هنا في الحديقة... مسرحية في كتاب
مبالغة في التجريد لاستعادة الشك والسؤال

 

ريم محمود

لواء يازجي: إنها الحياة تدفعنا إلى ما نحن عليه.

بتوقيت الكبار... حدث ذات يوم... هنا في الحديقة.

شخوص مرمزة، كلمات مبطنة، صور أناس نراهم كل يوم دون معرفة خفاياهم. إذًا لا بد من الحوار والكلمات كي نقترب ونتفاهم أكثر، والمسرح كي نجتمع ونتحرر. وفي محاولة للكشف وتمزيق تلك الحواجز والحجب أخرجت "لواء يازجي" بكرها الأول: مسرحية هنا في الحديقة، الصادرة عن دار ممدوح عدوان للنشر 2012.

بزمن 2010 دارت أحداث الكتاب ضمن حديقة دون عنوان، فيها ألتقا رجلان هما أنت والآخر. الكل ولا أحد في الوقت ذاته. حوارية مغرقة في رمزيتها، تسقط على كل (زمان ومكان) له ذات الجينات.

فصول ثلاث يحملها الكتاب، ولكل فصل مشهديته التي تتميز بالبساطة والعمق وتجريد للشخوص، قد تكون بقصد من الكاتبة لاسقاط شخوصها من كل الحوامل التي تغرسها الأسماء، لتنطلق القصة بين (أ) و(ب) ويلحقهما (ت) في آخر فصول الكتاب.

ضياع

تبدأ أولى المشاهد بين (أ) و(ب)، بطلا القصة، رجلان في مقتبل خريف العمر تبدو عليهما علامات العامة من الناس. (أ) المفكر الأكثر حكمة ودراية، و(ب) الفاعل المتميز بالعفوية وحب السؤال.

في محاولة للاقتراب يبدأ الحوار ضمن حديقة يعلوها سكون يوحي بالشك أكثر من الطمأنينة. الاختلاف سيد الموقف بين شخصيتين يجمعها المكان. (ب) يبحث عن شيء دفنه في الحديقة وأضاعه، و(أ) في محاولة يائسة يخاطبه: "إن سمعت لن أقول، وإن قلت فإنك لن تفهم، وإن فهمت فهذا يعني أنه قد فات الأوان لتسمعني". لكن لا بأس فلا شر من المحاولة (محاولة توسيع الطريق) وفي النهاية لا بد من الكلام لذلك يتابع قائلاً: "أفضل الدقة في الحوار، وخاصة بعد الأقاويل المنتشرة في الجرائد والكتب هنا وهناك عن سوء الفهم وتعدد القراءات".

(ب) لا يرى سوى أشجارًا وعائلات ومقاعدًا، بينما (أ) يرى الكل وما لا يجوز رؤياه، وهكذا يبدأ البحث عن السر.

في متن الكلام نلحظ علامات استفهام. ومع تتابع الأحداث تنقلب تلك الأمور من كونها مشاعة جدًا إلى شخصية، ما يحددها توقيت حدوثها. وضمن هذه الجدلية يفترض باء "أن ما حدث في الحديقة – إن حدث – يعتبر أمرًا مشاعًا... ملك للجميع"، بينما قناعة ألف تقول إن كل شيء هو مسألة وقت "فلو وصلت أبكر بقليل لكان ما حدث وقتها قد حدث أمام ناظري. كثيرة هي القضايا التي لم يصل أصحابها في الوقت المناسب. ببساطة هكذا كتب التاريخ"، ويحيط الفكرة بمثال: "فكر بالحب مثلاً... إنه ببساطة قصة توقيت مناسب أو غير مناسب".

نعم؛ فلكل صورة أكثر من قراءة بحسب موقعها وناظرها وتوقيت حدوثها، وهكذا رؤيتنا للأشخاص والأحداث. فعندما تولد المؤامرة (لحظة ولادتها) تكون بدايتها في الأفكار. هكذا يراها ألف (إما أن تشعر بالمؤامرة أو تصنعها) فلا يمكن تركيب الأحداث بحسب توقيت الكبار إلا بوجودها. هكذا فهم المعادلة ألف وهو الذي استبدل معاكسة النساء برجال الأمن دون أن يعرف أين هم فهم في كل مكان كرد فعل فطري لا إرادي، أما طريقته في المعاكسة فكانت الأغرب وهي ببساطة تتجلى بمشيته المنتصبة والفخورة في الحديقة العامة. بينما يرى باء أن ما يفعله شيء عادي "أن يمشي الإنسان على قدمه وأن ينظر إلى الأمام وحيث يضع قدمه، وهذا الفعل لا يثير أي قلق...".

معادلة صحيحة

تتجلى المشاهد بشكل أوضح خلال الفصل الثاني، حيث (أ) المسجون بتهمة (شم الوردة) فـ "على المواطن الصالح – كما يقول – ألا تصيبه الحساسية عندما يشمُّ هذه الورود... والقضايا التافهة، برأيه، ليست إلا جرائم خطيرة لم تكتمل". وهكذا تتم محاكمته بـ18 سنة تخفض للنصف لتصبح (ثمانية) بخطأ مطبعي. هذا الحكم يقضيه ألف متجولاً سائحًا بين جنبات الطرق بعد أن اكتظ السجن قرروا تنفيذ محكوميته في السجن الأكبر (المدينة).

يقول ألف:

علينا ألا نقف عند الصور التقليلدية. التجديد سيد الموقف. فالسجن سلوك بادئ ذي بدء ومن ثم مكان.

وها هو قد أصبح سيد نفسه بعد المحاكمة. يقول ألف محادثًا باء:

الآن بسيطة، أمشي مشيتي، أشمُّ الورود أينما كان، أقف في الشارع ساهمًا أو حتى أرفع نظري وأراقبهم، أقول ما أشاء وأمسك أي كتاب علنًا، استمتع بطعامي إن استطعت، وأجلس في الحدائق مطولاً دون أن يقتربوا مني. لا يمكنهم أن يقوموا بأكثر مما يقومون به الآن. هم ليسوا أحرارًا، عليهم مراقبتي!

لتنقلب الموازين في مفارقة جميلة حيث يصبح السجَّان أسيرًا والسجين حرًا. السجن خلاص والمدينة قيد كبير، بمعادلة مقلوبة صحيحة بالنتائج غريبة بالافتراضات.

تبادل أدوار

لدى الدخول في الفصل الأخير ينضم المجهول (ت) إلى المعادلة، وتاء (مخبر) شخص بالعشرينيات من عمره تبدو عليه علامات الإهمال، يحمل كيسًا بيده. وبذلك تصبح المعادلة أكثر تعقيدًا.

فيها يستنتج ألف بعد التفكير ويقول:

فكرت بكل شيء وخلصت إلى النتيجة ذاتها، لايمكن تفكيك العلاقة بين القاتل والمأجور والضحية، ولا بين الرسالة ومن يختار إبلاغها. تركت النظام الذي يولِّدهم جانبًا، وها أنا لا أفكر إلا بهم، لا أصدق كيف صار يمكنهم أن يولدوا. إنني اعاكسهم لأرى إلى أين يمكن أن تصل بهم الـ...

لندخل في مشهدية درامية حيث يحدث نزاع بين (ت) و(ب) بها يهرب الأول تاركًا كيسه وراؤه ولتبدأ حوارية بين (ألف) و(باء) تلخص ما نراه:

يقول (أ): من المضحك فعلاً كيف لم يأت أحد للدفاع عنه، حتى أنهم لا يسمحون له باستعمال السلاح!

(ب): وتجد ذلك مضحكًا!

(أ): لا. أنا معجب بهذه الآلية التي يتم بها التعامل مع عناصرهم الصغيرة، الأطفال غير الشرعيين!... من أين يأتون بهم! نسخ طبق الأصل. فهذا ربما من النوع الذي لم يُدفع قرش واحد على تأهيله ولن يُدفع قرش واحد للمحافظة عليه!

(ب): لكنه أيضًا من النوع الذي لا يعمل مجانًا!

(أ): بعضهم يتطوع.

ولتنقلب معها مرة أخرى الشخوص خلال المسرحية في دوران يحسبه القارئ أشبه بتبادل الأدوار؛ السجين يصبح مخبرًا والمخبر رجل عادي والرجل العادي يخبئ أشياء في دائرة غير مكتملة. وفي إيحاء عما يحمله ذاك الكيس يبدأ حوار مبطن من نوع آخر: يوحي (ب) لـ (أ) أنها شيء سينفجر دون أن يكترث الأخير قائلاً:

كلنا يتعايش مع قنبلة موقوتة بشكل أو بآخر، يبدو وفي حياتك المملة السابقة لم تعرفه بحق وها أنت تواجهه لأول مرة، إنه القلق الكبير الذي يرافق الشك...

ليكتمل المشهد عبر قصة الكنز المخبأ والمكشوف منذ البداية، في تعقيدات لا تنفك تستدعي الشك، فيسقط الكيس في النهاية وفي أحشائه لعب وأشياء لاتستدعي الخوف لكننا في عالم المجهول حيث كل شيء قابل للانحراف والتأويل. يغيب اليقين ليبقى الشك سيدًا للمواقف والمبدأ.

استدعاء للسؤال والخيال، ومحاكاة للواقع عبر هنا في الحديقة، عبر صور مختزلة لا تكاد تظهر حتى تختفي من جديد في محاولة لتأكيد ضرورة الحوار والكشف لإخراج الناس من بقعة الأنا إلى النحن، من الظلمة إلى النور والاجتماع و(الناس). وكما يقال "اعطني مسرحًا اعطك شعبًا عظيمًا".

استحضار

قبل أن نغلق صفحتي الكتاب توجهنا بسؤال خلال حفل توقيع الكتاب لصاحبة الحديقة لواء يازجي، الكاتبة، حول رؤيتها وسبب ظهور الشخصيات والأحداث بهذا الاختزال فأجابت:

صحيح، الشخصيات والأفعل مختزلة جدًا، وذلك انعكاسًا لقلة حيِّز الحركة وقلة الخيارات في الحياة، إضافة إلى الضغط الذي تعانيه الشخصيات، ولتوضيح منطقها الخاص.

لذلك اعتمدت اللغة كحامل أساسي، وكأن كل ما يستطيعان فعله هو الكلام. وساعد النوع المسرحي المُختار، العبث، لتقديم حصته في هذا الاختزال.

للرمزية مساحة خاصة، فعلى الرغم من أن ما كُتب كُتب ليقول الأشياء ببساطة، إلا أنها يمكن أن تحمَّل بكثير من المهام الرمزية التي تجعل من الحديقة سجنًا!

وتتابع يازجي:

المسرحية أرادت أن تستعرض لقاءً قد يبدو اعتباطيًا لرجلين يرتادا الحدائق العامة، لكل حكايته المعقدة التي ستتكشف مع مرور الوقت. إنها تلك الحياة التي دفعت بهما إلى ما هما عليه. ولنستحضر السؤال؛ ما هو مفهوم الثقة؟ اليقين والشك؟ الفعل والسكون؟ البساطة والتعقيد؟ لتولد الكثير من الأسئلة التي تطرحها الشخصيات في الحوار.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود