|
على هامش محاضرة الياس خوري في جامعة بروفانس
ها هو الياس خوري[1] يَـدْخُـلُ إلى قاعةِ الأساتذةِ في جامعةِ بروفانسَ [ﭙروڤانس] (الساعة 16.00 من يوم الخميس 10/11/2011) في مدينةِ آكس أُنْ ﭙروڤانس (جنوب فرنسا)، يَدْخُلُ وطنًا يمشي على الأرض، وطنًا بآمالِه وآلامِه وثوراتِه وطموحاتِه وإخفاقاتِه، وطنًا يبحثُ عن وطنٍ بيْـنَ رُكامِ الأنظمةِ الشُّموليةِ والدماءِ. دخلَ علينا وطنًا مشرقًا بربيعٍ عربيٍّ تشقُّ أزهارُه صخورَ الدِّكتاتوريَّات ليرويَ لنا حكايةً من الشرق عن الشرق فيرويَ بها ظمَأَنا إلى وطنٍ جريحٍ فيه ألفُ حكايةٍ وحكاية. يحكي لنا حكايةً عن "الرواية وتغيير المجتمعات العربية بين الحُلم والتاريخ". كان يرافقُه أستاذُ الأدب العربي المترجمُ والمستعربُ الشهيرُ ريشار جاكمون ومدرِّسُ الأدب الفرنسي ستيفان باكاي. وعندما قدَّمَه السيِّدُ ستيفان باكاي على أنَّه روائيٌّ لبنانيٌّ ناطقٌ بالفِرِنسيةِ مُدافِعٌ عنِ القضيةِ الفلسطينيةِ ومُنظَّـرٌ للأدب، ردَّ الياس خوري قائلاً: أولاً، لستُ ناطقًا بالفرنسية. وفكرةُ أنَّ اللبنانيين ناطقون بالفرنسية أسطورةٌ، مثلما أنَّ الفكرةَ التي تقولُ بأنَّ لبنانَ سويسرا الشرقِ أسطورةٌ، بل كِذْبة. اللبنانيون ناطقون بالعربية. وبالمناسَبةِ، اللغةُ العربيةُ ليست مقدَّسةً. ثانيًا، أنا لستُ مع القضية الفلسطينية على غِرار الحُكَّامِ العرب الذين استخدموا القضيةَ الفلسطينيةَ لاضطهاد الشعبِ الفلسطيني وشعوبِهم. إنني مع الشعب الفلسطيني. ثالثًا، أنا لستُ مُنَـظِّــرًا للأدب، بل إنني روائيٌّ أُحِبُّ روايةَ القصص وسماعِها. يمكنني أنْ أرويَ لكم حكاياتٍ حتى الصباح. لقد أحببْتُ القصةَ لأنَّ جدَّتي كانت تحكي ليَ القصصَ. وأنا بدَوري أحكي لأولادي. ثمَّ اكتشفْتُ فيما بعدُ ألفَ ليلةٍ وليلة من خلال التراث المنقول. يرى الياس خوري أنَّ ما يميِّزُ القصةَ العربيةَ أنْ لا شيءَ مؤكَّد فيها. ما هو مؤكَّدٌ فقط هو أنَّ لدينا شيئًا نحكيه. لكنَّ المَصْدَرَ غيرُ معروف. وليس بالضرورة أنْ يكونَ الحدثُ الذي ترويه الحكايةُ قد حصلَ بالفعل. إذْ تبدأُ القصةُ العربيةُ بعباراتٍ مثل: "زعموا أنَّ" (ابن المقفَّع)، "بلغَني أنَّ" (ألف ليلة وليلة)، "كانْ يا مَاْ كانْ". ومعنى العبارةُ "كانْ يا مَاْ كانْ" هو: "كانَ الحدثُ أو ما كانَ"، أيْ: "لا يهمُّ إنْ كانَ حَصَلَ الحدثُ أمْ لمْ يكنْ حصَلَ، بل ما يهمُّ هو أنَّ لدينا خبرًا نرويه". وتذكَّرْتُ ما يقوله الأَخَوانِ رحباني في مطْلَع مسرحية بيَّاع الخواتم: "رَحْ نَحْكيْ قِصِّةْ ضَيْعَة. لا الْقِصَّة صَحِيْحَة، وْلا الضَّيْعَة مَوْجُوْدِة". وتذكَّرْتُ كيفَ تُنسَبُ أخبارُ ما يجريْ في سوريَّةَ، على سبيل المثال، إلى مَصْدَرٍ غيرِ معروف (شاهد عيان). لكنَّ المأساةَ هي أنَّ القصةَ صحيحةٌ والضَّيْعةَ، بلِ الضِّياعُ، موجودةٌ. وهذا ما يقودُ البلادَ إلى الضَّياعِ. والأكثرُ مأساةً في الأمر هو أنَّ الراويَ لا يجرؤُ غالبًا على ذِكْرِ اسمِه الصريح خوفًا من أنْ يقتلَه عناصرُ الأمنِ. الكارثةُ في سوريةَ هي أنَّ الأمنَ يسبِّبُ الخوفَ والرعبَ والقتلَ. يرى الياس خوري أنَّ الروايةَ شكْلٌ أدبيٌّ أوروبيّ. إذْ لم يكنْ هناك فضاءٌ روائيٌّ عربيٌّ، حتى وإنْ كانت هناك رواياتٌ، لأنَّ الفضاءَ الروائيَّ ينشأُ مع وجودِ بُنْيةِ دولةٍ. وإذا كانَ الفيلسوفُ والناقدُ الأدبيُّ المَجَريُّ الماركسي جورج لوكاش [لوكاتش] (1885-1971) في دراسته نظرية الرواية يرى بأنَّ الروايةَ ملحمةٌ بورجوازيةٌ وجنسٌ أدبيٌّ غيرُ أصيل وأنها ظهرَتْ مع صعودِ الطبقةِ المتوسطةِ، فإنَّ الياس خوري يرى بأنَّ الروايةَ العربية وُلِدَت مع تدمير الدولة في لبنانَ وفلسطينَ ومع اضمحلالِ الطبقةِ المتوسطة. ويرى أنَّ الروايةَ العربيةَ بعد نجيب محفوظ وُلِدَتْ في ظروف مأساوية؛ فالروايةُ اللبنانيةُ وُلِدَتْ خلال الحرب الأهلية، بينما وُلِدَت الروايةُ الفلسطينيةُ في ظلِّ مأساةِ عدمِ وجود بلدٍ فكانت مجبَرةً على اختراعِ بلدٍ لم يعدْ موجودًا. الأديبُ الفلسطيني أراد أنْ يخلقَ بلدًا بالكلمات. أمَّا الروايةُ الأردنية فغيرُ معروفةٍ عالميًا نظرًا لنقص الترجمة. وأمَّا الروايةُ في باقي الدول العربية فلمْ يأْتِ على ذِكْرِها الروائيُّ اللبنانيُّ الشهيرُ في محاضرته. ويعتقد خوري أنَّ الحربَ الأهليةَ اللبنانيةَ قد دمَّرَت التراثَ الأدبي الخيالي اللبناني ("لبنان الشاعر" لصلاح لبكي وأشعار سعيد عقل والرحابنة)، دَمَّرَتْ الذاكرةَ الجمعيةَ للبنان، فأصبحَ هناك عِدَّةُ ذاكراتٍ جمعية في لبنانَ الذي وُلِدَ أصلاً بعد حرب داميةٍ (1860) لم يعدْ هو يَذْكُرُها. وإذا دُمِّرَت الذاكرةُ دُمِّرَ الحاضرُ، لأنه لا حاضرَ بلا ذاكرة. وقد ساهمَتِ الرَّأسماليةُ في تدمير ما تبقَّى من ذاكرة بيروت العثمانية، حيث محا مشروع السوليدير الذي قام به الحريري ما بقي من تاريخ المدينة. وعندما جاء عامُ 2005، أي عندما "أُجبِرَ" "إِخْوانُنا" السوريون على مغادرة لبنانَ بعد ثلاثين سَنةً من السيطرة "الديمقراطية" أو لا أدري ماذا نسمِّيها، على حد تعبير خوري ساخرًا، كان اللبنانيون قد وصلوا إلى حالةٍ من فقدان الذاكرة. لقد ساهمَ الإخْوةُ السوريون (بتعبير أدق: النظام السوري)، كما الحربُ الأهلية وكما السوليديرُ، في تدمير ذاكرة لبنانَ، وبالتالي في تدمير حاضرِه. إنَّ ما يفعله الياس خوري في رواياته هو إعادة كتابة تاريخ لبنان وفلسطين. الشيءُ الثاني الذي دَمَّرَتْه الحربُ الأهليةُ اللبنانيةُ هو فكرةُ أنَّ الكاتبَ والشاعرَ نبي. الإسلامُ في الأساس ضدَّ الشاعر. لا يمكنُ للمرء أنْ يكونَ شاعرًا ونبيًا معًا. فهناك صراع بين النبي والشاعر، بين النص المقدَّس والنص الشعري. لقد كانَ آدمُ أولَ شاعر في الميثولوجيا تكلَّمَ العربيةَ في الجنة فلما خرجَ نسيَها وتكلَّمَ السريانيةَ. للتوسُّعِ يُحيلُنا الياس خوري إلى كتاب عبد الفتاح كيليطو: لسان آدم. كان الشاعرُ مَلِكًا مع امرئ القيس، فأصبحَ نبيًا مع المتنبي، ثم صارَ إلهًا مع أدونيس الشاعر. وقبلَ أنْ يغادرَ الياسُ مدينتَنا، غرسَ في قلوب البعض مِنَّا كأي نبيٍّ كلمةَ (لا) للدكتاتوريات. *** *** *** آكس-أُن-ﭙروڤانس، الخميس، 10/11/2011 [1] إلياس خوري: قاص وروائي وناقد وكاتب مسرحي لبناني يُعَـدُّ من أشهر الروائيين العرب. ولد في بيروت عام 1948. تُرجِمَت أعمالُه إلى العديد من اللغات. يشغل حاليًا منصب محرر في ملحق الحقيقة وهو الملحق الثقافي الأسبوعي لجريدة النهار. من أشهر أعماله: أبواب المدينة (رواية، 1981)، الذاكرة المفقودة (كتاب نقد، 1982)، المبتدأ والخبر (مجموعة قصصية، 1984)، رحلة غاندي الصغير (رواية، 1989)، مملكة الغرباء (رواية، 1993)، باب الشمس (رواية، 1998، وقد تم إنتاجها فيلمًا سينمائيًا من إخراج يسري نصرالله)، كأنها نائمة (رواية، 2007). |
|
|