تحديقٌ بمرايا
الذاكرة
نمر سعدي
قبلَ
أيام كنتُ حاضرًا في أمسيةٍ ثقافيةٍ في حيفا نظَّمها قسمُ العلوم
الإنسانية في جامعتها احتفاء بترجمة روايةٍ جديدةٍ إلى اللغةِ العبرية
اسمها الذاكرة حدَّثتني ومضت.. سيرةُ الشيخِ المشقَّقِ الوجه،
وهذه الترجمة هي لرواية فلسطينية تدعى ذاكرة. وكان ضيف هذه
الأمسية صاحب هذه الرواية الكاتب والروائي الكبير الصديق سلمان ناطور
القابض البارع على كلِّ تلك اللحظات الهاربة من الذاكرة.. وكان موضوع
النقاش يتمحور حول قضية النكبة وتداعياتها وما بقيَ منها بعد سبعةٍ
وستين عامًا على حدوثها.
لأول مرَّة أستمعُ بكل شغفٍ ووجعٍ وبدمعةٍ كبيرةٍ
على طرفِ عيني وبحرقة في القلبِ إلى كاتبٍ فذٍّ يتحدث بطلاقة وحرية
وذكاء وبلغة تصل إلى القلب قبل الأذن. غاص وتغلغل في أصغر تفاصيل
النكبة وأسئلتها. التفاصيل التي لا تهمُّ الباحثين والدارسين بقدر ما
تهمنا نحنُ كبشر. الأسئلة التي تتردَّدُ بمرارة: كيفَ خرجوا؟ وهل يتركُ
الإنسان بيته بكلِّ هذهِ البساطةِ ويركبُ الريحَ متكئًا على حلمٍ أو
أملٍ منخور؟ كيفَ تناثرَ على هذه الأرض أكثر من نصف مليون مشرَّد في
غضونِ أيامٍ معدودة؟ خلال النقاش الموضوعي قام الكاتب باسترجاع حكاية
الشاعر القومي أبو سلمى ولقائه بهِ في ألمانيا وكيفَ أنه هُجِّرَ من
بيته (كما فعلَ سواهُ من سكانِ الجليل خاصةً) وسافرَ في سفينةٍ ولكن
مفتاحِ بيتهِ بقيَ يدهِ ولم يسقط كما سقطَ دفترُ أشعارهِ في البحر لأنه
كانَ مؤمنًا بعودتهِ خلالَ أيام. أضافَ أنه كانَ يمرُّ يوميًا بمحاذاةِ
بيت الشاعر ولا يعرفُ أن هذا البيت الذي يئنُّ من الحزن والوحدة في
الحيِّ القديمِ في مدينةِ حيفا كانَ ملكًا للشاعر الفلسطيني الذي ماتَ
بعيدًا عن حيفا وهو يحلمُ بالعودة إلى مدينتهِ الفاضلة.
الروائيُّ الفذُّ هو الذي يجعلك تعيش الحدث بكاملِ ما فيهِ شجون وما
فيكَ من رفضٍ له أو تماهٍ معهُ. فتتسلَّلُ إلى الرواية لتعيش ولو
لحظاتٍ فيها. يقول سلمان: هناك كائنٌ حيٌّ من لحم ودم ترك بيته في لحظة
ما.. أو طُرد منه بقوة السلاح ولكنه لا يزال يعيش في مكانٍ ما من هذا
العالم.. يحنُ لوطنهِ ويتوَّجعُ بصمت وهو يحتفظ بمفاتيح بيتهِ ويحلم
بالرجوعِ في كلِّ لحظة.. القضية إذن ما زالت مفتوحة على كلِّ ما في هذه
الحياةِ الخلبيَّةِ القصيرةِ من ألم..
أسمعُ محللاً بعد يومين يقولُ إن الفلسطينيين هربوا
لأن الجيوش العربية طلبت منهم ذلك.. وآخر يقول بل بفعل القتل واغتصاب
النساء.. كنتُ أودُّ التقاء أحد مسنِّي قرية عيلوط يوما ما ليحدثني عن
مجزرة منسية.. لأن لا أحد من الشيوخِ في قريتي يريدُ أن يتذكرَّ شيئًا
من تلك الحقبة المسربلة بالدم.. لا يهمُّ كثيرًا الآن كيف طُردَ شعبٌ
من أرضهِ.. عندما يحدِّقُ الضحيَّةُ في عينَيْ من كانَ سببًا في خرابِ
حياته ومملكته تتناسلُ أوجاعٌ وعذاباتٌ وأسئلةٌ كثيرة.. كانت هذه
الأمسية فرصةً للتحديق.. وفسحةً للكتابةِ في ظلِّ الدمعِ.. أفكِّرُ
الآنَ.. كيفَ استطاعَ جدي أن يحيا ثلاثَ عشرةَ سنة بطلقين ناريين في
القلب بعد معركة يعبد الشهيرة عام 1935 تلكَ المعركة التي استشهد فيها
الشيخ القسَّام.. متنقلاً بينَ سجنِ نابلس وسجنِ عكا ولكن قلبه انفجرَ
من الحزن بعد النكبة بشهورٍ قليلة.
*** *** ***