الرِّسَالةُ الأولى
إلى أمير
غياث المرزوق
لماذا شَدَدْتَ الجَناحَ وقَوَّضْتَ عُشَّكَ
في غفلةٍ من دُنايَ؟
إذا كنتَ تعلمُ أني بطيفِكَ
أحملُ نصفَ أنايَ
***
تماهَيْتُ في نصفِكَ البابليِّ
بعيدًا عَنِ الحافلات وحَوْبِ الزَّمانِ
لأرفو جُروحي
وها أنتَ تسمو على صَخَبِ المَوْجِ
كيما تلوذَ بصَمْتِ المَكانِ
وكيما أراكَ بمرآةِ روحي
كما النَّسْرُ
ودَّعتَ قمَّتَكَ الآنَ قبلَ الأوانِ
لتبسطَ ظلَّكَ
أوسعَ من أيِّ وقتٍ مضى
في فَيافي نُزوحي
***
تركتَ بلادًا تراودُ قابيلَ عن نفسهِ
مرَّةً
مرَّتينِ
وألفاْ
وهابيلُ يعوي مَدى اللَّيلِ
زُلْفًا وزُلْفاْ
ويطلقُ أشلاءَه كالخَذُوفِ الأثيرةِ
نحوَ رَعيلِ ذِئابٍ مبرقعةٍ من أمامٍ
وسِرْبِ خَنازيرَ بَرِّيَّةٍ من وَراءْ
***
تركتَ بلادًا تقدِّم قُرْبانَها للشُّموسِ الأخيرةِ:
شابًّا يشبُّ بَراكينَ جيلٍ
وشابَّةَ عَصْفٍ جَميلٍ
وزُغْرودتينِ مُدَوْزَنَتَيْنِ
صَباحَ مَساءْ
***
وكنتَ تشمِّرُ عن ساعديكَ
لَجُوجًا
وتركبُ ظلَّكَ رغمَ انشطارِ الخَلايا
وتُبْعِدُ عن ماءِ وجهِكَ أشباهَهُنَّ
خَدُوجًا
لتكسرَ طَوْقَ المَسافةِ بينَ الرَّعايا
وما بينَ قلبينِ صِنْوَيْنِ من حَجَرٍ
أو سُحامٍ يؤرِّخُ مجزرةً
تستطيلُ على بَرْزَخِ الرَّمْلِ والرَّمْلِ
مسفوحةً في العَراءْ
***
تركتَ بلادًا تهيمُ على وجهِها
مثلَ فُلْكٍ عَتيقٍ ينوءُ بمِلْحِ الدِّماءْ
وكنتَ تمزِّقُ فستانَها مستبيحًا
فضاءاتِ عشتارَ أو عاشقيها
وتمشي الهُوَيْنا كما البطلُ الملحميُّ
جَريحًا
وتضحكُ تضحكُ ملءَ السَّماءْ
***
كأنكَ تسخرُ من عَسَسٍ ينقشون شَواهدَ أجداثِهم
بنِصالِ البَنادقِ
أو من عُتاةٍ تقضُّ مَضاجِعَهم رعشةُ الخوفِ
حينَ يطوفُ التَّلاميذُ حولَ صَهيلِ الحَرائقِ
أو من قُضاةٍ يسيرون في النَّومِ
بينَ طَنينِ الذُّبابِ وبينَ أزيزِ الغَرانقِ
حينَ تسنُّ حَناجِرَها القُبَّراتْ
***
كأنَّك تعرفُ قبلَ رَحيلِكَ
أن انتظارَ نَبِيٍّ جَديدٍ بعهدِ المُسوخِ
هَباءٌ
وأن اشتقاقَ الرُّؤى من طُيورٍ أبابيلَ
تبريحةٌ تتلوَّى كما الأُفْعُوانُ
على "فشخةٍ" من وَصيدِ المَماتْ
وأن الحَياةَ إذا لم تُعَشْ بالجُنونِ الجَحيميِّ
أو بانتحالِ النَّقيضِ البَهيميِّ
ليست حَياةْ
***
فكُنْ حيثُ أنتَ مَليكَ الأرائكِ
كُنْ حيثُ أنتَ ربيبَ النَّيازكِ،
صَنَّاجةً للمَلائكِ
من أن تكونَ بغابِ الطُّغاةِ ومبغى الطَّواغيتِ
صوتًا قَتيلاً
ومعنىً شَريداْ
***
وها أنتَ تكنزُ حُبًّا لوجهِ البلادِ
مَديداْ
تمدُّ جِذاءَ المُروءةِ منكَ إلى مِحْجَرَيْها
بزيتِ الفَوانيسِ حتى
وتصنعُ حُرِّيةً لا تحيدُ فَتيلاً عن الضَّوءِ
أو عن بَصيصِ النُّبوءةِ
جُمَّارَةَ القلبِ
ضَعْ نُصْبَ عينيكَ قلبي
شَهيداْ
***
فبالموتِ تفتحُ بابَ الحَياةِ الحَقيقيَّ
بالموتِ تدخلُ في حَضْرةِ الجَوْهَرِيِّ
وبالموتِ تكتبُ قصَّةَ حُبٍّ فَسيحٍ
وتجتازُ في السَّرْدِ حدَّ الرِّوائيِّ
تجتازُ كلَّ حُدودِ الزَّمانِ-المَكانِ
/... هَوًى
تتبوّأُ فِرْدَوْسَكَ المُخْمَلِيَّ
أميرًا سَعيداْ
***
فَيَمِّمْ جَناحيكَ شَطْرَ احتكامِ العَصافيرِ
واحملْ نَشيدَكَ زادَكَ
سَجِّلْ وَصايا النُّجومِ البَعيدةِ في سُبْأَةِ العُمْرِ
تَلْقَ الإلهيَّ والبَشَرِيَّ غَريمَيْنِ
يبتكرانِ أثيرَ وُجودِكَ في هامةِ الكَوْنِ
بارِقَتَيْنِ:
مُسمّىً يرتِّبُ دربَ الحَليبِ
وإسْمًا سَديداْ
***
فباسْمِكَ أقرأُ نوعَ المَزاميرِ
بيني وبيني
وبعدَ الشَّتاتِ بعشرينَ عامًا
أبعثرُ وردَ الطُّفولةِ
كي أصطفيكَ هُنا الآنَ
أيقونةً للتمنِّي
وكيما أحُثَّ مَطايا القَصيدِ إليكَ
/... مَآلاْ
***
سألنَ، فقلتُ: "مَقْصِدُنا سَعيدٌ"
فكانَ اسْمُ الأميرِ لهنَّ فالاْ[1]
***
بَخٌ يا ابنَ أمِّي
ويا ابنَ شُموخِ الفُراتِ الرَّثيمِ بِيَمِّي
شِراعُ سَفينِكَ
ما زالَ يمخرُ في رِئَتَيَّ الهَواءَ نَكالاْ
ودِفْءُ جَبينِكَ
ما انفكَّ يدرأُ عن راحتيَّ احتمالَ الرُّعاشِ
احتمالاْ
وعن وجنتيَّ قُدومَ الرِّياحِ
على صَهْوةٍ من صَقيعٍ نِبالاْ
وصورةُ وجهِكَ
ما بَرِحَتْ تتنقَّلُ بينَ المَرايا وبينَ السَّتائرِ
بينَ اتِّقادِ الظَّلامِ وبينَ شُحوبِ الضِّياءِ امتثالاْ
تَمُورُ كطيرٍ نَفُورٍ يبادلُ تَمُّوزَ من شَجَرِ الحَوْرِ
بَوْحَ السَّرائرِ
حتى صَدى صَوْتِكَ الحُلْوِ
ما زالَ يرفضُ أن ينزوي في خَبايا الوُجومِ
/... قَصِيّاْ
***
وها أنتَ أنتَ الأميرُ السَّعيدُ "تكشِّشُ" طيرًا
فينحسرُ التِّيهُ عن دمعةٍ تستحيلُ
سَحابًا نَدِيّاْ
لتعلمَ أنكَ حَيٌّ وظلُّكَ حَيٌّ يعرِّشُ في النَّبضِ
ما دمتُ حَيّاْ
لتعلمَ أني أصفُّ حَمامَ الرَّسائلِ
منكَ ومن مُعْجَبيكَ
وأنشرُ صَفْوَ "الهَدائلِ"
في مِسْمَعِ اللَّوزِ والعابرينَ
صَديقًا وَفِيّاْ
لتعلمَ أني وظلِّي
يتيمانِ دونَ هَدِيلِكَ أنتَ
وما بينَ نفسي وعقلي
أحبُّكَ حُبَّ الحَياةِ لوجهِكَ أنتَ
أحبُّكَ مهما بلغتُ من البرِّ والبحرِ
والسَّنَواتِ عُتِيّاْ
***
سَلامٌ عليكَ، سَليلَ الحَمائمِ،
يومَ وُلِدْتَ
سَلامٌ عليكَ، رَسولَ البَراعمِ،
يومَ بُعِثْتَ
ويومَ ستُبْعَثُ في أغْنياتِ البَنينِ
وفي مُفْرَداتِ اليَقينِ
إلاهًا
وَسيمًا
فَطينًا
حَنونًا
خَفيفَ الظِّلالِ
سَجيحَ المَقالِ
عَظيمَ الرَّمادِ
وَقِيدَ الفؤادِ
سَخِيًّا
فَتِيّاْ
*** *** ***
دبلن، مايو (أيار) 2012