لَقَدِ امْتطى
فَرَسَ الضِّياءْ
البشير النحلي
ما الْأَمْرُ يا أَبَتِ الأَنيق كَبَسْمَةِ الْفَجْرِ الْمُوشَّحِ
بِالحَياة؟
حَدَّدْتَ وَقْتًا لِلْوَداع
وَجَمَعْتَنا وَضَمَمْتَنا وَشَمَمْتَنا وَأَعَدْتَنا لِتَعاطُفِ
الزَّمَنِ الصَّغير:
كُنَّا هُنا
زُغْبَ الْحَواصِلِ نَحْتَمي بِجَليلِ حُبِّكَ مِ الْهَجير
وَبِعُشِّنا - يا عُشُّ قُلْ- كُنَّا نَرى
أَزْهار فَرْحَتِنا تَفَتَّحُ في الفُصولِ جَميعها بِشِتائِها
وَمَصيفِها وَخَريفِها،
فَبِعَيْشِنا وَحياتِنا ما كانَ في أَنْحاءِ دَوْحَتِنا خَلا الْقَلْبِ
الْكَبير؛
كُنْتَ الصَّفاء،
فَلَمْ تُساوِرْكَ الشُّكوكُ بِمَ النَّجاة:
اِخْتَرْتَ كُلَّ مَليحَةٍ
وَحَبَبْتَ كُلَّ جَميلَةٍ
وَرَكِبْتَ خَيْلَ اللهِ فَانْبَسَطَ الرَّجاء،
وَتَرَكْتَ لِلنَّارِ الْتِقامَ النَّارِ، لَمْ تَأْبَهْ لِغَيْرِ سَنا
الْمَحَبَّةِ، لَمْ تَحاسَدْ أَوْ تَباغَضْ أوْ تَخُضْ مُسْتَنْقَعَ
الشَّرِّ الْمَوات
أَوَ لَيْسَ قَدْ نَسَجَتْ مَحَبَّتُكَ الْأَصيلَةُ مَوْئلاً
لِلْمُعْتَفينَ الْعابِرينَ اللّابِثينَ الصّادِقينَ الْكاذِبينَ
الْقَانِعينَ الطَامِعينَ الطّامِحينَ الْحامِدينَ النّاقِمينَ عَلى
السَّواء
أَوَ لَيْسَ قَدْ صَلَّيْتَ مِنْ أَجْلِ الْحَياة
وَحَييتَ مِنْ أَجْلِ الصَّلاة،
فَقَطَعْتَ أَعْشابَ الضَّغينَةِ وَالتَّعَصُّبِ والرَّداءةِ والرِّياء
بِمَناجِلِ الْحُبِّ الْقَدير
أَلْآنَ تَجْمَعُنا هُنا لِتَقولَ ماذا يا أَبي؟
نَبْكي فَينْهرنا صَريحًا ساخِرًا، يَعْلو السَّحابُ لِبَعْضِ وَقْتٍ
غُرَّةَ الصُّبحِ الْمُنيرِ: "لِمَ الْبُكاء،
سَأَكونُ أَوَّلَ مَنْ سَيَخْتارُ الْبَقاءَ لِأَجْلِكُمْ"!
مِنْ فوْرِهِ يَصْفو، يَقومُ مِنَ السَّريرِ، يَسيرُ مُتَّئِدًا إِلى
بابِ الْفضاءِ مُوَدِّعًا وَمُسَلِّما:
"دارَ الأَماني والْجَمالِ إِلَيْكِ مِنِّي – راحِلاً– أَغْلى الدُّعاء
اِبْقَيْ هُنا، كوني الْمنى، وَعَلَيْكِ دُنْيايَ السَّلام"
وَيَعودُ لِلْعُشِّ الْصَّغيرِ، يَجولُ بالْعينَ السَّعيدَةَ في
تَفاصيلِ الزّوايا والْوُجوهِ، يَمُرُّ من بابٍ لِبابْ،
يَمْشي وَئيدًا واثِقًا مِنْ كَوْنِهِ يَحيا دَقائقَهُ الْقَليلَةَ
باسِمًا وَمُواسيًا وَمُقاسِمًا زَهْرَ الْخِتام
لَكَأَنَّهُ وَكَأنَّنا في لَحْظَةٍ مَخْلوطةٍ، فيها تَقاسيمُ
الْغُموضِ الْبَرْزَخيِّ، فَلا وَراءَ وَلا شَمالَ وَلا يَمينَ وَلا
أَمام
ماذا يُفيدُ عَمى الْكَلام؟
كُلُّ اللُّغاتِ غَريبَةٌ، وَأَبي الْمُصابِرُ لا يُفاجئهُ النِّداء،
يَسْتَأْذِنُ الْأَحْبابَ لِلنَّوْمِ الْقَصير،
يَغْفو خَفيفًا ثُمَّ يَصْحو، يَرْفَعُ الْبَصَرَ الْوَدودَ إِلى
يَمينِهِ حَيْثُ ساعَتُهُ الْقَديمَةُ،
"لَيْسَ بَعْدُ؛ وَفي الْبَقيّةِ فُسْحةٌ لِلْخير" يَهْمِسُ باسِمًا
فِي أُذْنِ أُمِّي، سائلاً إِنْ كانَ شَيْءٌ يَنْقُصُ الْأَحْبابَ!
كُلُّ الناسِ أحْبابٌ بِعُرْف أَبي الْكبير،
وَأَبي عَنيدٌ لا يَكَلُّ مِنَ الْعِنايَةِ بالْجَميعِ، وَلَيْسَ
يَشْغَلُهُ الْقَريبُ عَلى الْبَعيدِ وَلا الصَّحيحُ عَلى الْعَليلِ
وَلا الْكَبيرُ عَلى الصَّغير،
وَأَبي عَفيفٌ لا تُراوِدُهُ شَكاة
مَا الْمَوْتُ؟ حتّى المَوتُ عِنْدَ أَبي عُبورٌ لَيْسَ أَكْثَر
في دَقائقِهِ الأخيرَةِ كانَ يُصْلِحُ بالْإِشارَةِ مِنْ قِرَاءَةِ
أَكْبَر الأَبْناء، فَالْقُرآنُ راحَةُ روحِهِ الْفُضلى الْفُرات
مَعَ آخِرِ النَّفَسِ الْمُضَمَّخِ بِالشَّهادةِ والصَّلاة
كانَتْ عَقارِبُ ساعَةِ الْعشِّ الدَّفيءِ عَلى تَمامِ الْسَّابِعهْ
مِنْ لَيْلَةِ الشّهْرِ الْمُبارَكِ.
هَكذا قالَ الْجَميلُ وَهَكَذا كان الْوَداع
أَوَ هَكَذا أَبَتي الْجَليلُ؟ أَتَمْتَطي فَرَسَ الضّياءِ وَتَتْرُكُ
الْعُشَّ الصَّغيرَ كَما تَرى نَهْبَ الضَّياع؟
مَا الْأَمرُ يا أَبَتي؟ أَتَتْرُكُنا وَتَتْرُكُ أُمَّنا تَذْوي
بِصَمْت قاحِلٍ لا يَرْتَوي بِجَدا التَّعاطُف وَالْعَزاء؟
كانَتْ عَقارِبُ ساعَةِ الْمَوْتِ الأَليمِ تَشُكُّ تَشْرَبُ مِنْ
دِمانا تَرْتَوي وَتَظَلُّ عَطْشى جائعَهْ!
أَوَ أَنْتَ لا تَدري؟
لا أَنْتَ تَدْري،
وَالْمَوْتُ عِنْدَكَ لَيْسَ أَكْثَرَ مِنْ عُبورٍ سَوْفَ يَتْبَعُهُ
اللِّقاء
فَإِلى الْحَياةِ، لَكَ الْبَقاءُ لَكَ الْحَياة.
*** *** ***
|
| |
|