باسل شحادة... شهيدُ الحقيقة وأكثر

فادي الداهوك

 

لا شيء غريبًا هذا اليوم، لون الدم لم يتغير وصوتُ الرصاص لم يعد نشازًا بعدَ أن صارَ خلفية موسيقية ضرورية كل يوم قبلَ صعود الأرواح إلى السماء. في حمص أرضُ العذاب وسماءُ سحبِ الدخان الأسود ناحَ الحمام والحجارُ السود، وهل ينوح الحمام وحجارة حمص السود؟ نعم فالأم الحزينة بكت موت ابنها وغابت ابتسامة بجمال خصلة عشبٍ في ربيع آذار.

في اللية الأخيرة لأطفال الحولة، لاحت أمام عينه صورة لآخر طفلٍ راحَ مع قوافل الملائكة المذبوحة، ذلكَ الصغير الذي حضرَ مراسم تبجيل الوحوش لسلطانهم وشاهد بحرًا من الدم المسفوك، منصتًا دون أن ينطق لصراخ ألم الرصاصات والسكاكين المغروزة في أجساد رفاقه وجسدَ أمه البارد... ثم قتلوه.

لم يحضِّر موقع التصوير لفيلمه لأنه جاهزٌ أصلاً وكلُّ الشخصيات تلعب دور البطولة وبلا أجر. أمَّا فكرة هذا الفيلم الطويل جدًا فقد جاءت من خبر انتصارٍ وصله من أرضِ أم الدنيا، خبرٌ جاءَ بكثيرٍ من الاختصار وبكلمتين "مبارك رحل". أولى خطوات هذا المشروع بدأت بإشعال شمعة لأرواح المسافرين على متن قوارب الحرية في النيل، أشعلَ الشَّمعة لتبدأ متاعب المخرج مع الرَّقابة، فنورها يزعجُ رجلَ الأمن في دمشق، تلكَ الأرض التي غاب عنها النور خلفَ قضبان العتمة وصار الياسمين متعربشًا على جدرانها بلا رائحة.

يقول باسل:

عندما يسألكِ المحقق غدًا عن أيمانك، لا تخبريه بنظريتك عن الوجود، ولا عن صداقتك مع الله. قولي له فقط نشاء ما يشاء ولا فتنة على الحاكم.

عندما يصرخ بوجهك سائلاً عن طلباتك، لا تخبريه عن الحرية والعدالة والوطن تكلمي عن الإصلاح ورغبتك ببعض عمليات التجميل في بيروت.

إن اتهمك بالعمالة، لا تخبريه أن الوطن أكبر وأن التاريخ طويل طويل. قولي له أنك كنت مضللة، وقد غرر الحب بك.

عندما يذكر اسم معلمه ويبتسم ابتسامته الغبية البلهاء، لا تصرخي به، لا تهجمي. ابتسمي لزاوية الغرفة، والعني العبودية في قلبك.

خوفي عليك يعادل توقي للحرية.

باسل شحادة ، مخرجُ السبعة والعشرين عامًا عدا الليلة الأخيرة من عمره، غادرَ الولايات المتحدة الأميركية قبل أشهرٍ قليلة تاركًا كل معالم التطور والحداثة هناك وتاركًا منحته في دراسة الإخراج السينمائي وحلمه، ليعود إلى سوريا ويعيشَ مع شعبه محنته في مقارعة الموت وأيام العمل والتعب في صنع الحرية. في الليلة الأخيرة ذهبَ المخرج متوجهًا إلى موقع التصوير في الحولة، حيثُ استشهدَ الأبطال وحيثُ الدماءُ حقيقية ولا دخل للأصباغ في لونها المحمرِّ ألمًا، هناك لا حاجة لإضاءة فالقذائفُ قلَبت ليلَ حمص إلى نهار وحدثُ ذلك اليوم كانَ ضخمًا وفي أعلى درجاته. خرجَ باسل ليصوِّر التهام الرصاص والقذائف لأجساد الناس في حمص لكنه نامَ إلى الأبد عند باب السباع.

يومَ رحيلِ باسل بكى الجميع، كانَ الحزنُ على وجوه كل أصدقائه وصوره عَلت في كل مكان وحُملَت في الارض التي أعطته الفكرة في مصر، باسل أمام بيته في دمشق صارَ صورة تحرسها الشموع وفي سوريا صارَ أيقونة للحب والثورة والسلام، في صغره كانت تبكيه ترتيلة "وا حبيبي" واليومَ يبكيه كلُّ من حفظَ خطوط وجهه وشكلَ حبَّات النمش التي تعلو خدّيه. رحلَ باسل محمَّلاً بآلامه عاقدًا حاجبيه موشِّحًا السماء بضحكته، رحلَ قبلَ أن يحتفلَ نصرَ السوريين على الموت والحرصُ كبيرٌ على عدم ذكر اسم القاتل هنا لأن باسل يكرهه والخوفُ من تدنيس هذه القداسة كبير. فصبيُّ الثّورة الآن شهيد سيزفُّ من كنيسة أم الزنار المتعبة من القصف في حي بستان الديوان بحمص حيثُ تقرعُس الأجراس معلنة زفافَ باسلٍ كما أحب واشتهى وعلى الأرض التي احتضنته في يوم العودة، تاركًا لأصدقائه أمانة ثقيلة بوزن خبر استشهاده، أمانة متابعة الطريق والفيلم الذي لم ينتهِ بعد وصورًا ومشاهدَ كثيرة التقطها ليثبتَ لكل العالم أن الثورة تنتصر على القتل اليومي.

صفحات الفيسبوك امتلأت باسم باسل. يقول السينمائي أسامة محمد عنه: "باسل شحادة شهيد من طائفة السينما والثقافة وسوريا الإنسان. السيد الحرُّ المستقل". ويقول المصور الفوتوغرافي جمال داود: "لا أصدق أنه يموت وما شكل ذلك الموت القادر على اقناع باسل بالرحيل قبل رؤية النصر؟ و كيف تمكن الموت من خداع باسل الذكي؟ وخطفه على عجل دون أن يكمل فيلمه الوثائقي عن 40 سنة من مرحلة العبودية. هل أصبح الموت أكثر تطورًا فجأة؟ هل بات يفهم بالسينما والفن واللوحات والشعر والآثار والمؤثرات البصرية وتفاصيل النفس البشرية".

مديرة جامعة سيراكيوز الأميركية كتبت على موقع الجامعة: "بكل الأسى والحزن يؤسفني أن أنقل لكم نبأ وفاة الطالب باسل شحادة. إنها مأساة رهيبة لعائلة باسل وأصدقائه في سوريا ولطلابه وكل زملائه في الجامعة ولأعضاء الهيئة التدريسية وأصدقائه الذين عرفوه هنا في سيراكيوز، وفاته هي مأساة للشعب السوري الذي يعاني منذ أشهر من العنف بسبب سعيه إلى حرية وطنهم. ستكون هناك خططٌ لإحياء مراسم وداع باسل في الأسابيع المقبلة كما سيكون هناك وقت لذكرى رحيله في بداية العام الدراسي. قلوبنا مع باسل وجميع أصدقائه ومحبيه في هذا الوقت العصيب جدًا".

أما الحبيبة فكتبت: "على طريق الجلجلة كانت تلك المجدلية تبكي. لم يرها أحد كان مصلوبًا من أجل البشرية فصرخت البشرية بأسرها ناكرةً حبه وقالت أصلبوه دمه علينا وعلى أعدائنا فصاح يا أبتي اغفر لهم لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون قالت أحبك أنا فنكروها".

لا طريقة لختام هذه الحكاية، ففي حرقة غيابِ وجه الصبي السعيد من كادرِ الصورة، وعن اللحظة التي ينتظرها دونَ أن يرسمَ مشهدَ ختامها كما خيِّل للجميع بأن باسل يكتب في آخره "إخراج باسل شحادة"، كانت النهاية.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود