«انفصال نادر وسيمين» أو رؤية في سوسيولوجيا المجتمع الشرقي

 

علي طاهر ناصر

 

جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي هذا العام كانت من نصيب "انفصال نادر وسيمين". الجائزة كانت تتويجًا لفيلم تدور أحداثه ضمن قصة تقليدية في مجتمع محافظ لكنه في طور التغيير.

ضمن مشهد بالغ القساوة، يبتدأ فيلم انفصال نادر وسيمين حينما تتحول كاميرا المصور (عينًا للقاضي) الذي يوزع نظراته على أصحاب القضية. القاضي هنا عين الرقيب اللامرئي، عين السلطة التي تحكُم وتحاكِم بمعاييرها الخاصة بين الحق والباطل، معايير ليست سوى الحكم الديني السائد في المجتمعات الشرقية ومنها إيران.

يسعى الفيلم إلى اظهار ضحايا سياقات المجتمع الشرقي المدفوع نحو الحداثة. المرأة المغتربة عن ذاتها التي تعيد إنتاج مفاهيم التخلُّف (كما يظهرها الفيلم في صورة الخادمة)، والبنت "ترمه" التي تمرُّ بمخاض الدخول في كآبة عميقة، والجنين المجهض الميت قبل ولادته؛ كلهم رموز لأجيال هي ضحايا مجتمع لا تنسجم قِيَمُه، التي تعظِّم سلطان الدين والأخلاق، مع قيم الحداثة.

الهجرة والطلاق والأحاسيس والمشاعر هي مواقف إنسانية تظهر في كل زمان ومكان. إنها عابرة للقوميات والأديان والحدود. الهجرة مؤلمة، ولا تحصل إلا من أجل حياة أفضل أو أمن أكثر أو حرية أَرحَب. ليست القضية في هذه الأمور المشتركة إنسانيًا بقدر ما في كيفية نشوء هذه التناقضات في حياة الناس، وطريقة مواجهتها من قبل المجتمع، لا سيما في مجتمع شرقي يخوض تحديات الحداثة في عالم سريع التغير والإيقاع. التعارض والتناقض والصراع هي منبع التغير الاجتماعي في مجتمع شرقي مثل إيران، ففي الوقت الذي تؤكد قيم الحداثة على الإنجازات الفردية القائمة على الحرية والمساواة، نجد المجتمع التقليدي الشرقي يؤكد دومًا على الإنجازات ذات الطابع الجماعي. الحفاظ على قيم المجتمع وتضامنه وبُنيته أهم من الفرد. وهنا تدور قصة الفيلم، قصة الحيرة بين القديم والجديد، التقليدي الصارم، والحداثة الداهمة. حيرةٌ هي بداية التغيير. لكن مَن يقرر نتيجة الحيرة هذه؟ المحكمة؟ الدين؟ هي؟ هو؟ المجتمع؟ وكأن الاخلاق والقيم فشلت في أن تستبطن في لاوعي الأفراد. الكل مسيَّر (بمن فيهم سيمين) وليسوا مخيَّرين. لم تنجح أي تنشئة في أن تجعلهم أصحاب قرار. مسيَّرون رغم إراداتهم الحرة ظاهرًا. إنها جبر الحياة في المجتمع الشرقي الذي تقوده سياقات وبنى اجتماعية شديدة الثبات والمقاومة تجاه الفعل العقلاني الحداثي. الحيرة بين هذا وذاك جعل من القلق، والشعور بعدم الأمان، والعصبية، والإنهيار، والكآبة، والصراخ، ولوم الآخرين، جعله جزءًا طبيعيًا – رغم عدم طبيعيته – من حياة الأسرة الشرقية في طور التغيير.

المجتمع ذاته حائر. ليس قديمًا وتقليديًا، ولكنه لم يدخل الحداثة أيضًا. ليس علمانيًا، وليس متدينًا أيضًا. ليس رأسماليًا، لكنه لم يخرج من إقطاعيته أيضًا. كل شيء معلَّق إلى غدٍ مجهول. حتى القانون فقد معياريته وقابليته على الفصل في القضايا، والفرز بين الحق والباطل. فالقاضي المبتلى بالتناقضات هو الآخر يظهر في أحد المشاهد حائرًا حينما يمسك برأسه بين يديه، طالبًا فتح شبابيك الغرفة. إلقائه قطعة من السكر في شايٍ مرٍّ – على عكس الإيرانيين الذين لا يخلطون السكر بالشاي – يرمز إلى رغبته في نسيان مرارة الحياة، وصعوبتها. والنتيجة الفنتازية هي في استنجاد المجتمع بتنظيمات تعود إلى مرحلة ما قبل الدولة. كبار السن الذين يتدخلون من أجل حل الخلاف بين أسرة سيمين ونادر من جهة، وحجت وراضية من جهة أخرى. لكن هؤلاء أيضًا مسكونون بهواجسهم الذاتية، ومصالحهم وأنانيتهم. فليس هؤلاء سوى الدائنين! الكل في الفيلم والمجتمع يميل إلى ذاته، فرديته، دون النظر للآخرين. إنها من تداعيات العبور إلى ضفة الحداثة!

لا نرى في أي من الشخصيات لقطة فرح، ابتسام، أو سعادة. إنها نتيجة طبيعية لكل التناقضات التي يعيشها أفراد المجتمع. تصدر عن الأفراد استجابات مختلفة تجاه الضغوط. ينكسر نادر باكيًا حينما يغسل والده، ويلوم سيمين زوجته متهمًا إياها بالخوف والهرب من مواجهة ما عليها مواجهته. راضية تختار الكذب، وتختار أيضًا أن تغض الطرف عن التابوهات من خلال العمل في بيت رجل أعزب دون إذن زوجها. والكآبة مصير ترمه. وعدم الاكتراث هو اختيار أم سيمين.

قصة الفيلم تدور حول شخصيتين أساسيتين: نادر وسيمين. الحياة البيروقراطية للطبقة الوسطى التي ينتمي إليها كل من سيمين ونادر لا تتناسب مع توجهاتهم الفكرية. الشكُّ بكل ما كان بديهيًا، نسبية الأحكام والمواقف، الدعاية لحياة مدنية التي هي ميزة هذه الطبقة. لكن حيرة المواقف تدفعهما إلى التعامل بوجهين مع الحياة: مكانة العمل التي يتبؤها نادر هي تبرير لوجهه الملتحي، فيما تظهر سيمين كاملة الحجاب وملتزمة بقيم المؤسسة التي تعمل فيها تماهيًا مع النظام الإسلامي العام في إيران، إذ أن واقع المجتمع يدفع بالأفراد نحو الازدواج في السلوك.

يشترك كل من نادر وسيمين في رفضهم للواقع، عَلمنتهم، وتطلعهم للحرية. لكن أحدهما يختار (الهرب) والآخر يفضل (المقاومة السلبية دون صدام).

نادر رمز للرجل الشرقي الحديث: توجهه إلى الأمام، وليس إلى الماضي، بمعنى أنه واقعي، يستغل كل فرصة من أجل ممارسة حريته دون أن يرغب بالاصطدام مع المجتمع ونظامه. إنه عقلاني في تصرفه، عاطفي في داخله، ذي نزعة أبوية مهذبة دون أن يكون مفرطًا في ذكوريته. إنه الرجل الشرقي الحديث: خليط من الحداثة والتراث. لذلك فهو يحمل اسم نادر، وهو اسم الملك الإيراني نادر شاه الذي حكم البلاد قبل قرونٍ ثلاث، كان مَلِكًا مجدِّدًا، فجَمَع المُلكَ مع نزعة التجديد!

نادر علماني، لا يتفوه بكلمة دينية الجذور خلال أحداث الفيلم، يطرب لصوت المغني الإيراني المعروف "شجريان" الذي يعدُّ رمزًا فنيًا لتيار المعارضة في إيران. هذا يكشف عن صدام الفئة التي ينتمي إليها نادر مع النظام السياسي الحاكم وهو ما لا يظهر أبدًا في مواقفه المباشرة خلال أحداث الفيلم. نادر لا ينتمي إلى فئة المتدينين، إذ ليس له اعتراض على حرية بنته في تعاملها مع العامل في محطة البنزين، وليس له اعتراض أيضًا على عدم التزام زوجته بالحجاب الكامل، وليس في بيته ما يدل على الدين – رمز، صورة أو أي شيء آخر-. في بيته جهاز الستلايت الممنوع استخدامه في ايران، وهو رمز أيضًا لنوع من التمرد ضد النظام العام هناك.

نادر حائر بين التراث والحداثة. يريد أن يكون مستقيمًا ومبدئيًا في سلوكه وأدواره الاجتماعية (كأب أو كزوج) لكنه يفشل في إدارة حوار هادئ مع زوجته، كما يفشل في صِدقِه مع ابنته. يعيش صراع البقاء في إيران أو الذهاب إلى خارجه. صراع الحقيقة التي روَّج لها أمام ابنته دومًا. والمصلحة التي تدعوه إلى انحراف أخلاقي ظهر على شاكلة الكذب أمام القاضي، وابنته أيضًا. صراع حقه الذاتي وحقوق الآخرين. وأيضًا صراع من أجل ضمان مستقبل ابنته بالصورة التي يرغب فيها، في خضم سطوة القيم الدينية والمحافظة في المجتمع. وفي نهاية المطاف يخسر نادر الرهان، رهانه على صبره، قدره، وحياته التي كانت مجسَّدة في زوجته سيمين.

سيمين الشخصية الأساسية في الفيلم تحمل اسمًا فارسيًا قديمًا يعني (الفضة). قِدَم الاسم وانتمائه إلى الثقافة الفارسية القديمة أيضًا هو رمز لعودة سيمين وجيلها الانتقالي الحائر إلى أصول غير دينية.

لا تسعى سيمين الحالمة إلى الانفصال عن نادر، وإنما عن ثقافة المجتمع، مضحية بذكريات الطفولة والوطن، وحتى بحبها لنادر. تريد أن تترك البلاد، بآماله وأحلامه وآلامه. تكتفي منه بقرص لشجريان (الرمز الفني للمعارضة الإيرانية)، لتؤكد رمزيًا بأن سلوكها احتجاجي اعتراضي دون أن تفقد الأمل بأرضها إذا ما حصل التغيير في البلاد.

ترمه البنت رمز لمستقبل قلق ومغلوب على أمره. ترمه هي اسم لقماش غالي الثمن ومليء بالذكريات، كان الإيرانيون يؤطرونه بدلاً من الصور أو اللوحات، معلِّقين إياها على الجدار. ترمه غالية الثمن، وينبغي الحفاظ عليها بحرص كبير. حرص الأبوين على ترمه هو حرص على مستقبل يعيش اضطرابه الخاص، وقلقه المميز. ترمه البنت تعيش تناقضات المؤسسة التعليمية المؤدلجة مع أبوين يميلان دومًا إلى العلمنة والتحرر.

أما الجدُّ الكبير المصاب بالزهايمر، فهو رمز لماضٍ على وشك الرحيل، لوطنٍ لا يصلح لحاضرٍ مؤلم. وطن لا يعرف أبناءه. لكن نادر يصر على رعايته دون أن يكون ذلك عن قناعة تامة. الذاكرة المفقودة هي ذاكرة لهوية بالية لا تصلح لحياة العصر، إلا من خلال شحنة أوكسيجين، تموت لمجرد تحديها من قبل طفلة بريئة! لا يتحدث الجد إلا عن حاضر لا يفهمه: سيمين، والجريدة التي لا يتقن قراءتها أو التفاعل معها. رغبته المتكررة في اقتناء الجريدة هي كوميديا سوداء لأناس لا ينتمون إلى العصر، لكنهم يدعون مواكبته! الجدُّ أيضًا يظهر في إحدى لقطات الفيلم منتشيًا بماضيه الزاهر مرتديًا بذلته الأنيقة مع ربطة عنقٍ هي رمز العلمانية والإنهمام بالغرب. الجد هنا رمز لإيران عجوز، بذاكرتها وماضيها، المحتاجة دومًا وأبدًا إلى مساعدة الآخرين، وليس سحب السجاد المليئة بفضلاته سوى رمز لغرق تدريجي لهذا الماضي في وحل النجاسات!

راضية، الخادمة، تحمل هي الأخرى اسمًا ذي جذور عربية وإسلامية. تراث التاريخ الديني يتجلى في حياتها الرثة والحزينة والمليئة بالكرب والفقر. راضية تعني الرضا. الرضى بالوضع الموجود، بالظروف الحاكمة. هي رمز لفئة فاعلة في المجتمع تتكئ على الدين احتماءً به، تستمد قوتها منه، لتُحيي به وجودها المهمَّش. زوجها حجت – حجة – يحمل أيضًا اسمًا ذا جذور عربية وإسلامية، يشعر بفداحة ظلم النظام الاجتماعي الموجَّه ضده، يصطدم به تكرارًا ومرارًا، لكنه وحيد، يؤلمه أن يكون ضمن صورة نمطية تكوِّنها عنه الطبقات المرفهة. إنه رمز لبروليتاريا المجتمع المهيأة دومًا للإنفجار. حجت وتحت الضغط النفسي الممارس ضده من قبل النظام الاجتماعي يقوم بإيذاء الذات، وهو نمط من أنماط الاستجابة النفسية في ظل قساوة الحياة.

رفض الآخر والذاتية المفرطة هي محور أحداث الفيلم، والمجتمع، وسلوك أفراده. نادر وسيمين أحدهما يترك الآخر. سيمين ترفض المجتمع والوطن. الجد يرفض رمزيًا تأريخه أي من خلال نسيان ما هو موجود. حتى ترمة التي تفضل أحد الأبوين للحياة، هي ترفض أحدهما أيضًا. لكن هذه الذاتية والرفض لم تأت بقرارات سهلة، وإنما بمخاضات عسيرة تكشفها الممرات والبنايات والشقق الضيقة التي تدل على ضيق الحركة ورمزيًا صعوبة اتخاذ القرارات ومحدوديتها.

رفض الآخر هو قتل – ولو رمزيًا. إنه إبادة أحيانًا أخرى. ولم يخل تأريخ ايران أو المجتمعات الشرقية من هذه النظرة للآخر، وتخوينه، وقتله. إنها مجتمعات في طور الانقراض.

نهاية الفيلم يسجل أيضًا مشهدًا خالدًا لهذا المجتمع. صورة نادر الجالس أمام ردهةٍ الناس فيها ذاهبين وقادمين. إنها صورة الرجل الشرقي المفتوحة الآفاق أمامه، وفي الوقت ذاته لا تظهر سيمين إلا من خلال "إطار الشباك" وهو رمز للمرأة المؤطَّرة آفاق حياتها في ذات المجتمع.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود