نافذة الإغاثة
حسن شوتام
«حتى متى أصبر وأنتظر يا إلهي؟» اندفع السؤال حارًّا ثائرًا كما من
فوهة بركان نشيط نفذت صهارته من بين أضلع منى؛ مغلِّفة جسد الصغيرة
الشقراء على ركبتيها بسحابة كثيفة من الحيرة. كانت تلك أول مرة تغتصب
فيها "منى" عذرية الصندوق السري معلنة هشاشة أركانه وصدأ نتوءاته
الصدفية البرونزية. لطالما أمعنت في الكتمان واحترفت لعبة الأقنعة كيما
تُبقي الصغيرة "ريم" في دائرة أمان وهدوء بعيدًا عن المشاكل والخلافات
الأسرية؛ وقلَّما وقفت أمام جموح زوج اندفع وراء نزوات واهتمامات دونية
حدَّ تمزيق الرباط المقدِّس وتدنيسه. أتراها تدفع ضريبة الصمت؟ أم هي
ضحية هرطقة ذكورية تشكَّلت وتطورت وتجذرت عبر مدارات الزمن آخذة سمة
اللزومية؟
-
أمي!
-
أي حبيبتي!
-
كم يومًا سنمضي عند خالتي راحيل؟
-
لم نصل بعد حلوتي وتفكرين في الرجوع؟ خالتك ستغضب!
هذا ما كانت تخشاه "منى"؛ من اللجَّج العميقة في باطن مخيِّلة الصغيرة
ستتفجر الأسئلة الكبيرة والملغزة وقد تستحيل طوفانًا يغمر صندوقهما
السرِّي فيعبث بمحتوياته ويكشف خباياه! مشهد الطوفان أرعب "منى" فقررت
توجيه فراشات الأميرة "ريم" نحو مراع خضر بعيدًا عن بريتها الموحشة
وشمسها الحارقة. بحنان ضمتها إلى صدرها وكأنها تحميها من مجهول، ورغم
خلوِّ المقعد بجانبها من أي راكب فقد فضَّلت إبقاء "ريم" على ركبتيها
متجاهلة حرارة أغسطس وهذا الهواء الساخن، المضغوط داخل حافلة-فرن غير
مكيَّفة. وحتى تسلي عن الصغيرة بعض الملل والتعب، طفقت تدندن لحنًا
كنسيًا قديمًا وهي تداعب خصلات "ريم" الذهبية بأطراف أصابعها معيدة لها
شكلها اللولبي الفاتن، ولعل هذا ما حمل جسد "ريم" على الاسترخاء
فالاستسلام لشذى صدر والدتها وما ينضح به من حنان وطيبة وأمان. حينها
صعدت من أحشاء "منى" زفرة عميقة وكأن ما لحق بعشهما من عبث وتفكُّك
تحوَّل إلى وحش يمارس حياته فيها كلَّما غفت أو حنت لهدوء نسبي أو راحة
وقتية؛ تارة يغرقها في حوار داخلي رتيب لا رأس له ولا أساس وتارة أخرى
يتقمص دور الزوج باحترافية وأداء مقنعين معطيًا لخبرات الألم فرصة
التكلُّس والحضور.
-
الحياة معك "منى" صارت لا تُطاق! تحشرين نفسك في كل شيء! تريدين ضمِّي
لحامل مفاتيحك؟ ارحميني يا امرأة!
-
الحياة معي صارت جحيمًا؟ هل تأخرت يومًا عن تلبية طلباتك؟ الوحيد الذي
له الحق أن يرغب ويريد ويأمر ويرفض ويفرض هو أنت! مراد، أعلم أنك لم
تعد تحتملني رغم جهلي بالأسباب لكن ما ذنب طفلتنا ريم؟
-
وما دخل ريم في الموضوع؟
-
تغيرت كثيرًا من ناحيتها، ما عدت تأخذها في نزهات أو تتصابى معها مثلما
عهدتك على السجاد! ما عدت تهتم بها و كأن سرَّ الأبوة فيك قد مات!
صدر عن ريم فجأة صوت أشبه بالأنين وكأنها مايسترو حوار نشاز أمعن في
التهاطل من سماء غاضبة بلون الدم والنار والكبريت.
-
ماذا تفعلين منى؟
-
كما ترى؛ أعدُّ حقيبتي.
-
إلى أين؟
-
إلى أي مكان، المهم بعيدًا عن هذا الجحيم!
-
أها... جلسنا وفكرنا وخططنا وقررنا؛ وها نحن نُعدُّ الحقائب ونحط كل
شيء موضع التطبيق من دون اعتبار لأي سلطة في البيت أو ترتيب!
-
من فضلك مراد؛ كفَّ عن هذا الأسلوب فجسدي منهك وذهني مشتت أما صدري فقد
امتلأ من مشاجراتنا الهستيرية حدَّ التخمة!
-
سؤالي واضح ومحدَّد؛ إلى أين ستذهبين؟
-
سأزور أختي راحيل لبضعة أيام وربما سأقضي الأجازة كلها هناك.
-
ماذا؟ الأجازة كلِّها؟ ومن سيرعى شؤون البيت؟ بعد أسبوع سألتحق بالعمل!
-
ياااه مراد! تريد من الجارية منى أن تهتم بطعامك وشرابك ولباسك، أما
العشيقة، الخليلة فب.....!! ألست تخجل من نفسك أيها الأب المحترم؟
-
هل اتصلت بك راحيل ثانية؟ ملأت ذهنك أكاذيب وخرافات! شحنتك كالعادة
ضدِّي؟
-
يا زوجي العزيز، تفكِّر دائمًا كما الأطفال يفكرون. الكل بات يلوك قصة
علاقتك بتلك الحشرة! وحدها حمارتك الصامتة اختارت عدم التصديق طلبًا
للتعزية، لكن البارحة عند الفجر رأيتكما تتحاوران عريانين عبر
الإنترنيت و...
-
اخرسي!!!
توقفت الحافلة فجأة وتصاعد من مقدمتها دخان قاتم أجبر الركاب على
النزول سريعًا خشية أن ينفذ الدخان الأسود إلى الداخل فيصابوا
بالدُّوار أو يجبروا على لفظ أمعائهم في أكياس بلاستيكية، آنذاك تدافعت
الأجساد عبر الممر الضيق فامتزجت رائحة البنزين بزفراتهم العميقة
وكأنهم عائدون للتو من ساحة حرب أو أرسلوا أحرارًا بعد أسر في أرض
غريبة. كانت المنطقة التي حدث فيها العطب شبه صحراوية يكاد ينعدم فيها
أي أثر للظل لولا أعمدة الكهرباء المنتشرة على طول الطريق والتي بسطت
ظلالها المستقيمة الحادة الضيقة مشكلة والعمود الإسمنتي زوايا قائمة
تخالها كراسي استراحة تقدِّم الدعوة لكل سائح تائه أو عابر سبيل. "منى"
وبعض الركاب فضلوا البقاء في الحافلة ومقاومة الهواء الملوث بمناشف
معطَّرة خوفًا على أطفالهم من ضربة شمس في الخارج. ولعلَّ كلمات
المراقب وتقريره المقتضب والمطمئن عن حالة محرك الحافلة ضاعفت من قوة
احتمالهم وصبرهم مادامت الرحلة ستُستأنف بعد عشر دقائق. بالنسبة
للصغيرة "ريم"؛ توقُّف القطار، السيارة أو الحافلة يعني ياغورت، قطعة
شوكولاتة أو كيس فستق مملَّح، وبالفعل وبشكل آلي، أجلستها "منى" على
الكرسي الذي بجانبها، وأخرجت من مزودها المطرَّز قطعة حلوى ملفوفة
بعناية في ورق ألمنيوم ثم كيس الفستق الذي لا غنى عنه وقت السفر. وفيما
كانت "ريم" تقضم الحبات المملَّحة وتتأمل ورق الحلوى الفضي في انشغال
طفولي؛ كانت والدتها تكتحل بحبَّات ساخنة رمليَّة، وتشدُّ حقويها
بنباتات شوكيَّة، متأهبة لطقسها البرِّي الروتيني الفردي. لكن هذه
المرَّة فوجئت بصحرائها الممتدة الأطراف وقد ضاقت بجموع المسافرين
والتائهين والمغتربين والنائحين والساجدين والراكعين والمعطَّلين
والمتشكِّكين والخائفين والمتنعِّمين و.. و.. هياكلهم مطمورة في الرمال
إلى الصدر، ولسان حالهم: ابتعدي "منى" لا تقتربي من هذا القفر! شُلَّت
حركتها تمامًا لرؤيتها ذلك المشهد وظلَّ صدى تحذيراتهم يتردد في داخلها
لبعض الوقت إلى أن تلاشى وضاع بين حروف عبارة بارزة أمامها: "نافذة
الإغاثة".
حوَّلت "منى" انتباهها عن الصحراء وأخذت تراقب ظلال المسافرين وهي
تستعرض ألوانها القوس قزحية على هامش الطريق، متداخلة حينًا متقاطعة
ومتماسة حينًا آخر لكن قلَّما لحظتها متنافرة متصدعة. كانت منسجمة،
متفاعلة وعفوية أكثر من حامليها وكأنها تعرض أمامهم نموذجًا أصيلاً
للحياة.
استمرت "منى" في تتبع الظلال المتحركة فيما يشبه العبث وقد ألصقت خذها
بزجاج النافذة، مُردِّدة اللحن الكنسي القديم ذاته، وكلما حجبت السحابة
الصغيرة "العرض الظليَّ" الرتيب؛ كانت تلفُّها بحركة دائرية سريعة داخل
المنشفة المعطَّرة ثم تواصل المشاهدة، كان طرف الثوب الأرجواني
المعتَّم بين أصابع يدها ينتظر نهاية العرض بيد أن شعورًا خاصًا
انتابها على حين غرة فلم تقو أو تجرؤ على إسداله، لم تتعرَّف "منى"
مصدره لكن أحسَّت به يمتلكها، يسود عليها، ويخلق فيها أشياء جديدة لم
تختبرها من قبل. واصلت "منى" متابعة "العرض الظليِّ" بجوع وعطش غريبين
باحثة عن ظل يشبهها، يحاكي تيهها وغربتها في البرية، يجتثها من تربتها
المالحة ويزرعها في عذوبة المعنى. على الجانب الأيسر من "نافذة
الاغاثة" لاحظت "منى" يدين صغيرتين تثيران الغبار بنشاط زائد
فتتبعهما يد كبيرة لتنفض عنهما الغبار وتحوِّل حركتهما نحو شيء آخر، بل
كلَّما أصرَّت على منعهما أمعنتا أكثر في العبث بالتراب وهكذا. تحيَّرت
"منى" وهي تتملى تلك اليد المُوجَّهة والمُصرَّة على منع الصبي من
إثارة الغبار دون كلل أو ملل. "ماذا تراني صانعة بالصبي لو كنت مكان
تلك الأم؟" حاصرها السؤال لكن لم تجرؤ على مواجهته فقررت نقل فضولها
والتطلع إلى الأم جملة هذه المرَّة من غير تفصيل. "مستحيل إنها هي...
نعم أعرفها حق المعرفة لكن لمَ هي تشبهني حدَّ التطابق؟ لا... لا... من
غير المعقول أن أكون أنا! لست أحمل سمات تلك الأم الصابرة المُحبة بلا
حدود! أهي الحقيقة يا إلهي وأنا ظلها؟ وماذا عن الصبي؟ لعلِّي أهذي من
ضربة شمس. طفلتي الوحيدة هي "ريم" من أين لي ذاك الـ.. صبـ...؟"
تخشَّبت الحروف في حلقها، بل صُّعقت حينما مرَّرت بصرها على تقاطيع وجه
الصبي. كان هو؛ "مراد" زوجها بنزقه واندفاعه يثير غبارًا أصفر من
حولها، منتعشًا بظلها الأسود ومُراوغًا تلك اليد الكبيرة؛ يدها
المثقوبة، الموجَّهة والمصرَّة على منعه من إثارة الغبار دون كلل أو
ملل!
*** *** ***