|
شرق وغرب: الشرخ الأسطوري
لجورج قرم
يرصد جورج قرم في كتابه شرق وغرب: الشرخ الأسطوري، الصادر عن "دار الساقي" في بيروت، الأثر الذي تركته أحداث وتحولات في الغرب والشرق على العلاقة بين هذين العالمين. لا شك أن هجمات أيلول عام 2001 على الولايات المتحدة الأميركية على أيدي عناصر آتية من "الشرق"، شكَّلت مرحلة متقدمة في تبيان حجم التفاوت والصراع بين هذين العالمين، وأفرزت أنماطًا ثقافية لا تزال ترخي بثقلها على هذه العلاقة. من مقولة "نحن والآخرون" المتسائلة، التي ازدهرت في الثقافة السياسية الغربية، تطور السؤال إلى نشر فزاعة في الغرب تشدد على الأخطار التي تواجهها الحضارة الغربية والهيمنة التي ترتبت عليها، وذلك من إمكان سقوط هذه الهيمنة على يد "البرابرة" الآتين من الشرق. لم تخل هذه الهواجس من استحضار الكليشيهات الدينية والترسيمات التوراتية والحروب المقدسة التي خاضها الغرب تحت عنوان "الحروب الصليبية" قبل ألف عام، ذلك كله كترسانات للوقوف في وجه الزحف الآتي على التقدم الذي يمثله الغرب، والتصدي للموجات الإرهابية المرافقة له. يقدم جورج قرم وصفًا لحال الفكر الغربي فيراه رهينة النرجسية، فهذا الخطاب النرجسي للغرب عن نفسه، الذي لا يعرف حدودًا منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء بالإيديولوجيا الماركسية، يهمش أكثر فأكثر الخطاب النقدي الذي صنع ثورة الغرب الحقيقية. أصبح الخطاب النرجسي الذي يجعل من تطور العالم الغربي استثناء فريدًا لا مثيل له في تاريخ البشرية، شموليًا أكثر فأكثر. يظل الخطاب الغربي يدور على نفسه بشكل مطلق من دون أيِّ تناول جدي للصيرورات المعقدة التي يشهدها تطور العالم. لم تكن هذه النرجسية بعيدة عن العوامل التي ساهمت في تعيين جذور الشرخ الوهمي بين الشرق والغرب. فالسائد في الغرب، نوع من الثقافة التي تقدم صورة عن الشرق مفادها غرقه في الروحانيات واللاعقلانية، تاليًا سيطرة العنف على العقلية الشرقية ومعه الإرهاب غير المحدود. فيما يقدم الغرب صورة عن نفسه تتسم بأنه موئل العلمانية والعقلانية والتطور التقني والمادي والديموقراطي، أي في اختصار، الغرب خزَّان الحداثة في أعلى تجلياتها. لا يكتفي الغرب بتقديم هذه الصورة النرجسية عن نفسه، بل يذهب الأدب الغربي إلى تقديم صورة ساخرة عن الشعوب اليابانية والصينية، ونظرة تحقيرية إلى الشعوب العربية، واظهار التفاوت الحضاري بين الغرب وهذه الشعوب في الشرقين الأدنى والأقصى. في المقابل، تحمل شعوب الشرق نظرة لا تقل عدائية عما يحمله الغرب نحوها. فالصينيون واليابانيون مشبعون بنظرة إلى الغرب عمادها وصف العرق الأبيض الغربي بأنه نموذج للبربرية والتعجرف واحتقار الانسان. أما العرب، فتكمن نظرتهم العدائية إلى الغرب انطلاقًا من معطيات دينية وسياسية. في المعطى الديني، يرى العرب أن الغرب يضع في أولوياته الصراع ضد الإسلام، وأن نظرية العلمانية التي يسعى الغرب إلى تسويقها في وصفها حلاً للتطور الديموقراطي في العالم العربي، يراها الأدب السياسي المستند إلى الدين الإسلامي بأنها آلة الحرب التي يستخدمها الغرب لمحاربة الإسلام عبر مقولة الفصل بين الدين والدولة. أما سياسيًا، فالنظرة العربية المعادية للغرب تنطلق من كون هذا الغرب قد خلق دولة اسرئيل في قلب العالم العربي، وأعطاها كل الدعم المادي والعسكري لتتسلط على الشعوب العربية. هكذا صار رفض العالم العربي للغرب يشبه رفضه للثقافة الغربية وللحداثة الغربية أيضًا. ما يزيد في الشرخ بين الغرب والشرق، تلك الهيمنة التي يفرضها الغرب على العالم من خلال التفاوت في التقدم التكنولوجي والتفوق الحضاري في جميع الميادين. فضلاً عن أن الثقافة الأوروبية تنسب الفكر العقلاني إلى الغرب نفسه، وتعيد هذه العقلانية إلى "المعجزة الإغريقية" التي ورثها الغرب وحده وشكلت الأساس في نهضته وتطوره منذ أكثر من خمسة قرون. العجيب هنا أن هذه الثقافة الغربية الأوروبية تتجاهل عمدًا مساهمة الحضارات الأخرى في النهضة الأوروبية، فهي تنسى مساهمة الحضارات المصرية الفرعونية والفارسية في تكوين الثقافة الهللينية نفسها وتطويرها، كما يتجاهل الغرب الدور الأساسي الذي لعبته الحضارة العربية الإسلامية في النهضة الأوروبية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. يشير قرم إلى أثر هذا الصراع المتعدد المشارب بين الشرق والغرب على انبعاث الهويات الدينية والسياسية. في الغرب، ازدهرت نظرية صراع الحضارات التي قال بها برنارد لويس وصموئيل هنتنغتون، حيث سيشهد العالم المقبل صراعًا بين الحضارة الغربية المسيحية والحضارة الإسلامية والكونفوشية، ليذهب أبعد في وصف هذا الصراع على أنه بين الحضارة والتقدم من جهة والبربرية والتخلف من جهة أخرى. في المقابل، في العالم العربي والإسلامي، اعتبر هذا الانبعاث للهويات والخصوصيات ولبوسها لباسًا دينيًا، أحد عناصر التحصن ضد الغزو الثقافي الغربي، وجوابًا عن العولمة الصاعدة التي اخترقت الحدود الجغرافية وألغت مفاهيم الزمان والمكان بعدما حوَّلت العالم كله قرية صغيرة، وبحيث بات من الصعوبة الانعزال عن التأثر بمنتجات هذه العولمة وثقافتها الاستهلاكية، وتقنياتها غير المحدودة في عالم الإعلام والاتصالات. لذا لم يكن غريبًا انبعاث الصحوات الدينية في الشرق والغرب على السواء، وهي صحوات ليس لها طابع الروحانية أو البحث عن جوهر مطلق، أو نظام قيم أو أخلاق أرقى، بل هي في الأساس تعبير عن نزعات عرقية بدائية من خلال الرجوع إلى الطقوس الشعائرية والتفاخرية المظاهرية. تصبح هذه الطقوس استعراضًا انتمائيًا وقبعات "قومية" نلوِّح بها بشكل عصابي لكي نوهم أنفسنا، في هذا الفراغ الكبير الذي نشعر به على الصعيد الأخلاقي والسياسي، بأننا نعيش من أجل قضية حقيقية. يحتاج كل من الغرب والشرق إلى مراجعة فعلية لمقولاتهما الثقافية والسياسية، انطلاقًا من الاعتراف المتبادل بين الاثنين، ورسم علاقة قائمة على التبادل الحضاري والإفادة مما تقدمه كل حضارة لمصالح شعوبها. يحتاج الغرب إلى التخفيف من نرجسيته تجاه الشعوب الأخرى، كما يحتاج العالم العربي إلى الحد من قيود العداء تجاه الحضارة الغربية، والسعي في المقابل إلى الإفادة من منجزاتها لمصلحة هذه الشعوب. إنها قضية تتصل بالاعتراف بالآخر واحترام خصوصيته والتفاعل معه وقبوله كما يقدم نفسه. |
|
|