أسرة كبؤرة من الفساد النتن

رلى راشد

 

ليس هناك حاجة إلى ما يزيد على يوم ليكتمل عقد رواية بعنوان أخيرًا المستعجل. خلال أربع وعشرين ساعة تجري مراسم نثر رماد والدة الشخصية الرئيسية المتوفاة، ليليها لقاء حول أطياف الماضي. إنه الوقت الكافي لفكِّ أول عقدة في حبل الذكريات، والحفر مجددًا في ندب الاستغلال الجنسي الذي جعل طفولة وردية تتشح بالسواد.

لا وجود لاقتراف قاصر وآخر ثانوي. الذنوب على أشكالها، سواسية. تجاهر أخيرًا بهذا وأكثر. يستوي النص الصادر أخيرًا بالانكليزية لدى دار "بيكادور" في مكان وثير في قائمة أعمال الكاتب البريطاني إدوارد سانت أوبين المتكورة على بطل مضاد تعيس ومزهو بنفسه، يدعى باتريك ميلروز. على نسق عناوين أربعة سابقة، يحكي الروائي بيئة متخمة ماديًا ومقززة أخلاقيًا حيث يتحرك. ففي حين كان في وسع أخيرًا بيسر أن تكتفي بذاتها، تأخذ القراءة الفردية أبعادًا أشد عمقًا في جوار سابقاتها، من بينها رواية حليب الأم التي حيدت في السباق إلى جائزة "مان بوكر" في 2006، ولم يكتب لها ترف نيل الامتياز المرغوب.

آنذاك، ساد إحساس عميق بحصول إجحاف لما أظهره نص ادوارد سانت اوبين من جدارة، قبالة رواية الكاتبة كيران ديساي إرث الفقد المنافسة، التي كان سهلاً، للمفارقة، نسيانها مذَّاك. اقتصَّ أعضاء لجنة التحكيم على ما تردد، من طباع سانت اوبين غير الملسة، ناهيك بانصرافه الوقح في عرفهم إلى الكتابة، بقدر من الأناقة والحميمية، في شأن "مجتمع شبكات المال الواسعة"، على ما يسمِّيها، خصوصًا في لحظة التحام المال الأميركي بالأريستوقراطية البريطانية. مرة أخرى، يبني سانت اوين روايته حول باتريك ميلروز. غير أن الطفل المذعور في باكورته لا تهتم للأمر، صار كهلاً، وهو يهمُّ بالإشراف على طقس وداع والدته ايليونور، الذي يستنفد ثلثي الرواية. إن المأتم عرض يستسلم لنوع من السباب المرمَّز الذي يروق نماذج سانت اوبين التخييلية. الموعد الجنائزي هو اللحظة المؤاتية ليفصح باتريك أمام أحد أصدقائه القدامى عن مشاعره الدفينة: "أظن وفاة والدتي أفضل أمر حصل لي منذ... منذ وفاة والدي". والحال أنه ينبغي لكلامه أن يؤخذ على محمل الجدِّ، بل الجدِّ الخالص. ذلك أن باتريك الكهل ها هنا، شبه مفطوم من عاداته السيئة، يقاوم إدمان المخدرات والكحول والخيانة ويتوق إلى احتمال حياة "بعيدًا من طغيان التبعية والقولبة". ها هنا ركام رجل ألقيت عليه تبعات نفسانية ثقيلة، بنتيجة تعرضه في الطفولة إلى الاستغلال الجنسي.

هذه حكاية أسرة أشبه ببؤرة من الفساد النتن، حيث الأفراد مشلولو الوظائف إلى حد مريع. في وسط ثنائي يتكون من طبيب وزوجته الثرية، طفل عاجز معتقل في الحلقة الأضعف يتعرض للاستغلال في أفظع الأشكال. في منطق باتريك، كان والده مسخًا، فيما والدته شريكة في التضحية، بيد أن ذلك صار راهنًا موضع شك، فبات ينظر إلى نفسه "وفق منظور الحقيقة العميقة، كلعبة في وسط أخرى سادية مازوشية شدَّ والداه طرفاها". في أخيرًا، يبدو باتريك اليتيم المغتبط في أعقاب وفاة والدته "كأنه انتظر طوال حياته أن ينال هذا الحس من الاكتمال". توفر له هذه المأساة العائلية حرية جديدة إذا "تمتع بالجرأة لكي لا يسقط في شرك الذنب المتأتي من قطف هذه الفرصة السانحة".

تتراءى كل تلك التفاصيل على درجة عالية من الازعاج، ويمكن تفهم انجرار القارئ إلى حال من النفور بسبب حكاية موجعة إلى هذا الحد. ليس من البديهي تاليًا اقناع المطَّلع على الرواية بأنها ستقدم مقاربة تفيض على العلاجات الموضعية المكرورة والدبقة والمقرفة على نسق بقايا الطعام. غير أن أخيرًا تفيد من بنية متماسكة مشدودة على يوم واحد. يمكن باتريك من خلالها أن يستعيد شذرات حياته ليسع السرد المتمكن تقنيًا عبرها، أن يسهِّل دخول أذهان الشخصيات الأخرى، المقيتة في معظم الأحيان.

تمسك رواية سانت اوبين بانتباهنا مدفوعةً بوضوح السرد والارتقاء إلى أبعاد غير مألوفة. يقول أسلوب سانت اوبين الخاص، إن الدقة والجمال في اللغة كما في معادلات الرياضيات، لا ينفكَّان يشيران إلى الحقيقة بلا كلل. تحفز الجملة الواحدة وما يليها على القراءة المتأنية. يكتب الروائي:

كان القمع طمرًا على حدة. إن المحافظة على التروما في أروقة اللاوعي كدفن تمثال في رمل الصحراء بغية حماية ملامحه القاسية من طقس التجارب العادية.

نقرأ في جملة أخرى من ذاك الصنف الجمالي عينه الذي يرصد تنقيب باتريك عن حب الأم:

كان يتوق إلى والدته، ليس تلك التي حظي بها فعلاً، وإنما تلك التي لم يقابلها يومًا.

يتأمل باتريك اندفاع والدته الخيري

في حين انبثق السخاء العادي من الرغبة في منح شيء ما لأحدهم، كان حبُّ ايليونور للبشر ينبثق من الرغبة في منح كل شيء إلى أيٍّ كان.

عنى ذلك أن

يتم تركه مع والده فحسب، في حين غادرت ايليونور المنزل لحضور اجتماع لجنة منظمة انقذوا الطفولة.

يعبِّد صفحات الرواية مزيج من الحكمة المرة والشفقة، يعرف سانت اوبين كيف يسخره. إن نبرة الروائي اللاذعة رائعة بلا ريب، غير أنها جزء من إطار عام، ذكي ونفساني إلى أبعد حد. عندما يتم الأخذ في الحسبان خطوط السيرة المتقاطعة بين باتريك وسانت اوبين الذي أقرَّ بإنه يتقاسم وشخصيته الرئيسية تاريخ الاستغلال والإدمان، تتراءى الرواية من صنف البوح الخام والصادق إلى العظم. يواظب باتريك باحثًا عن تبريرات لفشل والدته في حمايته، وعندما يجرؤ على مواجهتها بتعرضه للاغتصاب، تلوذ بمحاولة إقناعه بأنها مغلوبة على أمرها. بيد أن ثمة إشارات إلى تحسن حال باتريك في هذه الرواية، ذلك أن الحنق الذي خيَّم على حليب الأم، يغدو هنا ادراكًا للحاجة الملحة إلى نفض الماضي عن بدنه. على الرغم من أن جميع قاطني روايات سانت اوبين من المنظِّرين، فإنه يظلُّ ملكهم من دون شك، لتتبدى هذه السمة آلية دفاع باتريك فحسب. وفي حين تتصلب مواقفه، تضج أفكاره بأقوال مأثورة لم تعرف بعد. تبدو أفكاره الإلماحية أحيانًا "تطارد نفسها كقطار منمنم يدور في مساحة حلبة ضيقة".

يريحنا في خماسية باتريك ميلروز أن ينأى سانت اوبين بنفسه عن مذكرات البؤس. يتفادى الروائي الشفقة الذاتية، في حين يحاول بعناد شديد أن يقاوم إغواء المقت الذاتي أيضًا. لا تتناول هذه القصص الهجس بالنفس كمنفذ طارئ للفرار من كينونة باتت مصدرًا سامًا، وهذا مقترب مشجع. تهتم إحدى تيمات سانت اوبين المحورية في أخيرًا بالتبعات النفسانية للثروة المتناقلة من جيل إلى آخر. يكتب الروائي عن "الرغبة الطارئة في التخلي عنها والرغبة الحارقة في التمسك بها"، ناهيك بالآثار المثبطة للعزيمة بسبب امتلاك ما يضحِّي كل الناس تقريبا بحيواتهم القيمة للحصول عليه، ويكتب عن تفوق سري ملتبس معطوف على خجل ملتبس، هو الآخر.

في وسط سلسلة رواياته الخمس، يدفن ادوارد سانت اوبين التصرفات الفاجرة والأنانية. يحاول استثمار سخرية مصادفات الإرث، في حين يجهد لكي تخلو حكاياته من السخرية. في دنيا الآداب التي تدَّعي العدالة، تقدم الامتيازات الاجتماعية ومن بينها البحبوحة المادية كمعوقات. هذا في حين يصير ترويع الطفولة على نحو همجي ومنهجي رأسمالاً ضاغطًا، ليس من السهل تبديده.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود