضوع للاختيار ولا يحق لجماعة فرض قيمة على أفراد أو جماعة أخرى.

-       ينبغي في النهاية وفي إطار تنظيم شؤون الدول والمجتمعات وضع حدود فاصلة بين الشأنين الخاص والعام بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، ويبقى الشأن الديني شأنًا خاصًا لا يجوز طغيانه على العام، ولا القوانين والتشريعات يجب أن تتخطى مجال تنظيم الشؤون العامة إلى الخاصة إلا بشروط يدرسها المؤلف بشكل مستفيض وكاف مميزًا بين الأفكار والمعتقدات من جهة، وبين السلوك والأفعال من جهة أخرى.

كل ذلك الاحتكام إلى سلطة العقل النهائية في مجال المعرفة العملية والمعيارية لا يعني أنها سلطة مطلقة بل يعني أنها السلطة التي تقوم بالنقد والدحض والتعليل والتحليل والتفسير والتبرير والتحديد للمعايير بحيث لا توجد مطلقات تقيد استقلالية الإنسان بفعل العقل ذاته.

وبما أن النظام اللاعلماني يستمد مشروعيته من إيديولوجيات دينية كلّيانية تعتمد مبدأ الحاكمية لله، وهو المبدأ ذاته الذي كانت عليه الأنظمة اللاعلمانية في القرون الوسطى والمبدأ ذاته الذي يرى مفكرو الصحوة الإسلامية ضرورة تبنيه أساسًا للنظام السياسي الإسلامي، فإنه لا يمكن مهما حاول البعض التلاعب باسمه كالنظام المدني أو غيره إلا أن يكون طاغيًا على أية منظومة قيم أخرى خارجه وبالتالي لاغيًا لاستقلالية الإنسان.

الأسس الفلسفية للعلمانية
عادل ضاهر
دار الساقي، 1998، الطبعة الثانية

*** *** ***

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني