|
السلطانُ في عُزلته
قرأ ابن خلدون الخططَ – الوظائفَ – السلطانية، والرتبَ الملوكية – ومن بينها الحجابة والقيام بشأن الباب السلطاني – في سياقها التاريخي المرتبط بتطوُّر الدولة والعمران وأشكال الحكم والإدارة منذ ما قبل الإسلام، مرورًا بالخلافة الراشدة، وصولاً إلى انقلاب الخلافة إلى مُلْك عضوض، ومجيء رسوم السلطان وألقابه. وهو يميِّز بإلحاح بين هذه الوظائف – السلطانية – وبين الخطط الدينية الخلافية، أي الوظائف في ظل دولة الخلافة. ويؤكد باستمرار على أنَّه قد تكلَّم على الوظائف السلطانية – والحجابة واحدة منها – بما "تقتضيه طبيعة العمران في الوجود الإنساني... لا بما يخصُّها من أحكام الشرع"، لافتًا النظر إلى تمايز صنيعه عن فقه الأحكام السلطانية، وخصوصية منهجه القائم على قراءة الظواهر العمرانية في سياق تطوُّرها التاريخي-الاجتماعي، وفي ارتباطها الوثيق بأشكال الحكم وأطوار الدولة. لقد لاحظ صاحبُ المقدمة ثلاثة حُجُبٍ تقوم على باب السلطان لتنظيم تواصله مع العالم، وتظهر تباعًا بدءًا من لحظة الانتقال من الخلافة إلى الملْك (حيث لا وجود لخطة الحجابة في أيام الخلافة الدينية، لما في الشريعة من منع مدافعة ذوي الحاجات عن باب الخليفة)، وصولاً إلى اضمحلال الدولة وهرمها. الحجاب الأول يظهر بالتساوق مع انتقال الخلافة إلى الملْك، ومجيء رسوم السلطان وألقابه، حيث ينتقل صاحب الدولة من "حالِ الغضاضة والبداوة والقرب من الناس"، إلى الانفراد بالمجد والاستبداد على قومه. أما الحجاب الثاني فيأتي عندما يستفحل المُلْك، وتجيء مذاهبُه ومنازعُه، فتشتد التراتبية وتتحدد هوية الخاصة، ثم خاصة الخاصة، وتزداد الحاجة إلى ضبط الباب السلطانيًّ بتكثير الحُجُب والحَجَبَة. أما الحجاب الثالث فهو الحَجْر على السلطان، ويظهر عندما يكون السلطان صبيًا أو ضعيفًا عاجزًا، ويقوم خواص الملك أو أحد الأوصياء الأكثر سلطة ودهاء بالحَجْر عليه. وهذا الحجاب "لا يقع في الغالب إلا في أواخر الدولة... ويكون دليلاً على هرم الدولة ونفاد قوتها". من الواضح أن ابن خلدون يتكلم على الحجاب الثالث – الحجْر على السلطان – استنادًا إلى واقعة تاريخية بارزة، تمثلت في انقضاض الحاجب المنصور – محمد بن أبي عامر – على كرسي الخلافة الأموية بالأندلس، بعد وفاة الحكم المستنصر سنة 366هـ، حيث كان وليُّ عهده ابنُه هشام المؤيد صبيًا لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره. وكان ابن أبي عامر قد استطاع القبض على بعض الصلاحيات منذ عهد الحَكم المستنصر، وصار أثيرًا لدى صُبْح زوجة الحكم وأم هشام المؤيد. لذلك تمكن بعد وفاة الحَكم من التحرك سريعًا للترقي إلى أعلى المناصب. واستطاع خلال أقل من سنة بعد وفاة الحكم المستنصر أن يمسك زمامَ الأمور بقبضة حديدية، ثم لم يلبث أن حَجَر على هشام المؤيد وصار يحكم باسمه. إن مسعى ابن أبي عامر تمحور منذ البداية حول هدف مركزي أساسي وهو: تحويل السلطة وإعادة توزيع نقاط تكثُّفها، وتفتيت مرتكزاتها السابقة من خلال الإطاحة بحامليها القدامى في الإدارة والجيش والقصر، تمهيدًا لـ"استجرار الأمر لنفسه، وسبك الدولة على قالبه" على حد تعبير المراكشي. ولتحقيق هذا الهدف المركزي، عمل المنصور بن أبي عامر منذ وقت مبكر على توسيع قاعدة شعبيته في قرطبة، والتقرب إلى العامة. وكانت سهولة الحجاب والكرم والبشاشة والبقاء على تواصل مستمر مع العامة، من بين الأساليب التي اتبعها لتحقيق هذا الهدف. يقول دوزي: "لم يجعل حجابًا بينه وبين أي طارق لبابه الذي كان مفتوحًا على الدوام لطلاب الحاجات غير مسدود في وجوههم". وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى استفادته القصوى من غزواته الثلاث الأولى في توسيع رقعة شعبيته، ونيل مزيد من الحظوة لدى الخليفة. إن الهدف الأساسي من غزواته الثلاث هذه لم يكن على الإطلاق في الثغور، وإنما في العاصمة. وقد اتخذت هذه الحقيقة شكلَها السرديَّ لدى عدد من المؤرخين – ابن عذاري مثلاً – من خلال الحديث عن كل غزوة بوصفها حدثًا سريعًا وعابرًا، تكمن أهميته فيما سينتج عنه بعد الرجوع إلى العاصمة. من هنا يمنح السردُ قدرًا أكبر من شريطه وتدقيقاته للأجواء المرافقة لعودة ابن أبي عامر إلى قرطبة، والثمار التي قطفها هنا بعد الرجوع. بينما يكون التمثيل السردي للغزوة نفسها والأعمال العسكرية فيها موجزًا غامضًا وسريعًا. كذلك مكنه التحالف مع القائد العسكري البارز (غالب) المقيم في مدينة سالم في الثغر الأدنى، والذي كان على عداء مستحكم مع الحاجب المصحفي؛ من تكريس أمجاد عسكرية ذات طابع دعائي احتفالي، ومن ثم توسيع قاعدته الشعبية، تمهيدًا للقضاء على الحاجب المصحفي، بوصفه عقبة كبيرة أمام المنصور في سعيه من أجل السيطرة على القصر: المجال المركزي لسلطة الشرعية. بعد القضاء على المصحفي، بدأ المنصور "غرْس صنائعه ورجاله عوضًا عن صنائع جعفر وشيعه" على حد تعبير ابن الخطيب. وقد فهم ابن حيان حقيقة التحركات التي قام بها ابن أبي عامر بعد إسقاط المصحفي فهمًا عميقًا فقال: ... رمى الدولة من كنانتها... وأنفق على ضبطها أموالَها وعددها، حتى حوَّلها إليه، وسكبها على قالبه، وسلخ رجالها برجاله، وعفى رسومَها بما أوضح من رسومه، وأسقط رجال الحكم من سائر الطبقات: الكتَّاب وأصحاب السيوف والأقلام، ومزَّقهم وأقام بإزائهم مِنْ تخريجه واصطناعه رجالاً سدُّوا مكانهم، ومحوا ذكرَهم، أعانوه على أمره. لم يكن الحَجْر على هشام المؤيد، كفكرة وكتطبيق، إلا نقطة الذروة في السعي الذي بدأه ابن أبي عامر منذ وقت مبكر، وتمثَّل – كما أشرتُ سابقًا – في تحويل السلطة واستجرار قنوات ضخها نحو حقول جديدة يهيمن عليها ويقطف ثمارها. لكن الرجل، وبحسِّه السلطوي التاريخي النادر، قرر أن يقوم بخطوة أخيرة حاسمة وضرورية، قبل إخراج الحَجْر إلى حيز التنفيذ : بناء مدينة الزاهرة، التي أطلق أوامره للبدء ببنائها حين أيقن أن السلطات الواسعة التي بات يمتلكها، تتطلّب بالضرورة تهيئة مجال جديد، ينظمه ويسيطر عليه ويتيح لصلاحياته المتنامية التحقق والفعل والانتشار. خاصة أنه كان يتهيأ لتحويل قصر الخلافة الآفلة إلى مجال مغلق معزول وبدون سلطة. وبكلام آخر يمكن القول: إن الزاهرة لم تكن في نهاية المطاف إلا المجال الذي شيَّدَه ابن أبي عامر ونظَّمه بالشكل الذي يُمكِّنُه من تحويل السلطة واحتواء الرصيد المُحَوَّل منها في الوقت نفسه. إنها مركز إدارة استثمار سلطاته الواسعة التي حصل عليها، والتي يتهيأ لرفدها بسلطات جديدة، في سيرورة عطش للسلطة لا يرتوي أبدًا. وهذا بالضبط مغزى وهدف الإجراءات التالية التي اتخذها ابن أبي عامر بعد انتقاله إلى الزاهرة مباشرة: رتَّب فيها جلوسَ وزرائه ورؤوس أمرائه، وندب إليها كل ذي خطة بخطته، ونَصَب على بابها كرسي شرطته، وأجلس عليه واليًا على رسم كرسي الخليفة... وكتب إلى الأقطار بالأندلس والعدوة بأن تُحمَل إلى مدينته تلك أموالُ الجبايات، ويقصدها أصحاب الولايات، وينتابها طلاب الحوائج، وحذَّر أن يعوج عنها إلى باب الخليفة عائج، فاقتُضيت لديها اللبانات والأوطار، وانحشد الناس إليها من جميع الأقطار. من جهةٍ أدرك المنصور أن الحَجْر على الخليفة الصبيِّ، بوصفه عملية إغلاق ومحاصرة للمجال المركزي الذي تستعلن فيه سلطة الشرعية ورمزيتها؛ لم يكن ممكنًا إلا انطلاقًا من مجال جديد يمنحُه مزيدًا من السلطات والقدرة على المبادرة واستخدام الصلاحيات المتنامية. كما أدرك، من جهة ثانية، أن استثماره للمجال الجديد، كفضاء لاستقطاب وإعادة توزيع السلطة وإنتاج تمثلاتها الجديدة، لن ينجز بشكل كامل ما دام المجال القديم قادرًا على فعل الأمر نفسه. مما حتم عليه القيام في المقابل بإعادة تنظيم المجال القديم أيضًا، مستغلاً إلى أبعد مدى كل ما تحصَّل له من سلطات: في الجيش والإدارة، في الشارع القرطبي، وأخيرًا بامتلاكه مجال جديد مستقل ومنظم تحت إشرافه وتدبيره. ولتحقيق ذلك سارع المنصور إلى القيام بخطوتين متكاملتين لإعادة تنظيم المجال القديم واستكمال مقدمات الحَجْر. تمثلت الأولى في السيطرة على قصرالخليفة من داخله، أي على الفاعلين الأساسيين في المجال المباشر لسلطة الشرعية، وذلك من خلال تغيير طاقم الخدمة والحراسة داخل القصر، ووضع نظام مراقبة داخلية صارمة على المجال المهيب للسلطة. أما الخطوة الثانية فتمثلت في تطويق القصر الخليفي بحراسة مشدَّدة، ومراقبة خارجية مستمرة تتيح له عزل الخليفة، وقطع خطوط التواصل المفتوح بينه وبين العالم الخارجي. من هنا لجأ إلى تنظيم مصادر الأخبار، وجعل حَجْب الخبر عن الخليفة، أو توصيله إليه، مسألة خاضعة لرقابته وإذنه، وبما يكفل صرامة الحَجْر وتحقيق كامل أهدافه. وتشير المصادر إلى أنه كان متشددًا في الرقابة على وصول المعلومات إلى الخليفة، حتى أنه كان ينكِّل بمن يخالف تعليماته بهذا الخصوص. لقد أقام الخليفة الصبيُّ "خفيَّ الذكر، عليلَ الفكر، مسدودَ الباب، محجوبَ الشخص عن الأحباب، لا يراه خاص ولا عام" على حد تعبير صاحب البيان. وثمة إشارة واضحة إلى أن المنصور أمر ببناء سور وحَفَْر خندق حول قصر الخليفة. ويقول ابن خلدون في تاريخه إن المنصور حَجَب هشامًا و"غلب عليه ومنع الوزراء من الوصول إليه إلا في النادر يسلِّمون وينصرفون". لكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا هو التالي: هل يصح فعلاً اعتبار الحجر على صاحب الدول تطورًا سياقيًا تاريخيًا للحجابة بمعناها المعهود وهو: القيام بشأن الباب السلطاني وحفظه والاستئذان للداخلين عليه...؟! إن نقاط التماثل بين الحجر والحجابة، الذي جعل ابن خلدون يصنِّفُ الحَجْرَ على أنه حجاب ثالث، لا ينبغي أن تحجب التمايز الجوهري بينهما. وهو تمايز يحيل إلى سيرورة كاملة للدولة والسلطة وأشكال التغلب والحكم في التاريخ الإسلامي. وقد لاحظ ابن خلدون بعمق أن اللحظة التي تستدعي خطة الحجابة، تختلف تمامًا عن تلك التي تستدعي عارض الحَجْر على صاحب الدولة. فالأولى من لوازم تحول الدولة من البداوة إلى الملْك، وتترافق مع استبداد صاحب الدولة على قومه وانفراده عنهم بالمجد. أي تأتي في سياق صعود الدولة وقوة صاحبها. أما الثانية فيستدعيها واقع مختلف تمامًا، صاحب الدولة فيه "صبي صغير أو مضعَّف... يؤنَسُ منه العجز عن القيام بالملك"، مما يقدم ذريعة وحافزًا لأحد الوزراء أو الحاشية بالتغلب على الملْك وتحويله إليه. في الحجابة، كما في الحَجْر، ثمة حجبٌ وأبواب وأحراسٌ تفصل بصرامة بين السلطان والعالم. ثمة فضاءان: داخلٌ تقبع فيه الرمزية بما تمتلكه من شرعية أو مشروعية، أو كليهما معًا، وخارجٌ مرهون لانتظار على الأبواب، أو لحلم التماهي بالداخل، أو الحلول محله، أو الإحساس المستمر إزاءه بالخوف أو الإجلال أو البغض الشديد... إلخ. ولكن خلف التماثل يكمن السؤال عن السلطة الحقيقية التي تقيم هذا الفصل الصارم بين عالمين، وتستثمره بكل ما تستطيع من أجل وجودها واستمراره. من الذي يراقب الأبواب ويسهر على ترتيب فتحها وإغلاقها وينظم حركة العبور بين العالمين؟ من الذي يسمح بخروج الإذن، إلى المنتظرين على الأبواب، بولوج الحضرة، أو يمنع ذلك فلا يصل منتظرٌ إلى مأموله وراء الحجاب؟ ومن الذي يأمر برفع الحجاب ليتسنى للناس مطالعة وجه السلطان ووجهته، أو يأبى ذلك فتظل الحجبُ مرخيةً مستبدةً بالآفاق، والأبصارُ كليلةً والأفكارُ طائشةً؟! في الحجابة، بمعناها المعهود، تكون السلطة الحقيقية وراء ذلك كله بيد المحجوب نفسه، الذي تتحصل لديه في نهاية الأمر مكاسب الترتيبات القائمة على بابه، واستثمارات التوزيع الدقيق للإذن والمنع، ورسوم الدخول إليه. السلطة هنا تقع داخل الفضاء المحجوب، تعمل من داخل إلى خارج. ومجال السلطة مملوك بالكامل لصاحب الدولة الذي تشكل خطة الحجابة جزءًا أساسيًا من البنية الإدارية والسياسية والأمنية لدولته. إنه يستخدم صلاحياته المطلقة في الحجْب والإذن لترسيخ سلطته، والإعلاء من شأن رمزيَّته، كمانح كبير للامتيازات، في مواجهة رعية مطيعة صابرة تنتظر على بابه. أما صاحب الدولة المحجور عليه، فلا سلطة له خارج رمزيَّته التي تُستَخدم الآن من قبل الحاشية التي تتأهب للانقضاض الكامل على الحكم. إنه سجين حجُبِه. وحاجبُه هو سجَّانه الانقلابي بكل ما للكلمة من معنى. هنا لا يقع مركز سلطة الأمر والنهي والمرجعية الحاكمة بشأن الباب، في جوَّانية الفضاء المحجوب، بل في خارجيته. والمجال ليس مملوكًا لصاحب الدولة، بل هو جزء من حصاره وانسداد أفق سلطته. *** *** *** القدس العربي |
|
|