سوء ظن

 

نديم خوشابا كيوركيس

 

أتوقُ دائمًا إلى طريقةٍ أعرفُ من خلالها ما يجولُ في رؤوس الناسِ من أفكارٍ ونوايا. أحاولُ جاهدًا ابتكارَ طريقةٍ تمكنني من التسلل إلى جماجمِ بني البشر، هذا الصندوقُ العظمي الصغير الذي تدورُ فيه معاركَ الفكرِ الطاحنةِ، منه تولدُ الخططُ وفيهِ تدفنُ الأسرار، وتمارسُ الذاكرةُ فيه فنَّ الخيانةِ والتنكيلِ في جسدِ الذكريات. تذهلني هذه القلنسوةُ الصماءُ التي نحملها بين أكتافنا والتي تخفي وراءَ صمتِ ظاهرها ضجةً في منتهى النظام، بحرٌ من أفكارٍ تطفو فوقهُ مشاعرُ حب، حزن، حقد، حنين، حسد... هو مستنقعُ الخبثِ ونهرُ النقاءِ والبراءةِ في آن واحد.

أتعبتني كثيرًا جمجمتي التي أضحتْ أرضًا خصبة للمعاركِ الفكريةِ، وبالتحديد منذ أن احتلَّ ألدُ أعدائي كلَ تفكيري، واستشرى كالمرضِ العضالِ في تلافيفِ دماغي ودهاليزهِ الدقيقة. أعرفُ جيدًا من خلالِ نظراته أنه يخططُ لشيءٍ ما. ألاحظُ في كلماتهِ حقدًا متأصلاً تجاهي. سيسعى بشتى الوسائلِ إلى تدميري، ولو كانَ الأمرُ بيدهِ لما توانى عن حذفي – نهائيًا – من سجلِ الأحياء.

من هنا تولَّدتْ فكرةُ التسلل إلى جمجمته لأعرفَ مدى جاهزيتهِ للمعركة، ولأطَّلع على نوعية تحصيناته الدفاعية، فلربما أقعُ على تفاصيلِ المناوراتِ التكتيكيةِ وأسرارِ الخططِ الهجومية التي سيشنها عليَّ، كما لدي رغبة في معرفة نوعية الحقدِ الذي سيحقن به كلماته الرشاشة، ومدى ارتفاعِ السواترِ والدُشَمِ الواقيةِ في جبهته. من وقتها قررتُ – من مبدأ الدفاعِ عن النفس – تجهيز أرض المعركة وتدعيم التحصينات والتزود بما يلزم من الكلمات الخارقة المحرقة لشن الهجوم، وتجنيد ما يلزم من النوايا السيئة المزودة بالأحزمة الناسفة، بالإضافة إلى استعمال نظام الحقد الموجه عن بعد ... إلخ.

وهكذا مرت سنوات طويلة وأنا على هذه الحالة، أحمل أحقادي الثقيلة وأضمر الشر لعدوي المفضل. إلى أن جاء اليوم المنتظر الذي أصيب فيه عدوي بتصدع في جمجمته إثر حادثٍ عابرٍ، انتهزتُ الفرصة فهرعتُ مسرعًا بالولوجِ داخلاً عبر الصدع.

في الداخلِ بدأتُ بالبحثِ بحذرٍ شديدٍ عن النوايا السيئة الموجهة نحوي، فلم أجد شيئًا من هذا القبيل، هنا خامرني شك مريبٌ بإمكانية وجود كمينٍ ما، فبدأتٌ بالتمشيطِ بهدوءٍ في تلافيفِ دماغه باحثًا عن قائمةِ أحقاده المدفونة، تصفحتها ولم يكن لي فيها نصيب، تأملتُ سطحَ دماغه، لم أجد ما يوحي بحربٍ موشكة، فلا تحصينات، لا سواتر، لا ألغام، لا أحزمة ناسفة... انحدرت نحو "شق سلفيوس" لسبر أغواره على أمل العثور على شيء يخصني، لكن ما من شيء سوى نهر جار من هموم ومشاكل حياتية. اعتراني غضب شديد دفعني إلى تنبيش كل نقطة من دماغه، المخ، المخيخ، البصلة السيسائية، الغدة النخامية... لكن عبثًا.

يا لغبائي الدونكيشوتي الذي جعلني أتخذ من هذا الرجل المسالم عدوًا ومنافسًا لي، وأوهمتُ نفسي بأنني شغله الشاغل، وأنه يتربص بي بين الفينة والأخرى، ينافسني، يراقب خطواتي، أعمالي، كلماتي، ويتمنى فشلي في كل خطوة... أعوام طويلة مرت وأنا أحمله في عقلي – عدوًا – أفكر فيه إلى درجة أهرى التفكير فيها غصون عافيتي.

ولأن الاعتراف بالذنب فضيلة، فأنا أعترف بأني غبي من الدرجة الأولى (غبي مُرَكَّز – بدون إضافة ماء)، ولكن عليَّ أن أعصر هذا الغباء علَّه يتقطر بنقاط ذكاء تساعدني في إيجاد طريقة ذكية للخروج من هنا قبل أن يلتئم الصدع.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود