إصغاءٌ لأغنية الطائر (انتوني دو ملّو)
ثناء درويش
أيُّها الطائرُ، جئتني من حبيبي بهديَّةٍ، وما أغلاها من هديَّة.
وضعتُ أذنَ الرّوحِ على الصدفِ، وأصغيتُ في ذهولٍ ونشوةٍ إلى صوت
البحر، فغيَّبني الحضورُ عن ضجيج البشر.
أغنيتك يا معتوقُ حكايةٌ سرمديَّةٌ، سمعتها منك في قديمِ اللازمان،
فبكيت وجدًا وتوقًا للحبيب، لأتلمس نفسي بعدها، وإذا بالزغب كسائي،
وجناحان من نورٍ يحلِّقان بي إلى مداراتك التي لا تحدُّ.
ما أبسط كلماتك يا رسول الحبِّ، لدرجةٍ يصعب معها التفسيرُ أو
التأويلُ، لأنها الأوَّل والأصل، فالبساطة ذلك الفنُّ السهل الممتنع،
كتاب الفطرة الذي لا يجيد قراءته إلا من عاد طفلاً كأوَّل خلق.
وسألتك: "أيها الحرُّ، بحقِّ من أرسلك، لماذا اخترت الغناء عند
نافذتي". فابتسمت عيناك، وصدح تغريدك يجيبني: "ألست من ناداني بفيض
حنينٍ ولهفةِ انتظار، وها قد أتيت في وقتي الموعود، شوقك جذبني إليك،
ولولا الشوق ما أتيت". وعدت أسأل: "من أين جئت، وأيُّ البلاد بلادك،
بأغنياتك الغريبة القريبة، أحفظ معناها عن ظهر قلب، كأني من غنَّاها".
-
كلُّ أصقاع الأرض لي وطن، وإلى كلِّ نافذة مشرعة للنور هجرتي، أتيت من
كلِّ عرقٍ وجنسٍ وقوميَّة، من كلِّ مذهبٍ وطائفةٍ ودين، من الوحدة
الإنسانيَّةِ الجامعة، والمعنى الرحب الذي تصبُّ به جميع المفاهيم.
اصغي إلى إيقاع لحني، تلقيني قادمًا من البوذيَّة والهندوسيَّة، من
الإسلام والمسيحيَّة، من التصوُّف والزن والحصيدية. جئت أقصُّ عليك
أحسن القصص، ومن لا يحبُّ القصص يا أخت الروح، خاصة إن جاءت لتحرِّض
نموًا روحيًّا.
ويستدرج السؤال آخر في دهشة لا تنتهي، وشغف ولوع لا يشبع، وفضول معرفة
يفضي كلُّ باب منه لألف باب:
-
"ألا قل لي أيها الطائر الحبيب، كيف تُقرأ قصصك".
وكهدهد سليمان، من عنده الخبر اليقين تجيبني:
"لقراءة قصصي طرقٌ ثلاث:
1.
اقرأ القصة مرة واحدة. ثم انتقل إلى قصة أخرى. هذه الطريقة في القراءة
لن تمنحك إلا التسلية.
2.
اقرأ القصة مرتين. تدبَّر معانيها. طبِّقها على حياتك. سيهبك هذا ذائقة
لاهوتية. يمكن لمثل هذا الأمر أن يتم على نحو مثمر ضمن مجموعة يتقاسم
أفرادها تدبُّرهم للقصة. بذلك تكون قد تألَّفتْ حلقة لاهوتية. اقرأ
القصة من جديد بعد أن تكون قد تدبَّرتَ معانيها. أحلِل الصمت في دخيلة
نفسك ودع القصة تكشف لك عن عمقها ومعناها الداخليين: شيء يتعدى الكلمات
والخواطر. سيهبك هذا وجدانًا صوفيًا.
3.
أو فاحمل القصة طوال النهار واترك شذاها ونغمها يسكنانك. اتركها تخاطب
قلبك، لادماغك. قد يجعل هذا منك أيضًا نوعًا من المتصوف. لقد رُويت
غالبية هذه القصص أصلاً بالنظر إلى هذه الغاية الصوفية".
حينها أدرك يا غرِّيد أنك المعلُّم الروحيُّ الذي آثر أن يكلِّف نفسه
بمهمَّة تبليغ ما وصل إليه في دروب العرفان، وأن غناء الطيور على
بساطته مدرسة، وأن كتاب الطبيعة مفتوحٌ على قراءات بعدد أنفاس الخلائق.
فأعود لمقدمة الناشر الذي توحَّد مع الكاتب وطيور السماء بذات الأغنية،
لأشدو معهم:
تغني الطيور
تمجد الله في السماء
تغرد الطيور
تدعو إلى رب العلاء
لتكن محبة
وقلوب الناس في هناء
من أجلنا جميعًا
تغني الطيور
يا لأغنية الطائر ما أبدعها، إنها بوابة العبور إلى الحريَّة والانعتاق
من سطوة المحسوس والماديِّ، وأنفاس محبة غامرة تحيا بها القلوب.
ثمَّ عودة من جديد لتحقيق الانسجام بين العقل والنفس والروح، بقلب حيٍّ
حاضر أبدًا، ليتجسَّد معنى الإنسان.
أغنية تقول إنك المبدأ والدرب والمنتهى، وما من مقصود سواك، فحتَّام
تنظر حولك وتظنُّ المعنيَّ بالتوجيه أيُّ إنسان عداك:
حذار من تطبيق القصة على أيٍّ كان سواك (كاهن، ملاّ، كنيسة، جار). إن
فعلت فإن القصة سوف تضرُّ بك. كل واحدة من هذه القصص إنما هي عنك، لا
عن أحد سواك.
هكذا يقتضي التحذير من خبير بالنفس البشرية وثغراتها، حيث اعتادت أن
تحاكم وتدين وترى عيوب سواها وتتبرَّأ من كلِّ خطيئة وخطأ.
وهكذا يقتضي التعليم أن تقرأ القصص وفق تسلسلها إن كنت مبتدئًا، ليحقق
الكتاب غايته كدليل ومرشد:
عندما تقرأ الكتاب للمرة الأولى اقرأ القصص بحسب الترتيب الذي وردت
عليه. فالترتيب يفصح عن تعليم وعن روح يضيعان إذا قُرِئت القصص كيفما
اتفق.
لا تحدَّ نفسك بالتعليقات الواردة في هذا الكتاب. إذ لاشيء يضطرك إلى
استعارة بصيرة سواك؟
ذلك أن كلَّ قصة مفتوحة لتقرأ بطرق عدَّة لاستنباط الحكمة منها، ولكلِّ
قارئ أن يتوصل بنفسه إلى مغزاها، دون أسره بما رآه الكاتب.
ولعلَّ هناك من يأخذ على الأب انتوني تذييله كلَّ قصة بما رآه فيها من
عبرة، رغم تحذيره المسبق بالوقوع في مثل هذا المطب. لكني أرى أن الكاتب
يرأف بذوي العقول الضعيفة، أو من يسير أول خطاه على درب الحكمة، فيأخذ
بذلك الكتاب طابعًا تعليميًا مباشرًا، حتى ولو حاول أن ينعتق من ذلك
ويرتدي حلَّة الطيور وينشد غناءها.
فيأتي كتابه في 124 نغمة متنوعة متدرجة في قوتها، كل نغمة تصدر عن وتر
لتسمعها آذان صاغية وقلوب واعية.
قصص تآلفت واجتمعت تنشد الإنسان فينا، وتخاطب الفطرة التي علاها
الغبار، وتجلو مرايانا الصدئة، بدعوة للتأمل والتفكر، وتحريض السؤال
وتركه مفتوحًا بلا جواب قطعي في كون كل ما فيه نسبيٌّ.
تلك هي طريقة العرفان في الأخذ بيد المريد لمعرفة نفسه فربه باعتباره
الكتاب المبين الذي انطوى فيه العالم الأكبر، مبتعدًا عن التلقين
والنسخ، فاتحًا أمامه آفاق الكشف والدهشة الولود من أبسط الأشياء إلى
أكثرها تعقيدًا، فلا يحبسه بالنصِّ ولا بالتقديس، ولا يرتضي له تبعيَّة
ربٍّ ومربوب، إلا ما عقده الحبُّ فلا انفصام له أبدًا.
وعلى لسان كل مخلوق من إنسان وحيوان ونبات ينطق العرفان عند انتوني دو
ملّو، فيشابه بذلك مولانا جلال الدين الرومي وفريد الدين العطار وسواهم
من أهل الطريقة وسلَّاك الحقيقة. حيث تبقى القصة الأيسر والأقصر كوسيلة
للوصول إلى قلب التلميذ لا دماغه.
ذلك أن القلب هو مسقط الوحي ومهبط الأنوار، ولن يفلح في هذا الدرب من
جاء مثقلاً بحمولته، كحمارٍ يحمل أسفارًا.
قال التلميذ للمعلم جئتك ولا شيء في يدي، فقال المعلم اتركه فورًا،
فقال التلميذ كيف أتركه وهو لاشيء، فرد المعلم: إذًا فاحمله أينما
ذهبت.
وكثيرًا ما يظنُّ المتفرِّج على هكذا مدرسة، أو الجاهل بأمورها، أنها
قد تحرمه متعه الماديَّة، وتطفئ ولعه بالدنيا، فيبتعد حتى عن فضول
الاطلاع عليها، بل يصل به الأمر إلى معاداتها ورجمها "والإنسان عدوّ ما
جهل"، وما هي في الحقيقة إلا تشذيب وتهذيب للنفس، ونظافة للحواس من
ركام الأوهام، بحيث تكون الدنيا فرصة للحياة لا للعيش فقط، ومعبرٌ
لمدارات أعظم وأوسع.
إنه طريق الانعتاق والحريَّة، فمن ارتضى أن تسوده شهواته وتقوده بدل أن
تذلل لأجل إنسانية وتكون مطيَّته نحو مبتغاه، لن يرى في هذه القصص إلا
حكايات للأطفال، وإنها حقًّا كذلك، فليتنا نعود أطفالاً، أولئك الذين
قال فيهم يسوع الناصريٌّ: "لن تدخلوا الملكوت حتى تعودوا أطفالاً".
أطفالٌ يحيون فرح اللحظة بكل أمديتها الرحبة، وتظلُّ الدهشة تملأ
عيونهم ألقًا وشموسًا، ملكوتهم سماوات إنسانيَّة حقَّة، هم فيها أسياد
أنفسهم، بلا ترغيب ولا ترهيب.
ما أحوجنا اليوم إلى هكذا مدارس ونحن نرى ما آل إليه الحال من صراع
قوميَّات وأديان، كلٌّ يحسب أنه المجتبى والأصلح للبقاء، فيحلل تصفية
الآخر لتكون له الغلبة والسيادة.
ألا ليت المعنيون بوضع المناهج، يرأفون بعقول أبنائنا ويعفونهم من قصص
التاريخ التي دفع الإنسان غاليًا ثمنها، ويستبدلونها بتربية روحيَّة
ماديَّة متوازنة، عن طريق مثل هذه القصص، تسلط الضوء عليه كإنسان
مكلَّف مختار لعمارة هذا الكون بدل السير به نحو الدمار.
معك أيها الطائر، سنحلِّق ونغني، فمن يدري من منَّا الأسبق وكم من مريد
فاق معلمه وسبقه، ومعك سنرى حكمة قراءة القصص وفق تسلسلها. فها هي
القصة الأولى تشير إلى أن دور المعلم الإشارة ودور المريد التفكر،
فكأنها فاتحة الكتاب ومستهلّه:
"كل ثمرتك أنت"
شكى أحد التلاميذ ذات مرة:
"إنك تروي لنا قصصًا، لكنك لا تكشف لنا أبدًا عن معناها."
فقال المعلم:
"ما قولك لو قدم لك أحدهم ثمرة ومضغها قبل أن يعطيكها؟
أما قصة "اقطع الحطب" فتترك القارئ في دهشة اللحظة وفرحها وكأن غاية
الاستنارة ما كانت إلا أن توصلك للإحساس بقيمة أبسط الأمور، والتي
كثيرًا ما تراها عبئًا أو واجبًا مملاً، إنها بكلمات قليلة تجعلك تعيد
ترتيب حياتك والنظر فيها والامتلاء غبطة وشكر لنعمة الصحة التي تمارس
بها حياتك بمتعة وسهولة:
عندما بلغ معلم الزِنْ الاستنارة كتب السطور التالية احتفاء بذلك:
"يا للروعة المذهلة:
أقطع الحطب!
أسحب الماء من البئر!"
لا تتشابه القصص ولا الأفكار في الكتاب وإن بدت كذلك لقارئ عجول غير
مهتم، فكل فكرة مفتاح لمعرفة النفس والاستنارة، لكنها تفضي جميعًا إلى
غاية واحدة هي "أنت".
قصص تأخذ بيدك لبساطة الحقيقة التي تحسبها في الأسرار المغلقة
والمخطوطات الصفراء القديمة، فإذا هي ليست أكثر من غناء طائر:
"أسمعت ذلك الطائر يغني"
كان التلميذ دائم التشكِّي لمعلِّمه: "إنك تحجب عني سرَّ الزِنْ
الأعظم." وما كان ليقبل إنكار المعلم.
ذات يوم، بينما كانا سائرين على التلال، سمعا طائراً يغني.
"هل سمعت ذلك الطائر يغني؟" قال المعلِّم.
"نعم،" قال التلميذ.
"حسن. فأنت تعلم الآن أني لم أحجب عنك شيئاً."
"نعم."
في قصة "الشيطان وصديقه" لا يسخر الطائر من معتقدات الآخرين، بل يقرُّ
بوجودها، لكنه يراها حجاب الحقيقة، وهيهات يصل من أغلق على نفسه باب
عقيدته وهو يحسب أنه القابض الوحيد على الحقيقة، وأنه الناجي وسواه في
النار:
ذهب الشيطان مرة في نزهة مع صديق له. فأبصرا أمامهما رجلاً ينحني
ويلتقط شيئًا من الأرض.
سأل الصديق: "ماذا وجد هذا الرجل؟"
فقال الشيطان: "قطعة حقيقة."
سأل الصديق: "أفلا يزعجك ذلك؟"
فأجابه الشيطان: "لا. فسوف أدعه يجعل منها معتقدًا."
إن كل حبَّة رمل هي معلم وكل ذرة وكل فكرة، لكن مطبَّ التعليم الأكبر
على يد مرشد روحي أن تتحول أمور بسيطة يقوم بها المعلم أمام مريديه إلى
شعائر وطقوس. وما أطرف هذه القصة بعنوان "قطة الغورو"، تلمِّح إلى هذه
الحقيقة وتحذِّر منها:
كلما جلس الغورو للصلاة في المساء أتت قطة الأشرم وسط المصلين وألهتهم
عن صلاتهم. لذا أمر الغورو بربط القطة خلال صلاة العشاء.
بعد وفاة الغورو ظل القوم على ربط القطة خلال صلاة العشاء. وعندما نفقت
القطة جيء بقطة أخرى إلى الأشرم حتى تُربَط كما ينبغي طوال صلاة
العشاء.
وبعد ذلك بقرون كتب الفقهاء من تلاميذ الغورو رسائل فقهية في المغزى
الشعائري لربط قطة أثناء إقامة الصلاة.
إني لأعلم جيدًا أن الإصغاء لشدو طائر لن يشبِّهني به، لكني أعلم أيضًا
أن هكذا إصغاء سيطهر روحي ويعلمني كيف أحيا وأتحمل الألم والمعاناة
وأتوحد مع الكون وأساعد أخي الإنسان وأحسُّ به، خاصة في عصر اللهاث
وراء المادة وسعار التملك وضيق الأفكار.
وحتمًا أقِّدر أني لم أفِ الطائر حقَّه بعرض أغنياته، لكنني حسبي أن
أشير إلى أهميتها كمنهج حرٍّ لتحقيق إنسانيتنا المنشودة.
*** *** ***