|
جهنم على الأرض
حين يصل الموضوع إلى الثقافة، فهذه كلمة واحدة لا تستخدم كثيرًا في هذا الجزء من العالم، ولا في أي جزء من أي عالم تركبه السياسة أو المصالح الاقتصادية، وغالبًا كلاهما معًا. حتى في الدول الأوروبية، هناك تقليص في الصرف على الشؤون الثقافية منذ سنوات. ففي 2004 تم تقليص موازنة صندوق الدعم السينمائي الأوروبي إلى النصف، وفي مهرجان روتردام السينمائي الدولي قبل خمس سنوات، دافعت إدارة المهرجان عن حصَّتها من دعم الدولة لها بشراسة، كذلك فعل مهرجان لوكارنو السويسري الذي يتقاضى معونات من الحكومات المحلية. حاليًا، فإن العديد من المشاريع الأوروبية الصغيرة والكبيرة، وما بين، تمر في ظروف اقتصادية صعبة، تفرض أوضاعًا من البطالة التامة على عدد كبير من المخرجين الموهوبين. هذا الوضع يؤثر، منذ فترة، على المخرجين العرب المتعاملين مع الإنتاجات الأوروبية، إذ حين تتقلَّص المساعدات الأوروبية للمخرجين في أوروبا فإن المساعدات الأوروبية للمخرجين تتأثر في تونس ولبنان ومصر والمغرب وسواها من الدول العربية التي مدت جسورًا صوب الغرب. هذا جزء من صورة تعكس ما تشهده الحياة الثقافية في ظل النظام العالمي الجديد، في ظل سيادة الشركات الضخمة على المقدرات الفردية والإبداعية المختلفة، وفي عالم يبتعد عن الهوية الوطنية والثقافية لكل بلد في محاولته تحويل الناس كلهم، بصرف النظر عن حدودهم واختلافاتهم، مستهلكين عاديين يقبلون على الشيء الواحد، الشيء الذي تنعدم فائدته الإنسانية والثقافية لكنه يدر الكثير من الثراء والتأثير الاقتصادي على المقدَّرات الأخرى. الباقون، مثل تلك المرأة التي لا تزال تقف سبع ساعات كل يوم وفي يدها زهور تبيع الواحدة منها بنصف دولار في محطة أستوريا في بودابست، أو مثل نحو عشرة آلاف فتاة دون سن السادسة عشرة اللواتي يتم اختطافهن من بلدانهن الأوروبية الشرقية إلى المكسيك وإجبارهن على العمل فتيات متعة لدى مشترين أميركيين وكنديين (هذا ليس اختلاقًا، وكلمة "بيع" ليست وهمًا)، أو مثل تلك المرأة الفلسطينية التي ترفع راية بيضاء أمام الجرَّافة الاسرائيلية التي تريد هدم منزلها والسقف الذي تأوي إليه، أمَّا الرجل الأسود الذي أراه كل يوم حافي القدمين، بالي الثياب، يفتح صناديق القمامة ويبحث فيها بصبر وتؤدة في حي وستوود الراقي في لوس أنجليس، أمَّا اغتصاب النساء والأطفال في كل مرَّة هناك حركة تمرُّد في هذا البلد الأفريقي أو ذاك، أمَّا كل الصور الإنسانية التي تعبِّر عن شقاء الإنسان اليوم...، فهي لا تدخل في نطاق اهتمامات أحد من الفاعلين المؤثرين، لأن هؤلاء ضحايا لا يدفعون فواتير الهواتف والكابلات والبطاقات المصرفية. هؤلاء ليست لهم أثقال مادية. هم أرواح وملائكة. الذين يدفعون كل ذلك وأكثر، هم تجار الرقيق وتجار المجوهرات وتجار المخدرات ومصاصي الدماء من أصحاب الشركات الاقتصادية. لا عجب والحال هذه، أن يكون سقوط السينما التي تبحث في دلالات المجتمع وتحلل صوره، هو بنتيجة غير مباشرة، مراد النظام الدولي الذي نعيش فيه. العجيب أن هذه السينما ترفض أن تموت. وعلى الرغم من كل حالة حصار اقتصادي تعيشها، إلا أنها لا تزال موجودة. إنها هناك لتفتح أعيننا ولتنتقد ولترفض. هي موجودة في كل مرَّة هناك مخرج يريد أن يعبِّر عن عالمه والعالم الآخر الأصغر الذي يعيش فيه. كلاهما مختلف. عالمه هو البصر والبصيرة والموقف والعين اللاقطة والفاحصة والكيان الإنساني الذي يعيش في داخله ومجموع السعادات والأحزان والمواقف المضحكة والمبكية وآهات الحب والألم. إنه الصور والذكريات والأحلام وقد التقت وتخمَّرت وشكَّلت شيئًا اسمه: هو. العالم الخارجي هو الوحش الذي يبلعه، يلوكه طويلاً، ثم يلفظه. الغيبوبة التي يجسِّدها الضمير المنزوي إلى أكثر الأركان ظلامًا. اللامبالاة التي يعيشها كل فرد والتي تتكوَّم لتصبح جبلاً معدنيًا باردًا. كتلة من اللحم الميت لا يتأثر بشيء. أسأل نفسي وأنا أكتب هذا الكلام، ما إذا كان يترك تأثيرًا في أحد، وما إذا كان يفعل وإلى أي مدى. دفاعًا عن الخلاَّقين والمثقَّفين الذين لهم الحق المسلوب في الحياة الممنوعة أصرخ قائلاً: كفى سياسة وكفى تديين (ولا أقول تديُّنًا). الأولى مثل مطحنة تسحق أعين القادرين عن صور المسحوقين من الناس، والثاني بعد عن الدين وغرق في استخدامه مطية للوصول إلى السلطة وتدمير الحياة والفرقة بين الناس وإحلال جهنم على الأرض. كلاهما، متعاون حتى حينما يتقاتلان. كلٌّ يريد عدوه حتى يعيش. المأساة أننا نحن في الوسط وأكثرنا عرضة للدمار هو المفكِّر. حين كان هناك احتلال عثماني، هاجر جبران خليل جبران الى أميركا (وهو لا يعرف الإنكليزية) وأبدع. الآن ثمة موهوبون كثيرون يهاجرون ولا يبدعون لأن العالم صار – يقولون لك بفرح – قرية واحدة. نعم القُرى! النهار |
|
|