|
تدجين العنف... أو إعدام طفل وسط السوق
أعادني إعدام بائع القهوة الحلبي محمد قطاع إلى ما رواه زميل إيراني عن طفولته في طهران غداة الثورة، حين كانت الإعدامات تتم في الساحات العامة ووسط الشوارع ولا تستثني الأطفال والنساء. كانت الجثث تُعلَّق على الأشجار أو أعمدة الكهرباء وتترك ليومين أو ثلاثة، فيعبر المارة من تحتها إلى بيوتهم وأعمالهم كأنها جزء من المشهد العام. ويروي ابن طهران ذاك كيف كان هو وأطفال حيِّه يهبطون صباحًا من منازلهم قبل وصول حافلة المدرسة ليلهوا بالجثث ويقذفوها بالأقلام والحقائب، ثم يتحرَّقون شوقًا لدى عودتهم بعد الظهر لمعرفة إن أزيلت أم لا، فيتسنى لهم مزيدًا من ذلك اللعب الشيطاني. مجرد التفكير في المشهد مرعب، تمامًا كما هو إطلاق عيار ناري على طفل في الخامسة عشرة، وما يحمله اختيار فمه وعنقه من رمزية لإعدام معنوي قبل القتل الفعلي بدم بارد وسط سوق لم يهبّ فيه أحد لنجدته. لا ترتبط الحادثتان زمنيًا أو مكانيًا، لكن ثمة خيطًا رفيعًا يمسك بهما، هو ذلك التآلف مع العنف وتحويله شأنًا عاديًا، فلا يعود يُحدث الصدمة المعنوية والأخلاقية «الطبيعية» في نفس المتلقي. هكذا يصبح شكل القتل وأسلوبه، لا فعله فحسب، قابلاً للتقبل و«الهضم» التدريجي. والواقع أن العنف الذي تشهده سورية اليوم، تجاوز دموية القتال بين مجموعات متنازعة من جيش نظامي وثوار مسلحين، ليدخل عمق مجتمع الثورة نفسها ويهدد نسيجًا يفترض إنه آمن. هكذا يعدم طفل وسط مدينة «محررة» ولا يحرك المارة ساكنًا لإنقاذه. التظاهرات المنددة والمطالبة بالقصاص من القتلة هي رد فعل متأخر ومدرك. أما الانفعال الأول واللاشعوري في حالة كهذه، والذي يقضي بمحاولة شخص واحد على الأقل منع وقوع الجريمة، فهو مما يعجز عنه مجتمع خدَّره العنف إلى درجة بات قادرًا على تجرُّع المزيد منه كل يوم. هكذا يصبح عابر شارع وسط حلب يقتل فيه بائع قهوة، مثل هؤلاء المارة في طهران. يمضون إلى مصائرهم وتفاصيل حياتهم اليومية فيما الجثث تتدلى فوق رؤوسهم. هؤلاء يستغرقهم وقت طويل قبل أن يتحسسوا جباههم ويتساءلوا: «ماذا حل بنا؟». ولعل هول ما يحدث في سورية، يجعل المرء غير قادر على رؤية تجارب أخرى شهدت أعمال عنف لا تقل ضراوة عما تشهده سورية اليوم، لكنها عادت وخرجت منها. فالمأساة هنا لا تقتصر على قتل طفل، وهو للأسف ما يحدث في الحروب كلها، ولا في طريقة قتله أو مسوغاتها الدينية، بل تتجاوز ذلك كله إلى قتل حساسية الجماعة حيال عنف الأفراد، وشل قدرتها على إصدار رد فعل لا شعوري وطبيعي. فمن حرب البلقان وما شهدته من فظاعات واغتصاب جماعي، إلى مجازر رواندا حيث كان الرجال يذهبون إلى «الحصاد»، حصاد الأرواح، ويعودون مساء الى بيوتهم وعائلاتهم هانئين، لا يخلو التاريخ الحديث من حالات تطبيع مع العنف وتآخٍ معه. وما لم يتوقف السوريون والمؤيدون لثورتهم عند تلك التجارب وكيفية الخروج منها، لن يتمكنوا من مجابهة الجثث المتدلية من الأشجار. غني عن القول إن محمد قطاع ضحية الموت العبثي، لكن تدجين العنف في سورية يدفع إلى التفكير في كل من مر بمحاذاة ذلك الطفل وهو يتلقى رصاصاته... هؤلاء ضحايا بمفعول رجعي. *** *** *** الحياة، السبت 15 يونيو 2013 |
|
|