عشر أطروحاتٍ حول التمرُّدات العربية الراهنة

 

أدونيس

 

1.    الأطروحة الأولى

ماذا يخسر العرب، اليوم، لو فقدوا أنظمتهم كلَّها؟

في الجواب عن هذا السؤال ما يُحدِّد قيمة هذه الأنظمة ومستواها. وأغلب الظنِّ أن جواب الأكثرية الساحقة من العرب: لن نخسر شيئًا.

لكن هذا الجواب هو نفسه ما يجعل من العمل على تغيير هذه الأنظمة مسؤوليةً تاريخيةً كبرى، ثقافيًا وإنسانيًا. لا يجوز، خصوصًا، أن يكون هذا التغيير مقتصرًا على الجانب السياسي–السلطوي، وحده. يجب أن يكون شاملاً وجذريًا بحيث تتغير البنية الثقافية-الاجتماعية التي نهضت عليها هذه الأنظمة. النظام السياسي جزءٌ من كل، ومجرد تغييره، وحده، بصفته سلطةً، سيكون عملاً سطحيًا. وسيردنا، عاجلاً أو آجلاً، إلى المشكلات ذاتها.

والحق أن مسألة السلطة عند العرب كانت، على امتداد تاريخهم، مُشكلتهم الأولى. وكان الصراعُ من أجلها في أساس الفتن والحروب الداخلية. بل كان في أساس الانقسامات والمذاهب المتنوعة. ولم تكن السلطة تنبثق من الناس بحيث تكون تعبيرًا عن إرادة شعبية، وإنما كانت تجيء من فوق، وهذا مما جعل العُنفَ والإكراه والقسر عناصر مصاحبةً لها، على نحوٍ شبه عضوي.

هذا لا ينفي أن العرب عرفوا خلفاء-حُكَّامًا قاموا بإنجازاتٍ ثقافية وحضارية مهمة. وهذا بدوره، لا ينفي أساسية الصراع على السلطة في تاريخ العرب، وأوليته.

الأمثلة كثيرة. منذ حروب الإسلام الداخلية. بدءًا من العهد التأسيسي، عهد الخلفاء الراشدين، مرورًا بالعصرين الأموي والعباسي. من دون أن نهمل الإشارة إلى المثال الصارخ الذي تقدِّمه الأندلس.

وبدءًا من سقوط الخلافة العثمانية، قام الحكم العربي، مستعيدًا نموذج الخلافة – بأسماء وأشكال متنوعة: «ملكية»، «ديموقراطية»، «جمهورية»، «ليبرالية». وأمثلة التحالفات في الإسلام، حفاظًا على السلطة، حتى مع أعداء الإسلام، وافرةٌ يعرفها جميعُ المعنيين.

وفي هذا المسار من الهوس بالسلطة، رأينا ونرى، قوًى أجنبية، «عُظمى»، خصوصًا، تدعم سُلطة هذا الحاكم العربي أو ذاك، توكيدًا لمصالحها، على رغم قناعتها بفساد حكمه. وإذا رأت أن عرش سلطته بدأ يهتزُّ، تُسارِعُ إلى التخلي عنه. بل ربما تدخَّلت عسكريًا للإطاحة به. المهم، بالنسبة إليها، هو المشاركة في لعبة السلطة العربية لغاية واحدة: أن تضمن الهيمنة عليها.

وتقدِّم فلسطين مثلاً فاجعًا على الهوس بالسلطة عند العرب. فالأحزاب الفلسطينية، «الثورية» المنشأ، والتي تتلاقى في الهدف الأول لوجودها، وفي مواجهة الخطر المصيري الواحد، يوجهها في المقام الأول هاجسُ السلطة، والصراع عليها. نضيف أن مشكلات الصراع على السلطة، على نحوٍ فتاكٍ، داخل الحزب الواحد، منذ أواسط القرن العشرين المنصرم، كانت بنتائجها ودلالاتها، لا تقلُّ خطرًا عن مشكلات الصراع مع الخارج الاستعماري: (اليمن الديموقراطي، العراق، سورية، تمثيلاً لا حصرًا).

2.    الأطروحة الثانية

النظام القائم في أيَّة دولة عربية هو، من حيث آلية السلطة، تنويعٌ على نظام الخلافة، كما أشرت. وهو، إذًا، ليس مجرد حكم ورجالٍ يحكمون. إنه، قبل كل شيءٍ، ثقافة: ثقافة بالمعنى الواسع الذي يقابل الطبيعة. إنه دينٌ وفكرٌ وأدب وفنٌّ وقيم وأخلاق وأعمالٌ ورؤى. اختزال معارضته في السياسة، في مجرد الإطاحة به، بصفته حكمًا أو سلطةً، حصرًا، إنما هو اختزالٌ لهذه المعارضة نفسها. تصبح مجرَّد عمل سياسي: تغيير حكم طغياني فاسدٍ، بحكمٍ آخر، يؤمل أن يكون أقلَّ طغيانًا وفسادًا. وأقول «يؤمل» لأنه يستحيل أن يكون ديموقراطيًا، إذا لم تتغير البنية الثقافية-الاجتماعية برمتها. هكذا ينبغي على المعارضة أن تكون سياسية-ثقافية، تعمل على تغيير الأسس التي قام عليها النظام الذي تعارضه: الدينية، المذهبية، القبلية، الطائفية. دون ذلك، لن تكون المعارضة أكثر من شكل آخر للسلطة التي تُعارضها.

3.    الأطروحة الثالثة

اليوم، بفعل التمردات العربية التي يحركها الشابات والشبان، يُتاح التأسيسُ لمثل هذا التغيير، أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. وهو تغييرٌ يتيح بدوره العمل على بناء مجتمع عربي جديد، وحياةٍ إنسانية عربية جديدة، في تحرر كاملٍ من ثقافة السلطة في الماضي.

الماضي، بتنويعاته الدينية والسياسية والاجتماعية كلها، ليس مرجعًا. إنه نقطة استضاءة. النظر إلى الماضي بصفته مرجعًا يعني استمرار الارتباط بالمذهبيات والقبليات وبكل ما يردُّنا إلى الوراء.

ماضيًا، كانت السلطة تجيء من فوق كما أشرت: إما وراثةً، خلافةً أو ملكًا، وإما غزوًا تقوم به فئةٌ ضدَّ أخرى. «الانقلاب العسكري» في العصر الحديث يمثل أبشع أشكال هذا الغزو، وأشدها ضراوةً وجهلاً.

اليوم، تذكرنا التمردات العربية بأن السلطة يمكن أن يُؤسس لها من أسفل: من الشارع والناس والحياة. وهذا جديدٌ كليًا في الحياة العربية. لهذا يجب الاحتفاءُ به، والحفاظ عليه، ودعمه، وتعميق أصوله، والانضمام اليه. إنه مجرَّد «زرعٍ»، غير أن «الحصادَ» يحتاج لكي يكون مثمرًا وخلاقًا، إلى نضالٍ مزدوجٍ ومتلازم ضد السياق الذي سارت فيه السلطة العربية، السياق القروسطي-الديني، في مختلف تنويعاته وتشابكاته. وضد الثقافة التي أسست لهذا السياق ورسَّخته.

في هذا الإطار، تحديدًا، قلت وأكرِّر: لا أقبل أن أسير في تظاهرةٍ سياسية تخرج من الجامع بشعاراتٍ سياسية. الجامع رمزٌ ديني. والخروج منه باسم السياسة لأهدافٍ سياسية، يحوِّل هذا الرمز إلى مجرَّد أداةٍ سياسية. وفي هذا ما يفسد جوهريًا الفكر المعارض المدني، والعمل المعارضَ المدني، ويُعطي الواجهة والقيادة للدين وللتدين. لا تعنيني المعارضة، إذا لم تكن مدنيةً، وخارجَ كل أفقٍ ديني.

4.    الأطروحة الرابعة

المسألة في هذا كله ليست دعوةً ضد الدين في ذاته، أو ضد التديُّن. وإنما هي دعوةٌ لرفض استخدام الدين سياسيًا واجتماعيًا.

لا جدال في حقِّ الفرد بالإيمان والتدين. إنه حق أحترمه، وأدافع عنه. لكن المجتمع بصفته كلاًّ، لا يقوم على المواطنة الدينية، وإنما على مواطنةٍ مدنية.

بهذا وحده، تُضمن حقوق الإنسان، في معزل عن المعتقد، والانتماء، وعن الجنس والعرق، والمنشأ الاجتماعي.

كل استخدامٍ سياسي للدين، إنما هو نفسه شكلٌُ من أشكال العنف: لا ضدَّ «الجسد» وحده، وإنما كذلك ضد «الروح». وهو، في هذا، أشدُّ أنواع العنف ازدراءً للإنسان. لأنه يصيبه في كيانه الإنساني العميق: في ضميره، وفي حريته، وفكره، وحتى في مخيِّلته.

5.    الأطروحة الخامسة

لا بُد، استنادًا إلى ما تقدم، أن تمارس المعارضة خطابًا يتخطى مفهومي «الأقليّة» و«الأكثرية»، إلا بالمعنى السياسي-الديموقراطي في انتخابٍ تشريعي حرٍّ. وتأسيسًا على ذلك، يتعذَّر قيام الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان وحرياته إلا في مجتمع مدني. كل مجتمع تختلط فيه السياسة بالدين نقيضٌ كاملٌ للديموقراطية.

الدين من عالم خاصٍ بالفرد وحده، وحقوق المجتمع والإنسان عامة، ومدنية-اجتماعية. فالشرع الديني هو، حصرًا، شأن الفرد المتديِّن، لا شأن المجتمع. والوقوف، إذًا، ضدَّ أيِّ شكلٍ من أشكال التداخل بين الدين، من جهة، والدولة ومؤسسات المجتمع وسياساته وفنونه وثقافته، من جهةٍ ثانية، مسألةٌ بديهيةٌ. ولا معنى لأية معارضةٍ عربية، خصوصًا في البلدان المتعددة الأديان، إذا لم يكن هذا الوقوف قاعدةً أولى لفكرها وعملها.

إن معيار النظر إلى الإنسان، دينيًا معيار الإيمان والكفر، ليس مجرد ظُلمٍ أو طغيان. إنه غيرُ إنساني، وضد إنسانية الإنسان. ذلك أنه معيارٌ إلغائيٌ ينكر حقوق الآخر المختلف وحرياته.

إن مجتمعًا يتألف من أديانٍ كثيرة لا يكون في الواقع المدني مجتمعًا، بالمعنى العميق الإنساني، وإنما يكون كتلاً بشرية متجاورةً، شكلاً، ومتنابذةً، جوهرًا. كل شرعٍ ديني يسنُّ، بطبيعته، التنابُذ.

6.    الأطروحة السادسة

على هذا المستوى، وفي هذا السياق، ما يكون معنى أو قيمة التغيير في المجتمع، إذا لم يقترن جوهريًا بتحرير المرأة من جميع قيودها المفروضة عليها؟ وما يكون معنى المجتمع نفسه، إذا لم تكن المرأة فيه حرَّةً، كمثل الرجل، في جميع الميادين وعلى جميع الأصعدة؟

هكذا لا بُدَّ من أن يكون في أساس فكر المعارضة وعملها، القضاءُ على شللِ المجتمع العربي وعدم التكافؤ فيه، وذلك بتحرير المرأة. ويجب على هذه المعارضة أن تُعلن هذا التحرير في وثيقةٍ أو نصٍ ليكون، تاريخيًا، موازيًا لإعلان حقوق الإنسان.

7.    الأطروحة السابعة

يلزم، في هذا الإطار، أن ننظر بعين النقد البصيرة إلى مصطلحاتٍ إسلامية تُطلق وتُستخدم جُزافًا. مثلاً: ما معنى «إسلام سياسي»، أو «إسلام معتدل»؟

هناك مسلمون سياسيون، ومسلمون معتدلون. لكن الإسلام بصفته دينًا لا يصحُّ أن يوصف بأنه «سياسي» أو «معتدل» - في الكلام على الشؤون السياسية والاجتماعية والثقافية. القبول بمثل هذا الوصف يقود إلى القبول بأوصافٍ أخرى، كمثل «التطرف»، والتشدُّد» و«التزمُّت» وغيرها. هكذا يدخلُ الإلهي في «الجدل» ويتحوَّل إلى أيديولوجية.

مثلاً، ما معنى «الإسلام المعتدل» على مستوى مدنية المجتمع، أو الفن، أو الفكر، أو الموسيقى، أو حياة الجسد والجنس والحب، ومن يقرر درجة هذا «الاعتدال»، وكيف؟

ومن أين تجيء «ماهية» هذا الاعتدال؟ أمن قراءة خاصةٍ، وفهمٍ خاص، وكيف؟ وما يكون مكان الشرع في هذا الاعتدال، خصوصًا في ما يتعلَّق بالمرأة، وبالآخر غير المسلم، وبالآخر الذي ولد مسلمًا ويرغب في الخروج إلى العالم المدني، كليًا؟

المسلم قابلٌ أو عرضةٌ للوصف، سلبًا أو إيجابًا.

الإسلام لا يوصف إلا باسمه وبنفسه.

8.    الأطروحة الثامنة

يتضح أكثر فأكثر، خصوصًا في ضوء التمردات العربية، أن الإسلام، بالنسبة إلى الغرب السياسي، الأميركي-الأوروبي، ليس إلا أداةً. لا يهمه، بصفته دينًا، أو ثقافةً، أو حضارة. ما يهمه هو: كيف يستخدم هذا «الجيش» الضخم الذي يُسمى الإسلام وفقًا لخططه السياسية والاستراتيجية: تلك هي المسألة.

وهناك خطوطٌ وخيوطٌ تُحاك لإسلام الشرق الأوسط، وتشمل الإسلام الآسيوي الذي يرتبط به. ذلك هو «المحيط» الإسلامي: يحمي منابع البترول، وغيرها من المنابع. ويصدُّ المدَّ الصيني. ويقول لروسيا: لا.

ما يدعو إلى السخرية أن هذا الغرب السياسي يزعم أنه بعمله هذا يدافع عن حقوق المسلمين. يدعو إلى السخرية أيضًا أن كثيرين بينهم يصدِّقونه، ويتحالفون معه. والأكثر مدعاةً للسخرية أن هذا الغرب يتابع عمليًا، منذ قيام اسرائيل، ازدراء هذه الحقوق، وتشجيع انتهاكها وسحقها في فلسطين.

هذا النفاق الذي يمارسه الغرب، إزاء العرب والمسلمين، إنما هو شكلٌ آخر من استعماره الثقافي لهم. إنه دمارٌ آخر.

9.    الأطروحة التاسعة

أيًّا كانت الأوضاع، وأيًّا كانت نتائج حركات التمرُّد العربية (وهي، بالنسبة إليَّ إيجابية في جميع الأحوال وعلى أكثر من صعيد)، يتوجب على القوى التقدمية الديموقراطية في كل بلدٍ عربي، خصوصًا في سورية، وعلى منظمات المجتمع المدني، والتجمعات الشبابية الديموقراطية، وبخاصةٍ النسائية، أن تشكل تحالفًا ديموقراطيًا للنضال نظريًا وعمليًا من أجل إقامة الدولة المدنية، والمؤسسات المدنية، والمجتمع المدني. ومن أجل حماية البلدان العربية من الانزلاق نحو حكوماتٍ دينية باسم «الإسلام المعتدل»، أو حكومات طغيانية شمولية.

10.                       الأطروحة العاشرة

يقول ستندال ما معناه: «إذا أراد الإنسان أن يكون عضوًا بارزًا في تجمُّع كبير، فإن عليه أن يكون بارعًا في تقديم تضحياتٍ للإرادة العامة في هذا المجتمع، وإن كانت مخطئة. دون ذلك، لن يكون شيئًا، ولن يحقق شيئًا. ولا يستحق إلا هذا الاسم: «الابن الضال»».

شخصيًا، أفضِّل أن أكون «ابنًا ضالاً»، على أن أساندَ الإرادة العامة المخطئة.

الخميس، 26 مايو 2011

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود