|
قصيدة النثر: عن جحيمي في البَرِّية
منذ سنواتٍ طوال وأنا منشغلٌ بدرس "رامبو"، ذلك المسكين، القاسي، الذي ضرب ضربته وانفلت من إسارها المذهَّب ولم يصدقها يومًا وقال: "فعلت ما فعلت لأنني أردته، لم أقصد صداقتكم ولا تقديركم ولكني فعلت، فقط ما أحببت ساعتها، فقط". ثم طار ليعيش "الشعر" ذاته، يعاينه ويقبض على ياقته ويشمه. الشعر الذي يقبع في الضفة الأخرى أو في الداخل، في القتل أو في القبلة، الذي يلعب ونحن نطل عليه، علَّه ينادينا فنشرق أو ينأى بنفسه عن قلة إخلاصنا، فتطول جلستنا وراء النافذة. ما يؤرقني في ذلك الدرس هو المسافة التي تقترب وتبتعد في حالة تمثُّله يقيناً، لن أضرب ضربةً تماثل حريقه الدائم ولا أطمح ولست مشغولاً... لكن الأكثر قسوة والجرح الدائم، هو أنني لن أمتلك شجاعة تدفعني لمحاولة مس الشعر واختباره بعيدًا عن الحروف وعجائنها، فأنا إن كنت ابن ظرف تاريخي ملتبس فأنا بالأحرى ابن ظروف شخصية ونفسية أكثر التباسًا. لم أربي فضيلة ومتعة وحرية الخروج عليهم، أبدًا، إلا على الورق. لكني أيضًا، أرتاح لفكرة أنه لا هدف واضحًا لأصل إليه ولا شاطئ أود أن أبلغه. الأمر لا يعدو كوني أعاني مشكلات في التواصل مع هذه الحياة، مع ذاتي وأمي وأبي الميت والأسفلت والهدوء وتوحش الرأسمالية والضجيج والمحبة والله والعسكرتاريا والجغرافيا والقسوة والحيوانات الضالة وبرد الشتاء الدائم في عظمي والأنبياء ومديري في العمل والحبيبات وجسدي الضعيف والطبقات الأكثر ثراءً والخوف والموت والجنس والسماء... إلخ. أرزح تحت سؤالٍ كبير يتفرع منه كل ثانية الآلاف من الثعابين التي تنتظر المساء لتلتف حول عنقي. وكلما مرَّ الزمن واقتربت من نصف العمر أو ثلاثة أرباعه!! أو ما يسمونه سن النضج، يزيد ألمي ويتضاعف حسدي لأصدقائي الذين كرهت جملة "هوِّن على نفسك" وهم يكتبونها على قصاصة يسربونها من تحت عقب باب الغرفة. كان نيكوس كازانتزاكس يصارع الله والشيطان، معًا، إلى أن دخلت عليه أرواحه العظيمة: بوذا، المسيح، لينين فاستجاب ليقينه الأيديولوجي الإنساني وأحب الفقراء والفن. لكن من لي؟ أنا الذي لا زلتُ أفتح حدقتيَّ على اتساعهما بازاء من ينام مطمئنًا على يقين. كيف لوحيدٍ عارٍ ألا يلعب بالخيال، أو معه تأدبًا، ويغيِّر مواقعه ليشتبك بالعالم البعيد فيكون مرةً فوق الفريسة فيشرب عمقها ومرات تحتها فيتلاشى؟ ماذا أملك أمام تيهي؟ مللت منه ومن البكاء فيه وله وكذلك من الضحك والفرح معه ولأجله. لكنني لستُ شجاعًا، ولدت خوَّافاً أفلسفُ رعبي وسأموت كذلك. كيف أصالح هواجسي وأشباحي فيستجيبوا ويجلسوا في حِجري لشرب القهوة، إلا مع الكتابة، مع الشعر، مع قصيدة النثر؟! قصيدتي، التي دخلتها بانسيابية عجيبة... في وقت كانت رجيمة ولا محل لها في الاستيعاب أو النشر أو الاعتراف. لكن ما حيلتي وقد زاد ما كنتُ أكتبه من شعر عمودي ثم تفعيلي من قيودي مختلفة الصيغ والأشكال، كأنها أنين الليل المحشور في الأحداق المغلقة على رعبها؟ أنا بقصيدة النثر، أقصد مع نسبيتها وعريها، أكثر حرية في الفضفضة مع أعدائي – أقصد مع ذاتي المنقسمة إلى ذوات، ولا فارق كبيرًا – وفي السؤال عن صحة بصيرتي التي أربيها في القبو لتطلع شكَّاكة للأبد، للأبد. كتبت قصائد كثيرة، كانت الذات فيها هي المنطلق، وقد تكون المصب... ولما لا؟ وليس ذلك لكون هذه الذات تعلم أو تدرك، بل على العكس لأنها لا تعلم ولا تدرك، فقط هي من يبتدأ الجريمة. أليست هي التي تقبع تحت الغطاء وسط حدائق كوابيسها الدرامية؟ أليست هي من لم تحب أبدًا، فاخترعت الآخر وشكَّلت الطقوس لتختبر برودتها ثم شكَّت كالمعتاد؟! ألم تكن هي التي ماتت وتاهت عدة أعوام بين عشق هذا الموت واستعذابه وبين الرعب القاهر منه؟ الذات مع هذا – بسبب ادراكها أنها فقط تقارب – ليست صانعة العالم. الذات شُبَّاك لالقاء روح طيِّعة وقابلة للتشكُّل بأي إناء، قادرة على التشخيص والتقاط الاحتمالات ثم العودة على مهل للمراقبة ثم احصاء الرعشات. لم أشغل نفسي كثيرًا بأي أسئلة "حول" النص؛ مداه وحدوده وارهاصاته وتلقيه. ولم أنضم للفريق الذي نذر نفسه لاثبات أن قصيدة النثر عربية، لها بذور وبدايات ومحاولات وآباء ومخلصون، أو للفريق المضاد الذي يعتبرها غربية، ولدت هناك وعبَّرت عن هناك، ثم استعرنا هذا الشكل بالتلاقح أو قل عندما جاء أوانه، بعدما نما، عابرًا خجله وتردده وتراوحه، استوى معبرًا عن "هنا"، و"النقاء" في الحقيقة وهم. منذ البداية أميل للرأي الثاني، لكني دائمًا أفضل ألا أكون واثقًا إلى هذا الحد. كما أن كل هذا "خارج" النص، المراوغ، الذي ما أن يصنع قاعدة إلا ويثور عليها. كل هذا بعيد عن طواعية هذا الشكل وانفتاحه وكون اللعب معه، معه هو، ممتع في حد ذاته حتى لو كان مرهقًا وصعبًا. لكن ما أعض عليه بالنواجذ هو أنني أكتب قصيدتي أنا، وصديقي البعيد يكتب قصيدته هو. ليست هناك قصيدة نثر، بل قصائد نثر. وهذه فضيلة عليا. كلنا نشترك في الآباء والأعداء ولكن إن كان هذا الشكل يغري بدخول المتشاعرين والأدعياء والمتسكعين بين الأشكال، فهو أيضًا يكشف عن الحقيقيين. أقصد الأصدقاء، الأخوة في السؤال وممارسته والتعب لبلوغ الأيدي على قمة فوهته. مرت بي حالة فوران إبداعي عجيب، لم أدري له سببًا شخصيًا أو فنيًا ناجزًا للآن، وأقصد الفترة ما بين عام 1995 وحتى 2001 حيث أنجزت 11 ديوانًا!! وهو عدد مرعب حتى بالنسبة لي، منها ما نشر ومنها ما لم ينشر، ولم أصل إلى مشاعر نهائية حيال هذا الأمر. فمرة أرى أنه كان لابد أن أقمع تجربتي في تلك المرحلة، أو أقتص وأقتطع من طزاجتها ومحاولتها القبض على الدهشة في كل ما حولنا؛ ومرة أرى أنه لا يصح أن نقع في فخ الكلشيهات الثابتة التي نخدع أنفسنا ونمررها وكأنها تصح على كل الأحوال والحالات. طبيعة تجربتي، بالذات، كانت هكذا. امتلَكَت هذه المحاولة اتساعًا وتشخيصات وأسئلة طرحتها هكذا، بالضبط. في النهاية الاطلاقيات في أعمق تجلياتها: عجز. وبعيدًا، أو قريبًا، من هذا الكلام: أنا كنتُ أفسر الأمر على أنه انفجار من أدرك أو أمسك أخيرًا بطريقته للبوح أو الهمس أو الصراخ خارج غرفته التي لا تريد أن تجرب الهرب فتصير دبابة أو بطة يصطادها الأطفال من سطوح الجيران! وربما ارتبطت الحكاية بالرفض الذي جوبهتُ به في محيطي الضيق ثم الأوسع، فكأن الأبعاد والمصادرة والتكفير استثاروا مكامن التحدي الإبداعية. ربما. المهم أنني حسبت تلك المدة مرحلة أولى، وهامة، للعب مع كل مفردات العالم ومحاولة التلصص على الشعر المختبئ في كل التجليات وتوسيع مصادر إنتاج الشعرية على قدر الإمكان. ثم مرت عشر سنوات عليَّ، وأنا لا أجد في ما أكتبه: التفاصيل اليومية والعلاقات الصغيرة والمشهدية والصور الكلية وتنحية المجاز لصالح السرد... إلخ من أنماط المرحلة الأولى، مع ملاحظة أنني في دواويني كلها، التي نشرت والتي لم تنشر، كان سؤال المغايرة يؤرقني، ليس في حد ذاته بالطبع، ولكن لأنه لا معنى، أبدًا، لمن يتشابه مع أخيه خاصة وأن الساحة تضج وممتلئة عن آخرها لدرجة التخمة، فكنتُ أطمح مثلاً أن يكون كل ديوان وحدة واحدة مرتبطة برباط واضح أكثر منه خفي، ومتواري أكثر منه مجاني. المهم، جاءت مرحلتي الثانية، وهي هذه العشر سنوات ما بين 2001 و2010 لتنتج ديوانين هما حَيِّزٌ للإثم، والحنين للضعف، أعتمد فيهما على الأسطورة واللعب مع نسبية المقدس المنسية ومقاربة اللفظ المتوهج واستكناه المسكوت عنه في التاريخ أو تحت طبقات الذات. وكنت أكثر حرية في اعتماد الكتابة الأفقية التي تمد السطر الشعري للنهاية، وإن كنتُ اختبرته من قبل في ديواني الأول كونشرتو العتمة (1998) ثم في تحت رجة الحنين المكتوب في (1999) وبهجة الاحتضار (2003) وانتهاءً بديوان تأطير الهذيان الصادر في (2009) وإن بمنطلقات وأهداف وحساسيات متباينة. في الديوانين الأخيرين كنتُ أتمثل بشدة أن هذه الطريقة في الكتابة مجرد حيلة أو لعبة أو وسيلة تفرضها طبيعة بعض التجارب وتبتعد عنها تجارب أخرى، ليست أقنومًا للبوح والسردية، الأمر أكثر تعقيدًا، أو على العكس أكثر بساطة، وما عليك إلا أن تكسر حدود توقعك "أنت" ثم العب وانسى كل ما يبعدك عن فتنة اللعب، ذاتها... الآن أنا واقف. ألهث حينًا وأشفط نَفَسًا عميقًا حينًا آخر. لكني لا أنسى كل يوم أن أرمي أقلام الاستعجال وأزيل الأوراق من عند بحارها المغرقة، حيث، أصارحكم، أبني فخًا للمرحلة المقبلة، شَرَكًا أراعي ألا يكون محكمًا، حيث أغمض عينيَّ وأسمع نبضًا يقول: إن تأخرت الملامح... سأصبر وأصبر... وعدَّتي، التلصص والإصغاء والإضاءة الخافتة والكتاب الذي اعتادت الأشباح أن تخرج منه، وتملأ الفضاء. *** *** ***
|
|
|