كاريزما الألم
مؤمن سمير
الساحر
للأبد... ارتبطت حياتي بهِ، فدخلَ تلافيفي وصار يتمشى في عَظْمي كل
ساعةٍ وكل لحظةْ. هذا المرعب القادر. ذهبوا إليه ليُفَرِّقَ بيني
وبينها، لأنهم إقطاعيين قدامى ولأنه في الدرجة العليا من السحرة الذين
لا يصل إليهم العاديون، فقط الصفوة... ولأنه – وهذا هو الخطير في الأمر
– يحب عمله ووقعَ في إسار رَنَّة الرعب في عيون التائهين وما يقابلها
من بريق الخلق والنشوة في عينه هو، ساعتها. واستعاضَ منذ سنين عن صحبة
الناس عديمي الخيال بِعِشْرَةِ الشياطين المُلْهَمين. فقد قرر أن يجعل
من عمله مفخرة ونموذجًا، فلم يكتفِ "بصدة النفس" والكراهية بإزائها
وإنما حَوَّلها إلى قردةٍ وحَوَّلني إلى طائرٍ ٍأسود بلا عيون. والشقةُ
بحرٌ في الصباح وفي العصر أخدودٌ وتماسيحٌ ودمْ... وكَيٌّ وشواءٌ في
المساء. ثم أوصلني إلى الموت مفتوح الحدقاتِ وشفتُ أفاعي القبر بأم
رأسي فصرختُ مثل الفرخة المذبوحة وقمتُ بالطلاق وهم معي يرتعشون ولا
ندري مَن نحن. ولأني خرجتُ مُحَطَّمًا، فقد تَكَفَّلَ أهل الخير بالبحث
لي عن ساحرٍ طيبٍ! ليصير رفيقي، ويحاول تعويضي بعزائم النور ثم
يُحَصِّنني من أي محاولاتٍ للقبض عليَّ مستقبلاً، حيث لم أعد أحتمل
و(لم يعد فيَّ). حَكَّ الطيبُ رأسهُ وأغمض عينيهِ واستعاد بهاء علاقته
بالسماء – حبيبة الطيبين – وقال سأبتكر لأسمو. هاتوا من لترات ماء
الندى سبعًا وضعوا عليه من أكياس الملح سبعًا ولتشرب العيون التي تتحرك
وتسمونها إنسانًا. وَضَعوا القدور على سطوحنا وسطوح الشارع كله
وحَمَّلوا الماء المعكَّر بالطين والحشرات وحطُّوها بفخرٍ وسط مظاهرة
الجيران في القلب، قلب الغرفة والذكريات القادمة. تجمَّعوا وشالوني
وسندتني أمي من اليمين وخالي من اليسار والأقدار من الأمام كي لا أقع
في اليم وبدءوا يسقونني وأتقيأ ويملأوني برقةٍ في البداية ثم بعنفٍ
وفروغ صبر. وأتقيأ وأتقيأ حتى فقدتُ الإحساس بالألم والأصوات، إلا أن
عقلي كان صاحيًا يُحصي أشباحي ويتوسل إليهم ويحتار بين القهر والتساؤل،
حتى فقدت الوعي نهائيًا وتركت لهم الأشباح ترتب المكان. بعد فشل الخيال
الأول واستمرار آثار السحر في المعدة - كما أفتوا - أتى بطحالب متعفنة
منذ سنوات في زجاجةٍ تغيَّر لونها من جراء الدفن في الطين وقال اشرب.
وتكرر الأمر إلا أن إغماءاتي كانت أسرع. في المرة الثالثة أتى بسَوْطٍ
سوداني معتَّق في الزيت المغلي و... هرب الوعي الجبان ولما عادَ كان
جسدي مُشَرَّحًا ويصلح أن يكون سبورةً وحديقةً لكل الألوان. وسط كل هذا
كانت لا تفارقني فكرتان: الأولى أن خيال صاحبي هذا فقيرٌ وقاصرٌ ويفتقد
للألمعية والأَلَق. ظَنَّ أن السحر شيء ملموس وحاول أن يطرده من الجسم
حتى لو خرجت معه روحي مصحوبةً باللعنات. لكن لو لم يكن شيئًا ماديًا
فماذا يكون؟ قدرة كامنة من قوى النفوس المخفية عنا يبعثها شخص عن
بُعْدٍ ونظن نحن أنهُ يُسلِّطَ خُدَّامًا غير مرئيين لينفذوا مشيئته،
أقصد مشيئة الشيطان، أقصد القَدَر، يعني المشيئة الإلهية في النهاية...
تعبتُ واللهِ... وتهت. الثانية أن من يعيش عالةً ليس من حقه أن يعترض
أو يفرض أفكاره. هم صوابٌ دائمًا في احتمالاتهم ويقينياتهم و(كَتَّر
خيرهم على كل حال). والحق أني لا أستطيع أن أعترض أساسًا على فكرة
السحر أو على أي شيء، لأن الطب بشقَّيْه العضوي والنفسي فشل وفضحني
أمام نفسي وأمامهم، فلأصمت وأشكرهم كل ثانية. ثم إني لستُ عالةً عليهم
فقط، بل أنا عالةٌ على نفسي وعلى القَدَر منذُ وعيت. جُنَّ جنون الأول
مما يحاولونه فحرص على أن يأخذ من جهودهم لتحصيني القلب والأساس،
فيبقيني مريضًا أبديًا وأكون دليلاً متجددًا على إتقانه رغم بلوغ
المرام وانتهاء المهمة - يعني أتحول من مجرد حالةٍ إلى أيقونة. وهكذا
تَحوَّل جسدي – المحطم أساسًا – إلى ساحة للتصارع. فبعدما كان الأمر
معافاة الطعام والشراب وقيء مستمر حتى أصل إلى الهزال الكامل ويرفض
الجسم الجلوكوز فيأتي الهلاك مزدهرًا، تحولتُ الآن إلى نزيف دائم لا
يستجيب بالطبع لأي علاج حتى يجف الجسد وأنتهي. وتَقَّوى صاحبي في
اللحظة الأخيرة بآخرين حتى قاربوا الكتيبة وعشت دهورًا بين الجَيْشيْن
وشكلي يقارب الشبح وعقلي الذي كان ينتفض ويتذكر كونه يرفض الماورائيات
لا يفعل شيئًا الآن إلا أن ينتظر لحظة إفاقة ليصدق الجميع ويقول الكون
مليء بالأسرار التي لم نعلمها بعد أو يسميها العلم بأسماء أخرى وتستعيد
الأذن كلمات الأطباء الهامسة علاجك ليس في الطب، إنه في مكان آخر.
والحمد لله أنني ما زلت أحيا وأتنفس... وهكذا. ثم إن هذا الرعب ليس
غريبًا عليَّ، ففي الجولة السابقة صَغُر حجمي حتى قارب الأطفال، وكانَ
الأهل المتأرجحونَ بين الرعب والشفقة يحملونني على ذراع واحدة. المهم
أن المارد الآن دخل بي في لعبة جديدة الثاني ضعيفٌ فيها!! هي الكوابيس،
تلك القصائد التي لا تخلو من إبداع حقيقي يدل على رغبة قديمة في قنص
روح الفن. إنه يستعرض جماليات قدراته ويلِّون حلبات الصراع، حتى قاربتُ
على الجنون وامتلأت حواسي بالهلاوس والضلالات. الأسلاف والكهوف والكلاب
والورق الطائر على هيئة سفينة والمسدس الضاحك ورائحة الشواء الخارجة من
القبلات والذَيْل الذي يُحيطُ برقبتي ثم يُفسح الطريق للغَيمة،
القطارات التي هي فم المارد المفتوح... إلخ إلخ. صرتُ أُحْقَنُ
بالمنبهات كي لا أنام فأقابل الثعابين والتنانين والحرائق السوداء
والقهقهات. وهكذا أصبحت أغافلهم وأجري وأقع في الشوارع وسط الطين
وتَتَصعَّب عليَّ الأمهات ويرتعب مني الصغار. ثم أَذِنَ القَدَر الرحيم
أن تنشط تعاويذ المنقذ أو ينشغل المارد بالانضمام إلى كواليس أمير!!
ليتم إنقاذي قبل (السراي الصفراء) مباشرةً. الأزمة الدائمة تكمن في أن
جيش المؤمنين بالإنقاذ - حصني وقلعتي - قد تخور قواهم أو حتى يمَلُّوا
من إجهاد الخيال الجبار والقدرة العنكبوتية الصادرة عن هذا الذي
استعمرني، أو أن يتذكرني هو ويعود مرة أخرى ليلعب في ساحتي
المُحَطَّمة. هل سأعيش للأبد بين حفرة الخوف وظلام الإعجاب الخفي بهذا
المبدع، ثم الكراهية الحقيقية الخام والصافية حتى أنني أراني أذبحه
وأجد قطراتٍ من الدم على جِلْدي الناشف وأضحك وأقفز وأشرب رحيق
السِكِّين من كل جزءٍ فيه. يا ليته يقتلني وأنتهي وأرتاح. لكن يبدو أن
هناك إرادة عليا تقصد أن تُفوِّت عليه الفرصة، قوةٌ تلعب معه، فلا أموت
في كل مرة يتهيأ الأهل لهذا والطبيب العابر يقول أمامه يومٌ على
الأكثر، فيرى الناس فيَّ معجزة ويدورون بين الحزن على شبابي وبين
اعتباري وَليًّا سيفتح لهم ولأحفادهم أبواب الرحمة والجِنان... وأنا
تائهُ وبَيْنَ بَيْن... لا أنا إنسان ولا أنا غير ذلك... لا أنا حزينٌ
للموت ولا فرِحٌ بعدم مجيئه بعد أن عاينته ولمسته. لم أعد أدري هل أنا
عقلانيٌ وشجاعٌ في وجه الأقدار كما كنت أقول لنفسي في غرفتي أم تحولت
إلى رقمٍ في جيش المؤمنين البارعين في تأويل كل شيء لصالح الطمأنينة
والسكون، الزاهييْن الآمنيْن. كشفني الألم وقال عاجزٌ ضعيفٌ وعقلكَ
الذي ياما كنتَ تزهو بهِ معيارًا وحيدًا تاهَ فسَلَّمَ فقط بشرعية
الألم وجبروته وقسوته، فنه ورسوماته وأصواته وتنغيماته وخرائطه وألعابه
وأنهاره وتواريخه وأولاده وكشفه الدائم لأصل وعمق النور كلما يهل
الظلام... وأزميله الجارح للَّحم السمين كذلك... مكتنزٌ هو ومليء
بالتجليات... وأنا لستُ إلا عيونًا تُحَدِّقُ وتَكْرَهُ الجميع... فقط.
أنا سماءٌ قديمةٌ وعجوزٌ ولا تمطر. هل أنتظر الموت حقًا أم أن الأمل في
الحياة هو الأصدق منذ الأزل؟ وهل لهذا أكونُ الجبان الضعيف المنهار أم
أنا المجاهد في وجه العبث؟ أين أسكنُ وسط هذه التحولات... مكان الشبح
الذي احتملَ خفَّتَهُ وخَبَرها، فأحيا بهيئة واحدٍ من الذين يعيشون
وسطنا وهم قَضوا منذ سنوات، أم أرقدُ تحتَ شُبَّاك الحقيقة التي تتخذُ
من الموت قناعًا لتداري إشراقها وحبها لِلِّحظة المنيرة وسط الصحراء
والمسماة بالحياة؟ ابتسمت وسط بكائي الحار لأني تذكرتُ حلمي الذي
صاحبني طول العمر، وهو أن أصير من المُلاك. عاش أبي ومات وهو موظف يعيش
في شقة بالإيجار وأكملت أنا الوضع وصارت بدايات الشهور لا تعني عندي
إلا طرقات على الباب يعقبها يدٌ تدخل فيَّ وتخرج بورقٍ ملَّون. شيء
ساحر أن تُقلِّب في الروزنامة بأمان وأن تترك أولاد أختك يمارسون
الضجيج ولا تتوسل إليهم أن يهدأوا كي لا يطلع صاحب البيت و(يعطيكم
كلمتين). عندما تملكت دراجة كنت أنظفها يوميًا وأكسوها بالريش الجميل،
كل أشكال وأحجام وألوان الريش، وأصلي في المساء كي لا تطير إلا وأنا
معها. لا لا أنا كذابٌ كبير، امتلكت مرةً من قبل لما قالت البنت لي أنا
أحبك وأضافت جملتها الساحرة التي أربكتني "ملكت قلبي من اللحظة
الأولى... أنت مالك أنفاسي ذاتها".
ثم أني الآن أملك ما لا يملكه أحد: اللعنة. أنا مالك اللعنة، ومملوكها
الأثير.
حزينٌ حقًا ومحتارٌ. ولا يثبت داخلي إلا صورة مهيبة، واحدة لا تهتز
أبدًا ولا تغيب.
لعملاقٍ يرتدي رداءً ذهبيًا، على كتفه طائرٌ
يخطف البصر فلا يعود أبدًا.
يقدِرُ على منح الحياة ويقدر على منعها.
... أو على الأقل،
يقفُ في مواجهةِ المَرَايا
ويكشفها...
"السفينة"
أنادي عليكِ ولا تردين...
فقط تدورين بين الغرف،
تَشدِّين العظامَ وتصطادين الحياة تلو الأخرى...
فلا تنسي كل فجرٍ أنني ما زلتُ في البحيرة،
وأنني أعمى،
وأنني أرتعشُ
.... والسلام.
"ثعابين المستشفى، الطالعة للسماء..."
ثلاثُ سنواتٍ كاملة قضيتها مسمومًا ومنهكًا في ذلك المستشفى المتواري
في الشارع الجانبي. أشواقي تحركت أكثر من مرة إزاء عدة ممرضات كُنَّ
يتناوبنَّ عَليَّ، وعندما كان الكلام يتحول إلى النعومة والجمال، خاصةً
في الورديات الليلية، كنت أنتبه فجأةً لخرطوم (الرايل) الخارج من أنفي
ولأنابيب الجلوكوز المُعَلقة فيَّ أو المُعَلَّقُ أنا فيها (فتصعب
عَليَّ نفسي) وأُنهي الحديث بأكبر قدر من الصَلَف وأحلم بالثعابين ثم
أسمح للدموع أن تحتل المشهد وتبلله فَيَغْرَقْ. وعندما غادرتُ كنتُ بلا
مناعة تقريبًا، صِحَّية أو نفسية، كالطفل الصغير الذي اعتاد على أنَّ
كل الأمور تؤثر فيه. فكانت نظرة حسناء، متسربلة بيقينها بأنوثتها
وبالتالي بالثقة الكاملة في قدرتها على التأثير، تصيبني بالارتعاش
وهطول الأمطار وازدياد آلام الجزء الشِمال من الجسم، فأصرخ داخلي: هذه
مقدمات الذبحة الصدرية وأهرب بأقصى سرعة. وعندما أتساند وأدخل مصلحة
حكومية وألمحُ إشفاقًا في حدقات الموظف وهدوءًا يغزوني الإحساس بأنه ما
سَعِدَ هكذا إلا لأنه نجح في الاتفاق مع أولئك الذين سيحاصرونني في
الطريق لاستخراج بقايا الكبرياء القديم، الذي لم أعد أشم رائحته. قليل
من الهدوء يجعلني أترنح، وجناحا طائر يَسُدَّان النور عن عيني التي
تضيقْ. لكني كذلك لا أنسى أبدًا أيام السجائر المحشوة الزاهية والنبيذ
ونيران القوة وأتحسَّرْ، خاصةً إذا ضَغَط صديق على يدي لإثبات محبته
فيقف الدم وأحتاج إلى معونته لتتحول العلاقة بيننا إلى عائلٍ ومُعَال.
في النهاية كان لابد أن أضع حلاً لكل هذا الضعف الذي يتشفى فيَّ كل
صباح، والذي هو حبيبي حسب كلامهم "لا بد من اليوم أن تعتاده لأنه صديق
الأيام القادمة...". وتمنيت ساعتها أن كل هذا الذي يجري لي كان في
مرحلة عدم الإيمان التي استمرت عدة سنوات كانت الأسعد في حياتي. كنت
حرًا، وركبتُ الطائرة وكادت تهلك وتعالت الابتهالات جواري وحولي بينما
أسبح أنا مع بتهوفن وأقول لأذهب للعدم على جناح الموسيقى. كان اختبارًا
حقيقيًا. الموت هو أوضح وأقسى جبل تقف أمامه. لا ينفع التمثيل والتشخيص
في هذا المقام أبدًا أبدًا. الصعب جدًا أنني حاليًا مؤمن، ولا أفهم كيف
كنت موقنًا في القديم وأحمل أدلتي والآن أنا موقن أيضًا وأحمل نفس
الأدلة ولكن بالعكس! يبدو أن هذا الوعي العجيب الذي يشيلنا ويحملنا
وينزعنا من سياقٍ ويُثَبِّتنا في آخر ويضحك من وراء ستار، لا يكف أبدًا
عن اللعب. المهم أنني لن أستطيع قتل نفسي كي لا أصير كافرًا وجاحدًا
وأضمن الخلود في جهنم، وكذلك لا أنسى أبدًا كوني جبانٌ أصيلٌ ازداد
خوفه الغائر والمعجون بلحمه بالمرض، وفكرت أن الحل هو أن أُلقي أمام
مَنْ يكرهني بهذه الفكرة، فكرة الخلاص مني، حتى ينتهزها فرصة ويتقدم
لقتلي بنفسٍ راضية، وأنتقلُ من جحيم الحياة وأنا في مصاف الشهداء.
ونَفَّذْتُ هذا مع ثلاثة من الذين يرتاحون لجماليات الشر واتساع مجالات
روائِهِ وإبداعه. الأقوياء القادرون على أن يُمثلِّوا كلمة (قتلَهْ)
وتجلياتها في داخلهم قبل الخارج، يعني يقدرون ويتمتعون بفعلٍ من أخص
وأَجَلِّ أفعال الآلهة وهو سحب الحياة والقبض على لحظة انكشاف الضعف
البشري – أو القوة؟ التي لا تدانيها لحظة ولا مُتْعَة. وعشت كل أيامي
في قلقٍ وحيرة، مَنْ منهم سيستغل حالتي ليقول لنفسه وهو راجع قبل الفجر
أنا المهيب العظيم الحقيقي؟ سيصل اليوم؟.. أم غدًا؟... أم متى؟ والأهم
كيف أوهم نفسي بأنني ضحية ولم أرتب شيئًا، كي لا أخسر بريق الشهداء
والملائكة المنتظرة طول الوقت لتحفُّهم وتسكنهم أعلى عِلِّيين. المصيبة
أنني لا أنسى كوني متواطئًا وفاعلاً، رغم أني أتدرب بكل همةٍ وإخلاص.
وبهذا صارت حياتي عذابًا في عذاب ومللتُ وضاع تركيزي وصار الجيران
يسمعون بكائي وصراخي طوال الليل والنهار. هل ستدخل عليَّ جحافل الطريقة
الصوفية التي حفظتُ أورادها من كثرة السماع والطيران ليعتبروا أن
الأوان قد آن لضم التائه في دنيا الظاهر إلى براح الباطن، أم أن
الأخبار ستصل إلى الأقرباء فيسعدوا بالخلاص مني بأي صيغةٍ كانت، خاصةً
وأنني كنت قديمًا ثقيلاً بمرضي والآن صرتُ مقرفًا بلحيتي الطويلة
وفضائحي التي تجلب المَعَرَّة لأسرةٍ لم تجرب أن يقول الناس عن أحد
أفرادها "مجنون". يبدو أن تغيير موقعي في هذا العالم من عائشٍ إلى ميت
سيريح العالم مثلما سيريحني، لهذا سيتدخل القَدَر، لأنه يُجَرِّبُ كل
فترةٍ أن يكون طَيِّبًا أو حتى غير ذلك، المهم أن يكسر أفق توقعك
والسلام، فينزع إحساس الذنب من الجميع. مؤكد سَيحِل الأمر، وهكذا ستأتي
الضربة من أي اتجاه، وتكون في وقتها بالضبط، يعني في أي وقت! لهذا أنا
الآن على سطوح البيت أو المستشفى أو المصلحة الحكومية... لا أدري.
أقبضُ على اللحظةِ الملتبسة بين طيران الظلمة وهبوط النور... شبيهتي.
أراقب الثعابين الطالعة للسماء...
وأعقد ذراعيَّ حولي كيلا أخاف.
أغمض عيوني وحواسي لألِّونَ انتظاري...
وأبتسم من القلب.
"وِرْدُ القوة"
... حتى أن أجمل ما في الألم
وأنقى ما في الخوف...
أن الضعفَ يفتح شُبَّاكًا
للشرِ الطائرِ
والكُرْهِ
العظيم...
*** *** ***