في اقتصاديات النزاع المسلح الداخلي
***
تمهيد
تعاني سورية من توسع في المصالح المرتبطة بالعنف المسلح، كتجارة السلاح
والخطف والنهب والسرقة والابتزاز من قبل أطراف النزاع، مما يشكل حافزًا
خطيرًا لاستمرار القتال، ويؤسِّس لأنشطة اقتصادية غير شرعية وغير
أخلاقية تقوِّض فرص التنمية المستقبلية. مما يتطلب دورًا رئيسيًا
للمجتمع المدني في مواجهة هذه الظاهرة الخطرة، وتوفير مقومات مناسبة
لوقف العنف والاشتراك في بناء المستقبل.
تتسم اقتصاديات النزاع المسلح باتساع نطاق تدمير القطاع المنظم وتوسع
غير المنظم والسوق السوداء وتتلاشى الحدود بين الرسمي وغير الرسمي وحتى
الجرمي، ويستخدم النهب والابتزاز والعنف المتعمد ضد المدنيين من قبل
المسلحين للسيطرة على الممتلكات والمنشآت والتجارة واستغلال العمال.
والاقتصاديات في النزاع لامركزية ومخصخصة إلى حد كبير، ويقوم المقاتلون
باستغلال التجارة والموارد المتاحة، ويزدهر التهريب والتجارة عبر
الحدود بطرق مختلفة وخاصة تهريب الأسلحة والمواد الأساسية. (Ballentine
et. al 2005).
وتنقسم الأدبيات التي تركز على العوامل الاقتصادية المؤثرة في النزاعات
الداخلية بين مرجح للمظلومية وآخر للجشع كمسببات رئيسية للنزاع
الداخلي. والخطورة تكمن في ازدياد أعداد النزاعات المسلحة الداخلية
والتي غدت ممولة ذاتيًا نتيجة لاعتمادها على تحويلات المغتربين
والموارد الطبيعية والسيطرة على المساعدات الأجنبية.
يتصدر
Collier
الكتَّاب الذين ينسبون أسباب النزاعات الأهلية للجشع ويدرس حالة الدول
التي وقعت فيها نزاعات خاصة في جنوب الصحراء الإفريقية والتي تمتلك
موارد طبيعية (Collier,
Hoeffler
1998). حيث يتم النزاع المسلح للسيطرة على الموارد. وتواجه الجهات
المسلحة تحديًا كبيرًا في السيطرة على الموارد التي تحتاج إلى فترات
طويلة من الاستكشاف والإنتاج والتوزيع والتصدير لمواد مثل النفط
والألماس والغاز وغيرها، بينما يكون السيطرة على الثروات المنقولة أكثر
سهولة مثل السيطرة على المعدات والمدخرات والمحاصيل.
وبالرغم من الإجماع على أهمية العوامل الاقتصادية في النزاعات إلا أن
الخلاف على مدى مساهمتها بالمقارنة مع العوامل الاجتماعية والثقافية
والسياسية. ويجادل منتقدو فكرة الجشع كمحرك رئيسي للنزاعات في أن
الدراسات بمعظمها تكون مركزة على "المتمردين" وتحابي الدول. والجوهر أن
النزاع الداخلي ينشأ بسبب الفساد المنهجي وغياب عدالة التوزيع للموارد
والاقصاء الكبير لشرائح من المجتمع، والحكم الاستبدادي.
لا يجدر الخلط بين السبب والنتيجة، فالحرمان من الحقوق الرئيسية في
التعليم والصحة والعمل وحرية التعبير والمشاركة في صناعة القرار
والمساءلة، تسبب الشعور بالظلم على نطاق واسع في المجتمع، وهنا يظهر
محورية دور المؤسسات بمفهومها الواسع كقواعد حاكمة للعلاقات الاجتماعية
ضمن الدولة. فإذا كانت المؤسسات غير مرنة وغير قادرة على تلمس مشاعر
ومصالح وحقوق شرائح واسعة من المجتمع سيكون الصدام حتميًا وعنيفًا،
وهنا تكمن أهمية التغير المستمر في بنية المؤسسات وتمثيلها للمجتمع
لتواكب وتستجيب لتطور المجتمع. وفي هذه الحالة يتم ترجمة المظلوميات أو
التطلعات إلى تغيرات جوهرية في آليات الإنتاج والعلاقات الاجتماعية
وأسلوب الحكم. وهنا لا يكفي مفهوم المرونة والتمثيل والمشاركة،
فالمؤسسات التي لا تقوم على احترام شخصية الإنسان وكرامته ستصطدم مع
المجتمع ولو بعد حين.
وهناك مستوى آخر للظلم الذي يتمثل بالاستبداد على المستوى الدولي والذي
يقوم على تهميش واسع النطاق لدول ومجتمعات. حيث تقوم دول وشركات كبرى
بتغطية ومساندة وتمويل الأنظمة الاستبدادية بأشكالها المختلفة تحت
عنوان استثمار الفرص حتى لو كانت على حساب شخصية وكرامة الإنسان
"الآخر"، ومن الاستخفاف الاعتقاد بأن من يحتقر الآخر خارج حدود دولته
يحترم النحن داخل حدوده. بالتأكيد الموضوع نسبي وقد حققت شعوب الدول
المتقدمة مكاسب تحمي حقوقها من خلال منظومة مؤسسية متقدمة إلا أن هذه
المنظومة مهددة نتيجة تبرير فكرة الاستغلال والاستئثار في إطار تعظيم
المنفعة الفردية. ويظهر ذلك جليًا في دفاع الدول المتقدمة عن قطاع
الصناعات العسكرية الذي يمول القتل حول العالم دون قيود تذكر بالإضافة
إلى شركات النفط والغاز وغيرها.
الحالة السورية:
إن الدوافع وراء الحراك الذي انطلق في آذار2011 واضحة وهي تمثل في
جوهرها قضية مظلومية في الحريات العامة والحقوق نتيجة الاستبداد
السياسي. وقد كشفت هذه الأزمة عن تعقيد العوامل الداخلة فيها سياسيًّا،
واقتصاديًّا، واجتماعيًّا، على المستويين الداخلي والخارجي. بيد أن
الحراك كان، ودون أدنى شك، سياسيًّا بامتياز، فمنذ اللحظة الأولى، أعلى
هذا الحراك من قيمة الحرِّية، التي تشكِّل مطلبًا لمعظم الأطراف على
مختلف أشكالهم وتجلَّياتهم، والتزم بهذه القيمة على طول الخط. وقد
تحوَّلت الحريَّة لتصبح تعبيرًا عن جوهر الأزمة، المتمثِّلة بالحرمان
من الحريَّات السياسية وغياب مؤسسات تمثيلية كفوءة وشفَّافة. وقد اصطدم
الحراك بنظام استبدادي عنيف منع تحول الحراك إلى تغير جوهري في
المؤسسات في اطار بناء عقد اجتماعي جديد بين السوريين. وتدهورت الأوضاع
للوصول إلى نزاع مسلَّح حاد والذي قاد حتى الآن إلى خسائر استثنائية في
الأرواح والمصابين جسديًا ونفسيًا، والقيم الاجتماعية والامكانيات
الاقتصادية. وتقدر الخسائر المباشرة لغاية 2012 بأكثر من 48 مليار
دولار أي أكثر من 80% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2010، وخسارة
أكثر من 1.5 مليون فرصة عمل ودخول أكثر من 3 ملايين دائرة الفقر وخسارة
أكثر من عشرين سنة من التنمية البشرية (تقرير الأزمة السورية، 2013).
الأخطر في هذه الحالة من انتشار العنف المسلح هو خسارة جوهر الحراك أي
احترام شخصية الإنسان وكرامته وأصبح القتل مرحبًا به والقاتل هو المثل
الأعلى، وهي بيئة مثالية للاستبداد في المؤسسات. والمؤسسات هنا نوعان
المؤسسات الرسمية التي ينص عليها القانون والتشريعات مثل السلطات
التنفيذية والتشريعية والقضائية والمؤسسات غير الرسمية والتي تحكم
العلاقات الاجتماعية بين الأفراد دون أن ينص عليها مثل المؤسسة الدينية
والمؤسسة الأمنية. إن استمرار العنف المسلح يقود إلى بناء مؤسسات ذات
مصلحة في الحرمان من الحريات العامة والمشاركة واحترام الإنسان. وفرضت
الأطراف المسلحة قواعدها على الحياة الاجتماعية والاقتصادية للأفراد،
وفي هذا الجانب لم ينجح منظرو المعارضة من طرح الأفكار التي تجنب
الحراك تشكيل مؤسسات اقصائية تتضمن فكرة الاستبداد.
لكن ما دور الاقتصاد الآن؟ ان افتراضنا بأن الاقتصاد لم يكن سببًا
محوريًا في انطلاق الحراك لا ينطبق مع التحول نحو العنف المسلح حيث
أصبحت الحوافز الاقتصادية حاسمة في استمرار النزاع. وتم خلق اقتصاديات
العنف في سورية والتي تجلت في العديد من الظواهر، فالحصول على السلاح
يحتاج إلى تمويل الذي يأتي من دول أو منظمات أو مغتربين أو مدخرات بما
فيها بيع الموجودات كالبيت والأرض، ومع تعثر السبل يصبح النهب والسرقة
أحد المصادر. وهذا يشمل النظام والمعارضة المسلحة. وأصبحت تجارة السلاح
مصدرًا لثروات هائلة في وقت لا توجد فرص اقتصادية تذكر للعمل. من جهة
أخرى قاد ازدياد العاطلين عن العمل إلى البحث عن دخل بما فيه الالتحاق
بأحد أطراف القتال، بالتأكيد هذا لا يشمل كل المشاركين وليس بالضرورة
السبب الأهم إلا أنه حافز للانضمام للنزاع. إن خطف واستغلال النساء
والرجال والأطفال في عملية اتجار بالبشر داخل سورية وخارجها،
والاستحواذ على المنشآت والمصانع واحتكار توزيع الخدمات والمواد وسرقة
الآثار هو أحد الأوجه الأخرى لتمويل واستدامة النزاع. لقد تم إنشاء
الأبنية المخالفة وشراء أملاك الدولة بأسعار بخسة وأصدرت قوانين توزيع
وتنظيم الأراضي التي خلقت طبقة تعتاش على تأجج العنف، لقد أصبح
للكثيرين المصلحة في استمرار النزاع لتحقيق مكاسب في فرصة نادرة
للانتهازيين.
إن دور الكثير من الدول التي تمول سلاح المعارضة أو النظام ولا تقدم
مساعدات الحد الأدنى للسوريين اللاجئين أو النازحين يعزز اقتصاديات
العنف ويجعل السلاح أكثر ربحًا من العمل الإنساني. وهنا نذكر "أن في
روما القديمة تم جمع المتمردين في سجن كبير وقدم لهم السجان وسائل قتال
(سيوف ورماح وفؤوس...) وطلب منهم أن يتقاتلوا والمنتصر سيظفر بحريته،
فمات الجميع!".
والمطلوب في هذه المرحلة الضغط لتحويل الحوافز من اقتصاديات النزاع إلى
اقتصاديات الحل والتي يفترض بها التركيز على نبذ وملاحقة ورفض الحوافز
الاقتصادية للسلوك العنفي والإجرامي كالقتل والسلب والنهب والغنائم،
ويتصدر هذه الحوافز المرفوضة السياسات العامة الموجهة لتمويل التسليح
والأمن وتقديم الخدمات "للموالين" وحرمان "المعارضين"، ومنح تسهيلات
للمخالفات والتجاوزات. كما تتضمن الحوافز المرفوضة أرباح قطاعات تهريب
السلاح واحتكار المواد الأساسية وشراء الولاءات السياسية. الأمر الذي
يقوض أسس التنمية المستقبلية ورأس المال الاجتماعي، مما يتطلب تطوير
الأدوات لمواجهته. إن الضغط باتجاه الشفافية والمساءلة للجميع هي ركيزة
رئيسية تبدأ الآن وليس بعد التسويات السياسية.
*** *** ***
مراجع مختارة:
-
المركز السوري لبحوث السياسات (2013): الأزمة السورية: الجذور
والآثار الاقتصادية والاجتماعية.
http://scpr-syria.org/att/1360366400_6xyyP.pdf
-
Ballentine. K, Nitzschke. H, (2005): "The Political Economy of Civil
War and Conflict Transformation", Berghof Research Center for
Constructive Conflict Management, (April).
-
Collier. P, Hoeffler. A, (1998): “On the Economic Causes of Civil
War”, Oxford Economic Papers, 50, pp. 563-73.
-
Collier. P, Hoeffler. A, (2004) “Greed and Grievance in Civil War”,
Oxford Economic Papers, 56, pp. 563-95.
-
Garfinkel. M, Skaperdas. S, (2006): "Economics of Conflict: An
Overview"(April), prepared for inclusion in T. Sandler and K.
Hartley (eds.), Handbook of Defense Economics, Vol. 2 (chapter 3).
-
Groot. O, Brück. T, Bozzoli. C, (2009): "Estimation of the Economic
Costs of Conflict", DIW Berlin, Department of International
Economics, Discussion Papers: 948, Berlin, (November).
-
Hoeffler. A, Reynal-Querol. M, (2003): "Measuring the Costs of
Conflict", Centre for the Study of African Economies, (March).
***
المركز السوري لبحوث السياسات