التحرر من المعلوم: الفصل الأول
جدّو كريشنامورتي
عبر
العصور بحث الإنسان عن شيء ما أبعد من ذاته نفسها، وأبعد من هنائه
المادي
–
شيء ما يمكن تسميته "الحقيقة"، "الله"، أو
"الواقع"، حالة لا زمنية
–
أمر ليس ممكنًا تشويشه من خلال الظروف، أو الفكر،
أو الفساد الإنساني.
يتساءل الإنسان دائمًا: ما الغاية من هذا كله؟ هل للحياة معنى؟ وهو يرى
فوضى هائلة تسيطر على حياته، الأعمال الوحشية، والثورات، والحروب،
والانقسامات غير المنتهية التي نراها جلية في الأديان، والأيديولوجيات،
والقوميات. ويسأل الإنسان بشعور عميق من الإحباط، ماذا عليه أن يفعل،
وما هو ذلك الشيء الذي يُدعَى "عيش"، وفيما إذا كان يوجد شيء ما أبعد
من حدوده هو نفسه؟
ومع عدم قدرته على العثور على ذلك الشيء الذي هو من دون اسم، وبألف اسم
إن صح التعبير، ذلك الشيء الذي ما انفك يبحث عنه، يغرس الإنسان في نفسه
الإيمان - الإيمان بمخلِّص أو بمثال - ذلك الإيمان الذي يُوَلِّد العنف
على نحوٍ لا تبدُّلَ فيه.
وفي هذه المعركة المستمرة التي ندعوها "عيشًا"، نسعى لترسيخ قانون
للسلوك وفقًا للمجتمع الذي أوجدناه، سواءً كان مجتمعًا شيوعيًا، أو كان
مجتمعًا يُزعَم أنه حر. ونقبل نموذجًا للسلوك على أنه جزء لا يتجزأ من
تقليدنا الهندوسي، أو الإسلامي، أو المسيحي، أو أي تقليد آخر. وننتظر
من آخَرٍ ما أن يقول لنا ما هو السلوك القويم، أو السلوك المناقض له،
وما هو الفكر الصحيح أو الفكر الخاطئ. ومن خلال رصد هذا النموذج، يصبح
سلوكنا وفكرنا آليَّيْن، وتصبح ردود أفعالنا ذاتية الآلية
(أوتوماتيكية). ويمكن رصد ذلك بسهولة داخل ذواتنا.
تمَّت حمايتنا عبر قرون مضَت، من خلال معلمينا، وسلطاتنا، وكتبنا،
وقديسينا. ونطلب من أحدهم: "قل لي كل شيء، أظهر لي ذلك الموجود في ما
وراء الهضاب، والجبال، والأرض كلها" - ونرضي ذواتنا بما يصفونه من خلال
ما يقولونه فنحيا بكلماتهم، وتصبح حياتنا سطحية وفارغة. لسنا على
فطرتنا. إننا نحيا من خلال الأشياء التي قالوها لنا، أو أننا نرشد
أنفسنا من خلال ميولنا ونزعاتنا أو أننا نُجبَر على تقبُّل الظروف
والوَسَط المحيط بنا. وعلى هذا النحو، نصبح نتاجًا لكل صنف من
التأثيرات فلا يوجد في داخلنا أي جديد، ولا نكتشف شيئًا من خلال
أنفسنا، لا نكتشف شيئًا أصليًا، لم يُرَ إطلاقًا، صافيًا.
يضمن لنا مرشدونا الدينيون وفقًا للتاريخ اللاهوتي أننا إذا مارسنا
طقوسًا محدَّدَة، وقمنا بترديد بعض الدعاءات ومقاطع مقدسة، وخضعنا لبعض
القواعد، وكبحنا رغباتنا، وراقبنا أفكارنا، وقمنا بتصعيد أهوائنا،
وامتنعنا عن اللذات الجنسية، فآنذاك، وبعد أن نقوم بتعذيب الجسد والروح
كفاية، فسوف نعثر على شيء ما أبعد من هذه الحياة الدنيئة. وهذا هو ما
نقوم به طوالَ أعمارنا، وما يقوم به ملايين من الأفراد الذين يُقال
عنهم متديِّنون، سواءً في خلواتهم، في الصحارى، وفي الجبال، وربما في
المغاور، أو أنهم يحجُّون من قرية إلى قرية متوَسِّلين، وينضمُّون إلى
جماعات ضمن أديرة مُجبِرين العقل على التكيف مع القواعد المرسَّخَة.
ولكن العقل الذي تم تعذيبه والسيطرة عليه، هذا العقل الذي يرغب بالهرب
من كل اضطراب فتخلَّى عن العالَم الخارجي، وأصبح موهَنًا بسبب الانضباط
والتكيف - ما يتوصل إليه هذا العقل أبعدَ ما يمكن مما يسعى إليه، إذ ما
يتوصل إليه ليس أكثر من توافق مع التشوه الذي طرأ عليه.
وهكذا، فمن أجل اكتشاف فيما إذا كان يوجد فعلاً أو لا يوجد شيء ما أبعد
من هذا الوجود القلِق، والمذنِب، والخائف، والمنافِس، يبدو لي أنه من
الضرورة بمكان أن نتَّخِذ طريقًا مختلفًا بشكل كامل. ينطلِق الطريق
التقليدي من المحيط إلى الداخل، ومن خلال الزمن والممارسة والزهد، فيتم
التوَصُّل تدريجيًا إلى تلك الوردة الداخلية، ذلك الجمال والحب
الحميميين - وفي واقع الأمر، ما يحصَل هو أنه يُقام كل شيء لكي يجعلَنا
محدودين، ومُبتذَلين، وزائفين. فأن ننتزع طبقة فأخرى، يحتاج هذا الأمر
إلى الزمن: غدًا، أو في الحياة المقبلة سوف نصل
–
وعندما نبلغ في النهاية المركز، فإننا لن نعثر على
شيء لأن عقلنا قد صار عاجزًا وموهَنًا وقاسيًا.
بعد رصد هذا السياق كله، نسأل أنفسنا فيما إذا كان هناك طريق آخَر
مختلف كليًا، وفيما إذا كان بإمكاننا "الانفجار" من المركز.
يقبَل العالَم ويتبَع الطريق التقليدي. ويكمن السبب الأساسي في الفوضى
الكائنة في دواخلنا في بحثنا عن الحقيقة الموعودة من قِبَلِ آخَرين،
فنتبع آليًا كل ذلك الذي يضمن لنا حياة روحية مريحة. إنه واقع على نحوٍ
حقيقي وخاص أن مُعظمُنا يقف ضد الطغيان السياسي، والديكتاتورية، ولكننا
في واقع الأمر نتقبَّل السلطة، وطغيان الآخَرين، فنسمَح لهم بتشويه
عقلنا وحياتنا. وهكذا إذا رفضنا كل شيء ليس عقلانيًا، ورفضنا فعليًا
السلطة الروحية، والطقوس، والعقائد، فهذا سوف يعني أننا وحيدون، وأننا
في صراع مع المجتمع. وسوف نُخلي أنفسنا من كونِنا كائنات إنسانية
مُحترمَة. والحال هذه، فليس لكائن إنساني محترَم أي إمكانية للاقتراب
من تلك الحقيقة اللامتناهية المُتعذَّر قياسها.
إبدأوا الآن برفض شيء زائف كليًا - ليكن الطريق التقليدي - ولكن إذا
رفضتموه كردَّةِ فعل لا أكثر فسوف تخلقون نموذجًا آخَر حيث تجدون
أنفسكم مسجونين فيه كما لو كان فخًا. وإذا قلتم لأنفسكم عقلانيًا إن
هذا الرفض هو فكرة هامة، ولم تفعلوا شيئًا، فإنكم لن تذهبوا إلى ما هو
أبعد من ذلك. ولكن إذا رفضتموه لأنكم فهمتُم الأمر وكم يتطلَّب حماقة
وعدم نضج، وإذا رفضتموه بذكاءٍ عالٍ لأنكم أحرار، ومن دون خوف، فإنكم
سوف تتحررون من فخ الوقار. وسوف تكفُّون عن البحث. وهذا هو أول شيء
علينا أن نتعلَّمَه:
عدم البحث. لأنكم عندما تبحثون، تتحركون، وبتأثير
ذلك تصبِحون كمن يتفرَّج على واجهات أمامه لا أكثر.
السؤال حول وجود
"الله"،
"الحقيقة"،
أو
"الواقع
- أو كما تشاؤون تسميته – لا يجد إجابته من خلال الكتب أو من خلال
الكهنة، أو الفلاسفة، أو المخلِّصين. لا أحد، ولا شيء يستطيع الإجابة
على هذا السؤال، وإنما فقط، وفقط أنتم أنفسكم الذين سوف تجيبون على
سؤال كهذا. ولهذا السبب بالذات عليكم أن تعرفوا أنفسكم. ثمة غياب للنضج
فقط حيث الجهل التام لأنفسنا. إن إدراك ذاتنا هو بداية الحكمة.
وماذا تكونون أنتم أنفسكم، "الأنت" الفردي؟ أفكر أنه ثمة اختلاف بين
الكائن الإنساني وبين الفرد. فالفرد هو الكيان المحلي، الساكن في دولة
ما، والمنتمي إلى ثقافة محددة، ومجتمَع مُسلَّم به، وهو على دين ما. في
حين أن الكائن الإنساني هو كيان غير محلي، فهو كائن في كل مكان. وإذا
ما كان الفرد يؤثر فقط في ركن ما منعزل عن حقل الحياة الواسع، فإن فعله
يكون منفصلاً بشكل تام عن الكل. والحال هذه، فمن الضرورة بمكان أن
يُدرَكَ بالعقل أننا نريد التحدث عن الكل وليس عن الجزء لسبب بسيط هو
أن الأكبر يحوي الأصغر، وليس العكس. وبالتالي، الفرد هو ذلك الجزء
الصغير أو بالأحرى ذلك الكيان المشروط والمغموم والمحبَط والذي يرضى
بآلهتِه الصغيرة وتقاليده. في حين أن الكائن الإنساني مهتم في هناءة
الجميع، وفي المعاناة العامة، وفي البلبلة الكلية التي تسود هذا
العالم.
وأما نحن كأفراد، فإننا على ما نحن عليه منذ ملايين السنين
–
طمَّاعون بشكل هائل، وحسودون، وعدوانيون، وغيورون،
وقلقون، ويائسون. وأحيانًا نعاين ومضات عَرَضية من الفرح والموَدَّة.
نحن مزيج غريب من البغضاء والخوف ورقة القلب، ونكون حينًا عنيفين،
وحينًا آخر مسالمين. حققنا تطورًا خارجيًا من العربة التي تجرها
الأحصنة، إلى السيارة، فالطائرة، فالطائرة النفاثة. ولكننا على المستوى
النفسي لم نتغير كأفراد إطلاقًا، وكذلك الأمر بالنسبة لبنية المجتمع في
العالم كله، لأن المجتمع تم إيجاده من خلالِنا كأفراد. البنية
الاجتماعية، والخارج هو نتيجة للبنية النفسية، والداخل، والعلاقات
الإنسانية لأن الفرد هو نتاج للخبرة والمعارف وسلوكية الإنسان في كل
مكان من العالم. كل واحد منا هو مستودع للماضي كله. أما الكائن
الإنساني على خلاف الفرد الذي يعكس الثقافة المحلية الكائنة؛ يمثل
الإنسانية كلها. وفي واقع الأمر إن التاريخ الإنساني كله مُسجَّل في
داخلنا، فإما أن نحيا كأفراد أو نحيا ككائنات إنسانية.
ارصدوا ما يحدث فعلاً داخل أنفسكم وخارجها، في ثقافة المنافسة التي
تحيون وسطها، ومع رغبتكم بالسلطة، والمكانة، والوجاهة، والاسم،
والنجاح... الخ. ارصدوا إنجازاتكم التي تفتخرون بها كثيرًا، وكل هذا
الحقل الذي تسمونه "عيشًا" حيث الصراع في كل أشكال العلاقة، مما يؤدي
إلى الكراهية، والتناقض، والوحشية، والحروب غير المنتهية. فهذا الحقل،
وهذه الحياة، هو كل ما تعرفونه. وبما أنكم عاجزون عن فهم معركة الوجود
الهائلة، فمن الطبيعي أن تشعروا بالخوف، وتحاولوا الهروب منها، ومن
خلال أكثر أنواع الطرق حذاقة. نشعر أيضًا بالخوف من المجهول - الخوف من
الموت، والخوف الذي نشعر به مما هو كائن بعد الغد. وهكذا فكما أننا
نشعر بالخوف من المجهول فإننا نشعر بالخوف أيضًا من المعلوم. وهكذا
تمضي حياتنا اليومية، فلا نجد فيها أي أمل، وبالتالي، فإن أي صنف من
الفلسفة أو أي نوع من اللاهوت ليس أكثر من هروب من الواقع، وبعبارة
أخرى هروب من الموجود أي من الكائن.
أشكال التغيير الخارجية الناجمة عن الحروب، والثورات، والإصلاحات، ومن
خلال القوانين والأيديولوجيات، فشلت كلها بشكل كامل لأنها ببساطة لم
تغيِّر شيئًا من الطبيعة الأساسية للإنسان، وبالتالي لم يتغير المجتمع.
ونحن ككائنات إنسانية، نعيش في هذا العالَم المريع، نسأل أنفسنا: "هل
يمكن لهذا المجتمع القائم على التنافس، والوحشية، والخوف أن ينتهي ذات
يوم؟" - ينتهي ليس كمفهوم فكري، وإنما أن ينتهي كواقع حقيقي على نحوٍ
يصبح فيه العقل حيًّا وجديدًا وبريئًا وقادرًا على خلق عالم مختلف
كليًا؟ أعتقد أن هذا سوف يحصَل فقط إذا ما تعرَّف كل واحد منا على
الحدث المركزي. ذلك أننا ككائنات إنسانية مسؤولون بشكل كامل عن وضع
العالم كله في أي جزء منه، ولا يهمُّ إلى أية ثقافة ننتمي.
نحن جميعًا، وكل واحد منا مسؤول عن الحروب كلها الناجمة عن عدوانية
حيواتنا، وعن قومياتنا المتنازعة فيما بينها، وعن أنانياتنا، وآلهتنا
المتخاصمة فيما بينها، وعن أفكارنا المسبقة، ومثالياتنا - لأن هذا كله
يجعلنا منقسمين فيما بيننا. وفقط عندما ندرك - ليس على نحوٍ فكري فقط
وإنما على نحوٍ فعلي، كما نشعر بالجوع أو بالألم، أننا مسؤولون عن هذه
الفوضى كلها، وعن هذه المحن الموجودة في العالَم بأسره، لأننا في واقع
الأمر نساهم في هذا كله في حياتنا اليومية، ولأننا نشكل جزءًا لا
يتجزَّأ من هذا المجتمع البربري بحروبه وانقساماته وقبحه ووحشيته وطمعه
- حينذاك فقط سوف يكون بإمكاننا أن نتصرَّف.
ولكن، ما الذي يستطيع كائن إنساني القيام به؟ ماذا بوسعكم أنتم، وماذا
أستطيع أنا، أن نفعل كي نوجد مجتمعًا مختلفًا تمامًا؟ إننا نوجه
لأنفسنا هنا سؤالاً جديًا جدًا. هل من الضروري أن نقوم بأمر ما؟ ماذا
نستطيع أن نفعل؟ أمَا من أحد يقول لنا؟ أناس كثيرون صرَّحوا عنه. أولئك
الذين نسميهم "المرشدون" الروحيون الذين نفترض أنهم يفهمون هذه الأمور
أفضل منا، فهم يخبروننا عنه، وهم يحاولون تغييرنا، وقولبتنا وفقًا
لمعايير جديدة. ولكن هذا لا يأخذنا بعيدًا جدًا. وثمة أناس سفسطائيون،
وآخَرون علاَّمة قد أخبرونا عنه، وهم أيضًا لن يأخذونا بعيدًا أكثر.
قالوا لنا إن كل الطرق تؤدي إلى الحقيقة، ولديكم طريقكم خاصتكم
كالهندوسية، والمسيحية، والإسلام، ولكن هذه الطرق كلها ستلتقي عند
الباب نفسه. وعندما نأخذ ذلك الطريق بجدية فذلك لا يتعدَّى كونه سخفًا
جليًا. الحقيقة لا دروب فيها، وهذا بالذات جمالها، فهي حية. فقط الشيء
الميت لديه طريق يؤدي إليه لأنه سكوني (علم السكون والتوازن يتعلق
بالجوامد المتحركة واستقرارها)، ولكنكم عندما تدركون أن الحقيقة هي شيء
حي، ويتحرك، وليس لديها مقام، ولا معبد، ولا جامع أو كنيسة، ولا تنتمي
إلى أي دين، ولا إلى أي مؤسس دين، ولا أي فيلسوف بمقدوره أن يقودكم
إليها - وأيضًا سوف ترون آنذاك أن هذا الشيء الحي هو ما أنتم عليه
فعليًا - ونزقكم، ووحشيتكم، وعنفكم، ويأسكم، والنزاع والمعاناة حيث
تحيَون. ولكنكم في إدراككم لهذا كله تعثرون على الحقيقة. وفقط تفهمونها
إذا ما أدركتم كيف تنظرون إلى أشياء كهذه في حياتكم. ولكن انتبهوا
جيدًا، فليس بالإمكان أن تنظروا إليها من خلال أيديولوجيا، وستارة من
العبارات، ومن خلال الآمال والمخاوف.
كما ترون فأنتم لا تستطيعون التعلق بأحد. فليس هناك ثمة مرشد، ولا
مشرف، ولا سلطة. فما يوجد هو أنتم فقط، وعلاقاتكم مع الآخرين ومع
العالم ولا أكثر من ذلك. وعندما تدركون هذا الأمر فهو إما يقود إلى يأس
كبير، ويسبِّب تشاؤمًا ومرارة أو أنكم تواجهون هذا الأمر: أنكم ولا أحد
سواكم مسؤول عن هذا العالَم، فمن خلالكم، ومن خلال ما تفكرون فيه، ومن
خلال ما تشعرون به، ومن خلال الطريقة التي تتصرفون وفقها، فيتلاشى من
الجميع الشفقة على الذات. نحن نحب بشكل طبيعي، وأن نضع الذنب على
الآخَرين، فهذا الأمر لا يتعدَّى كونَه شكل من أشكال الشفقة على الذات.
هل سيكون بمقدورنا آنذاك، أنا وأنتم أن نؤسس في أنفسنا - من دون أن
نتعلق بأي تأثير خارجي. ولا بأي اقتناع، ومن خوف من أي عقاب - هل سيكون
بمقدورنا أن نؤسس في روحنا خاصتنا ثورة كلية، وتغيرًا نفسيًا لكي لا
نكون أكثر وحشية، وعنفًا، وتنافسيين، وقلقين، وجبناء، وطمَّاعين،
وحسودين - وأخيرًا، مظاهر طبيعتنا كلها التي شكَّلَت مجتمعًا فاسدًا
حيث نعيش حياتنا من يوم إلى يوم؟
من المهم فهم أنني لا أصيغ أية فلسفة، أو منظومة أفكار أو مفاهيم
لاهوتية. فالأيديولوجيات كلها تتراءى لي عبثًا كليًا. ليس المهم فلسفة
حياة، بل أن نرصد ما يحدث في حياتنا اليومية، داخليًا وخارجيًا. وإذا
ما رصدتُم بانتباه كبير ما يحصَل، وإذا ما تفحَّصتُم فلسوف ترون بأن كل
شيء يقوم أساسًا على الفكر. ولكن الفكر لا يشكل الحقل الكلي للوجود،
فهو جزء، وكل جزء، من الأكثر مقدرة على التكيف إلى الأكثر قِدَماً
وتقليدية، يظل يشكل جزءًا من الوجود، فعلينا الاهتمام بكلية الحياة.
وعندما نأخذ بعين الاعتبار ما يحصَل في العالَم، ونبدأ بفهم أنه ليس
هناك سياق خارجي ولا سياق داخلي، وإنما هناك حركة داخلية تعبِّر عن
نفسِها خارجيًا، والحركة الخارجية بدورها تؤثِّر على الداخل الذي هي
انعكاس له أصلاً. أن نكون قادرين على النظر إلى هذا الحدَث - فهنا ما
هو ضروري، وفقط هذا، لأننا إذا عرفنا كيف ننظر، فكل شيء يصبح واضحًا
جدًا. لا يتطلب فعل النظر أية فلسفة، ولا أي مدرِّب. لستم بحاجة إلى أي
أحد لكي يعلمَكم كيف تنظرون. انظروا ببساطة فحسب.
هكذا، وبرؤية هذا الإطار كله، وبرؤيته ليس من خلال العبارات، وإنما
فعليًا، هل بوسعكم أن تحولوا أنفسَكم على نحوٍ طبيعي وعفوي؟ وهذه هي
المسألة الحقيقية. هل من الممكن إثارة ثورة كاملة في النفس؟
كان بودي أن أدرك ما هي ردة فعلكم إزاء إحدى هذه الأسئلة. ستقولون
عرَضًا: "ليست لدي الرغبة بالتغير" - وإن معظم الأشخاص لا يرغبون به،
وبشكل رئيسي أولئك الذين يجدون أنفسهم في وضع نسبي من الشعور بالأمان،
على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والانفعالي. أو أنكم تحافظون على
عقائد جامدة، وترتضون في قبول أنفسكم والأشياء كما هي على هيئة متغيرة
بشكل ما. فأشخاص كهؤلاء لا يهموننا (أي الذين يبحثون عن التحول
الداخلي). أو ربما تقولون على نحو أكثر حذاقة: "والحال هذه، فالأمر صعب
جدًا، إنه بعيد عن متناولي". وفي هذه الحال، فإنكم انغلقتم عن الطريق،
وتوقَّفتُم عن البحث. وسيكون الاستمرار عبثًا بشكل كامل. أو حتى أنكم
ستقولون: "أدرك الحاجة إلى تحول داخلي، أساسي في داخلي أنا نفسي، ولكن
ما السبيل للقيام به؟ أطلب منكم أن تُبيِّنوا لي الطريق، وأن تساعدوني
في الوصول إليه". وإذا تكلمتم على هذا النحو فما يهمكم ليس التحول في
حد ذاته، فأنتم لستم مهتمين فعليًا بثورة أساسية، وإنما أنتم تسعون على
نحو تام إلى طريقة، وإلى نظام قادر على إحداث التغيُّر.
وإذا كنا طائشين إلى درجة نندفع فيها فنصرِّح لكم عن طريقة، وأنتم
متهوِّرون إلى درجة تتبعون فيها هذه الطريقة، فإنكم لن تكونوا إلا مجرد
نسخة أو محاكاة أو تكييف لأنفسكم وفقها، وتقبُّلها، وقيامكم بها على
نحو ما، وسوف ترسخون في داخل أنفسكم سلطة الآخرين، الأمر الذي ينجم عنه
صراع بينكم وبين هذه السلطة. وتفكرون بأنه يتوجب عليكم أن تقوموا بهذا
أو ذاك الشيء لأنهم أمروكم بالقيام به، وفي الواقع لا تكونون قادرين
على فعلِه. لديكم ميولكم المميزة، ونزعاتكم وضغوطاتكم التي تتصادم مع
الطريقة (المنهج) التي تحكمون أن عليكم اتباعها، وبالتالي، يوجد تناقض.
وستتخذون على عاتقكم حياة مزدوجَة بين أيديولوجية الطريقة (المنهج)،
وواقع وجودكم اليومي. وفي مجهودكم من أجل تكييف أنفسكم للأيديولوجية
فإنكم تقمِعون أنفسَكم، وفي الواقع، فما هو حقيقي فعلاً ليس
الأيديولوجية وإنما ذلك الذي ما أنتم عليه. فإذا ما حاولتم التفكير
بأنفسكم وفقًا للآخَرين فسوف تظلون أفرادًا من دون أصالة.
الإنسان الذي يقول: "أرغب بتغيير نفسي، قل لي بالله عليك كيف لي أن
أتوَصَّل إلى ذلك؟" - يبدو أن الأمر يتطلب تنبهًا كثيرًا وجدية كبيرة.
ولكن الأمر ليس على هذا النحو. فهو يرغب بسلطة يتوَقَّع منها أن ترسخ
النظام فيه هو نفسه. ولكن هل يمكن ذات يوم لسلطة ما أن تؤسِّس نظامًا
داخليًا؟ يوَلِّد النظام المفروض من الخارج دومًا، وبالضرورة الفوضى.
بوسعِكم إدراك هذه الحقيقة فكريًا، ولكنكم هل ستكونون قادرين على
تطبيقها بطريقة لا تُسقِط فيها عقولكم بعد أي سلطة - سلطة كتاب، أو
مدرب، أو الزوجة أو الزوج أو الدولة أو صديق أو مجتمع؟ وكما أننا نعمل
دائمًا وفقًا لنموذج صيغة ما، وتتحول هذه الصيغة إلى أيديولوجيا وسلطة،
ولكنكم حالما تدركون فعليًا ماهية التساؤل حول
"كيفية
التغيُّر"، فهذا في حد ذاته يخلق سلطة جديدة، وعلى هذا النحو تتناهون
إلى السلطة على نحو دائم.
نكرر ذلك بشكل واضح: سيكون علي التغير بشكل كامل اعتبارًا من جذور
وجودي، فلا أستطيع بعد التعلق بأي موروث، لأن الموروث هو الذي خلق
التراخي الهائل، والتقبُّل، والطاعة، ولا أستطيع الاعتماد على الآخرين
لكي يساعدوني على التغير، لا على أي مدرب، ولا على أي إله، ولا أي
عقيدة، ولا أي منهج، ولا أي ضغط أو تأثير خارجي. فماذا يحدث إذاك؟
هل بوسعكم، أولاً، أن ترفضوا كل سلطة؟ وإذا ما كان بمقدوركم فعل ذلك،
فهذا يعني أنكم لا تشعرون بالخوف. وإذاك فما الذي يحدث؟ عندما ترفضون
أمرًا زائفًا تحملونه معكم منذ أجيال، وعندما تفرِّغون حمولة من أي
صنف، فما الذي يحصَل؟ هل تزيدون من طاقتكم، فتصبحون بقدرة أكبر، وبقوة
اندفاع أكثر، وشدة وحيوية أعظم؟ وإذا لم تشعروا بذلك، فإنكم في هذه
الحال لا تفرغون الحمولة، ولن تتحرروا من الوزن الميت للسلطة.
لكنكم تتحرَّرون ذات مرة من هذه الحمولة، وتحصلون على تلك الطاقة حيث
لن يوجد هناك خوف من أي نوع - الخوف من الخطأ، أو التصرف على نحو غير
صائب - أليست هذه الطاقة نفسها التي تحصلون عليها هي عبارة عن تحول؟
نحن نحتاج إلى وفرة كبيرة من الطاقة، وننفقها بخوف، ولكن عندما توجد
الطاقة فإنها تأتي بعد ما نتحرر من أشكال الخوف كلها، وتنشأ عن هذه
الطاقة نفسها الثورة الداخلية والجذرية. وأنتم لستم بحاجة أن تفعلوا
شيئًا بهذا الخصوص.
إذاك تظلون وحدكم مع أنفسكم، وهذه هي الحالة الحقيقية التي تناسب
الإنسان الذي يتخذ هذه الأمور بجدية. وبما أنكم لا تعتمدون على مساعدة
أي شخص ولا أي شيء، فأنتم أحرار لكي تكتشفوا بأنفسكم. وعندما توجد
الحرية، ثمة طاقة، وعندما توجد الحرية، لن يكون بمقدوركم فعل شيء خاطئ.
تختلف الحرية بشكل كامل عن التمرد. وليس هناك تصرف صحيح أو خاطئ عندما
تتواجد الحرية. أنتم أحرار، ومن هذا المركز بالذات تتصرَّفون.
وبالتالي، لن يتواجد خوف، والعقل من دون خوف قادر على حب غير محدود.
وفقط الحب يستطيع أن يفعل ما يشاء.
وبالتالي، فما سنأتي على فعله هو تعلم إدراك أنفسنا، ولكن ليس بالتوافق
معي أو بالتوافق مع محلل نفساني، أو فيلسوف، لأننا إذا قمنا بذلك
توافقًا مع أشخاص آخرين، فكل ما سوف نتعلمه هو التعرف على هؤلاء
الأشخاص، وليس على أنفسنا نحن. حريٌّ بنا أن نتعلم ما نحن عليه فعلاً.
أدركنا إذن، أنه ليس بوسعنا التعلق بأية سلطة خارجية لكي نؤسس ثورة
كلية في بنية أنفسنا، ويتمثل الأمر بصعوبة أكبر على نحو لا نهائي في أن
نرفض سلطتنا الداخلية، وسلطة تجاربنا التي لا معنى لها، وآراءنا
المتراكمة، ومعارفنا، وأفكارنا ومثالياتنا. فنقول إننا خضنا البارحة
تجربةً علَّمتنا أمرًا، وهذا الأمر الذي علمتنا إياه يُصبِح عبارة عن
سلطة جديدة. والحق يُقال إن سلطتكم البارحة مدمِّرَة جدًا كما هو الأمر
تمامًا بالنسبة لسلطة منذ ألف عام. ولا يقتضي إدراك أنفسنا أي سلطة، لا
تلك التي تعود لليوم السابق، ولا الأخرى التي تعود إلى ألف عام لأننا
كائنات حية في حركة على الدوام، وفي انسياب دائم، ولا تتوقف إطلاقًا.
وإذا نظرنا إلى أنفسنا من خلال السلطة الميتة للأمس، فنحن لن نفهم
أبدًا الحركة الحية وجمال وطبيعة هذه الحركة.
التحرر من كل سلطة سواءً الخاصة بنا أو تلك التي تعود للآخرين يعني أن
نموت عن كل أشياء البارحة - وذلك من أجل أن يكون العقل متجددًا، شابًا
دائمًا، بريئًا، ومليئًا بالحياة والشغف. وفقط في هذه الحالة يتم
التعلم والرصد. ولذلك يتطلب الأمر قدرة كبيرة على الإدراك، الإدراك
الحقيقي لكل ما يحدث في داخل أنفسكم من دون أن تصحِّحُوا ما ترونه، ومن
دون أن تقولوا ما يجب أو ما لا يجب أن يكون. ولماذا تصحِّحون سريعًا
جدًا فتقيمون سلطة أخرى، رقيبًا.
فلنفحَص إذن أنفسَنا سوية، وما من أحد سوف يفسِّر شيئًا لكم بينما أنتم
تقرؤون موافقين أو مخالفين لمن يفسِّر، وذلك في الوقت نفسه الذي تتبعون
فيه كلمات النص، وبالرغم من ذلك فلنقم برحلة سوية، رحلة اكتشاف للأسرار
الأكثر اختباءً في عقولنا. ولكي نقوم بهذه الرحلة، فما نحتاجه هو أن
نكون أحرارًا، ذلك أنه لن يكون بمقدورنا نقل حمولة من الآراء والأفكار
المسبقة والاستنتاجات، وكل المتاع القديم الذي جمعناه خلال العشرة آلاف
سنة أخيرة أو أكثر. انسوا كل شيء تعرفونه حول أنفسكم. انسوا كل شيء
فكرتم به حول أنفسكم، ولنشرع في مسير كما لو أننا لا نعلم شيئًا.
أمطرت البارحة مساءً على نحو اندفعت فيه سيول جارفة، والآن ها هي
السماء بدأت تصحو، وها هو يوم جديد نديٌّ. إننا نلتقي بهذا اليوم
الجديد كما لو كان يومنا الوحيد، ونشرع بالمسيرة تاركين وراءنا كل
ذاكرات البارحة، ولنبدأ في فهم أنفسنا لأول مرة.
الترجمة عن البرتغالية: نبيل سلامة
*** *** ***