|
الحياة برمَّتها مجرد ورقة في عالم على شفير الهاوية
تذكِّرنا وثائق التاريخ بحلول أيام عصيبة صوب خواتيم الحرب الكونية الثانية، حيث كوى الطيران الأميركي والبريطاني مدينة دريسدن الألمانية بالنار والموت. كان الكاتب الأميركي كورت فونغات آنذاك في عداد معتقلي الحرب المسجونين في تلك الأنحاء، في إحدى الزنزانات الألمانية. انهمرت القذائف كالمسامير على دريسدن لتتبدى بمثابة نذير شؤم لفَّ تحت عباءته عشرات آلاف الأرواح وربما أكثر. سلب هؤلاء عنوة إلى الموت ليتجاوزوا في الحيثيات الإحصائية، ضعف عدد أولئك الذين كنسهم غبار قنبلة هيروشيما. في وسط الجثث المتكدسة في ذاك المشهد من الرماد الجنائزي، قُدِّر لفونغات أن يظلَّ يتنفس، ليبصق بعد أعوام في "المسلخ الخامس"، ارتعاده من تلك اللحظة الفتَّاكة التي باغتته. جاء مؤلفه إخراجًا لذاك الضرر الجاثم على ضميره، لمجرد النفاذ بترف البقاء حيًا. قبلذاك العنوان المفصلي وفي أعقابه أيضًا، نجح فونغات في نصه في التطهُّر الذاتي والعام في آن واحد. كان له أن امتهن التنسيق بين التعليق الاجتماعي التهكمي والكوميديا السوداء، أضف إليها العناصر السوريالة والخيالية العلمية. والحال أنه يمكن في كتاباته اللحاق بمسار تجريد المرء من إنسانيته بعدما قولبته التكنولوجيا، فضلاً عن التمعُّن في أذى البيروقراطية والتلقين الإعلامي، فيما لم يفته رصد الجنسانية والعنف والأساطير المحيطة بها. منذ وفاة الكاتب في 2007، احتفظ فونغات، ولحسن طالعنا، بحضور أدبي داهم. ذلك أنه تم نشر ثلاثة مجلدات من تمارينه الكتابية الأولى غير المعروفة، زادت مكانته قيمة مضافة. والحال أن مجموعته القصصية غير المنشورة قبل اليوم بعنوان فيما يغفو الفانون، التي صدرت للتو بالإنكليزية، تذكِّرنا بأسلوب فونغات الخام الذي أثَّر في جيل كامل من الأدباء الأميركيين. فطنة ونزوية وهازئة في أحيان كثيرة، هكذا تتبدى نصوص كورت فونغات القصيرة والحديثة-القديمة حيث يضخُّ الكاتب، من طريق تعرُّجات اعتدناها، مشهدية غير مألوفة ترتفع في وسطها المصانع، فيما يتردَّد ضجيج الإعلانات التسويقية وصخب الحانات، وأصداء شخوص يضعون أحلامهم ومصادر خشيتهم في مواجهة العالم المخيف واللامبالي على السواء.
ليست تلك قصص عن فئران ورجال، وإنما عن رجال وآلات وفنٍّ وخديعة كذلك، تحكي كيف يسع المثل العليا المعاصرة، من قبيل الثراء والشهرة والحب اللامحدود، أن تتخذ مسارًا منحرفًا، على نحو مفاجئ، في الحيوات الأكثر عادية. النصوص جميلة وتبين كأنها وصية فونغات الصادقة. على نسق الحاضر الذي يخلِّفه أحباء لنا غادروا إلى غير رجعة، في وسع مجموعة فيما يغفو الفانون (دار "ديلاكورت") أن تستوقفنا بوميض من الدهشة المعطوفة على الشوق. لنتمهَّل عند الجملة الإفتتاحية في القصة التي منحت المجموعة عنوانها. يكتب فونغات مُشخِّصًا عيد الميلاد: في حال استطاع كلٌّ من فريد هاكلمان وعيد الميلاد أن يتفادى أحدهما الآخر، لفعلا من دون تردُّد. كان الرجل عازبًا، وأحد الناشرين في المدينة وعبقري الصحف المكتوبة، وعملت لحسابه مراسلاً خلال ثلاثة أعوام لا تحتمل. كان ثمة قواسم مشتركة قليلة بينه وبين روح عيد الميلاد، تمامًا على نسق استحالة الجمع بين قطِّ المزارع وجمعية "ناشونال اودوبون سوسايتي" الأميركية التي تعنى بالحيوانات. من دون الحاجة إلى استجداء الضوضاء أو اللجوء إلى عرض للألعاب اللغوية النارية من أي طراز كانت، تلقينا الجمل الافتتاحية الثلاث مباشرة في خضم قصة ميلادية غير مكرورة، على خلفية إحدى قاعات التحرير في صحيفة تصدر في المدينة، قبل خمسة عقود. في حين يحنو مستهل الحكاية على تأمُّل عاطفي في معنى العيد العميق وليس الشكلي، يأخذنا ما يليه إلى استلهام بعض عناصر أدب التشويق، إبان متابعة المراسل الصحافي المتيقِّظ لحكاية شخوص تم اجتثاثهم من لحظة تأمل روحانية. والحال أن ذاك المناخ السهل المنال في الظاهر، يدفع بالمجموعة صوب مكان ذي إلهام خاص. إن كل وقفة في فيما يغفو الفانون محفِّزة على القراءة الممتعة، على اختلاف طبيعتها الخاصة وسماتها. نعثر في كل حلقة من ذاك العقد القصصي الحديث على شيء من الأمثولة الأخلاقية الملزمة، وإن غير التعليمية، ذلك أن فونغات كان في قرارة نفسه منظِّرًا أخلاقيًا، بل وفيلسوف الخير. توزَّعت اقتناعاته واهتماماته بلا ريب، فعكف على إعلان غباء الغيرة وهنات المادية وعلى التشديد على الحاجة إلى التواصل الإنساني، لتشكِّل تلك الدوافع جزءًا من نسيج جهده النصي، يشجعنا على أن يفهم أحدنا الآخر. تعود المجموعة من القصص القصيرة زمنيًا إلى مرحلة يفاع كورت فونغات، غير أنها لم تحظ بفرصة النشر، ذلك أن البعض قوبل بالنبذ في حين لم يقنع البعض الآخر الكاتب بالقدر الكافي ليبادر إلى عرضها على المجلات المتخصصة. حديثو نعمة القراءة في عالم الكاتب، سيعتبرون المجموعة في صلب تجربة فونغات الرفيعة، غير أنها في الوقت عينه لن تعدو كونها مواد مثيرة للفضول، في عرف القرَّاء الآخرين، أولئك المخلصين والورعين، ملتهمي أثر أحد أبرز كتَّاب الولايات المتحدة في النصف الثاني من القرن العشرين. تحكي القصص فونغات فيما يطلُّ على الخيال العلمي ويتدرَّب على محاكاة تنطوي على تهكم رفيع. إنه فونغات المهموم بالإنسانوية خصوصًا، ومعتقل الحرب السابق والشاهد على قصف دريسدن. إنه فونغات المتشائم الصميمي، صاحب النظرة البائسة إلى العالم، يحرِّكها وقود "القرف من الحضارة". تنير النوافذ الست عشرة المأخوذة من مطلع تجربة فونغات، درب الكاتب الشاب في عزِّ صراعاته المبكرة مع الأفكار التي ستحدِّد موضوعاته لعقود آتية. في قصة فتاة حوض السباحة، تنشغل عاملة طباعة بإسم آيمي لو ليتل في نسخ نداء استغاثة تلقته على الديكتافون الخاص بها وبعث به مجرم فارٌّ من العدالة. يوشك الرجل على الموت فيما يختبئ في أحد أركان المصنع الفسيح حيث تعمل الشابة. تظهِّر الحكاية إنغماس فونغات في تناول إحدى ثيماته العزيزة، وهي القطيعة والعزلة المتأتيتان من التطور التقني، فضلاً عن إلحاح التشبُّث بالأدوات الإنسانية في مقارِّ الأعمال. والحال أن سطوة التطور محور قصة أخرى بعنوان جيني حيث يتيَّم بائع متجول بالمنتوج البحثي الذي يطرحه على الزبائن، وهو كناية عن برَّاد قادر على أن يتكلم ويفكِّر مثل النسخة المثالية والمعدَّلة من طليقته! والحال أن الحكاية تقفل على نداء بمثابة إمثولة، حيث دعوة إلى الرجوع إلى العهد السابق، إلى "الإنسان غير الكامل، في وسط ناس آخرين غير كاملين". أما المفهوم الأكثر ملاءمة لمنظور فونغات المتقلقل من مآل الإنسانية، فيستقر في قصة الوبائي حيث يجتاح الولايات المتحدة الأميركية وباء يدفع المواطنين إلى الانتحار بغية قبض مبالغ بواليص التأمين على الحياة. يكتب فونغات في رصد خراب النفوس، أن الموت لكسب لقمة الحياة صار أهم الصناعات الوطنية. مجموعة القصص تُظهر الكاتب فونغات أسيرًا في حدود حرفته وهواجسه أيضًا، غير أنها تفلش أيضًا إدراكه المسنَّن في خضم السرد. فونغات ها هنا صنو الكاتب مارك تواين في أعقاب انضمامه الى صفوف الهيبيين، على ما يعاينه دايف إيدجيرز الذي قدَّم لـ فيما يغفو الفانون، ذلك أنه يقبض على الحقيقة الأساسية النابعة من كاتبه الموقَّر تواين، القامة التي طالما تاق إلى التماثل بها. في قصة تانغو يميل سليل عائلة مترفة تتحدر من نيو انغلاند وعلى وعي اجتماعي متقدم، إلى استنباط مفهوم جديد مشوَّش الملامح منوط بإمكانات الحياة. أما في حكاية خارجًا أيتها الشمعة المندثرة، فتصل أرملة في نصف العمر إلى إيجاد ترياق ناجع للإحساس بالوحدة المتربص بها. بينما يستميت شابان في أحاديث في المال لمدِّ الروابط على الرغم من بروز عائق قادر، يتمثَّل في الثراء المباغت. تتبدى خواتم بعض قصص المجموعة مقنَّعة أو متسرعة، لهذا السبب على الأرجح رفضها الناشرون في الأساس أو ألقاها فونغات في النسيان بين رتل نصوصه. أفصحت كل قصة في المجموعة عن انعطافاتها غير المرتقبة صوب النهاية، إلى جمل لا يتقنها سوى قلة، ولا تروق إلا لقلة أيضًا. يكتب الأميركي متحدِّثًا عن الصحافي في قصة فيما يغفو الفانون: "كانت حياته برمتها ورقة"، ليزيد: "في حين تبدى حديثه عن الاستقالة شبيهًا بإدعاء سمكة ترويت أنها تهمُّ بمغادرة جدول مياه جبلي بغية إيجاد عمل في متجر للبيع بالمفرَّق". بيد أن القسط الأكبر من الحكايات ينبض خصوصًا بالوجع ومخلَّفات الخسارة والحزن، ومن المحال ألا ترتبط تلك الإنشغالات، تلقائيًا، بكاتب أميركي يعدُّ من بين الأكثر إيذاء وتندُّمًا في بلاده. في دنيا كورت فونغات لا تكفُّ الشفقة عن محاولة التموضع. يمرُّ شريط الحياة على هذا النسق بينما يجاهد الناس من أجل تخطي العزلة والإحساس الضاغط باللامعنى الذاتي، فينجحون أو يخفقون. من الجميل أن يتسنى لنا أن نحظى بفرصة الإطلاع على قصص فيما يغفو الفانون وإن متأخرين، وأن نصغي إلى صوت فونغات الاستثنائي من جديد. من المؤثر أيضًا أن نضع يدنا على عمل "طازج" عمره بعمر دعسات الكاتب الأولى الناقصة، ومغامراته الواعدة. انتقدت نصوص فونغات أحيانًا بسبب كسرها أعرافًا سردية متفقًا عليها، وعلى خلفية بساطتها الصبيانية وميلها إلى الفظاظة. غير أن تلك حقائق وأنصاف حقائق أيضًا، لا يسعها أن تعتِّم على شغفه الأساسي بمفهوم السلم والعدالة الاجتماعية ناهيك بالحاجة إلى حشمة جماعية. غير أن ثمة ما يفرِّق فونغات عن سائر المعلِّقين الاجتماعيين والسياسيين، ذلك أنه لم يتبدَّ يومًا مقتنعًا بالتعالي فوق باقي الناس. رسمه الآخرون، جميع الآخرين تقريبًا، شيطانًا أو بطلاً، في حين رأى نفسه رجلاً غريب الأطوار وأحمق يستبسل لفعل أفضل ما يستطيعه، على الرغم من برمجة للعقول في عالم على شفير الهاوية. لم تكن قماشة تخييل فونغات في الإجمال قاتمة أو مرَّة في المطلق. كانت إنسانية ودائمة الابتسام ومدفوعة بحكمة اكتسبها بعَرَق الكلمات والتجربة. يدافع فونغات عن الدماثة في التعاطي مع الإنسان، ولا يسأم من الإحتفاء بحيوية لا تزال قادرة على مساندتنا في العبور إلى التالي. ليس ثمة أهمية لماهية ذاك التالي، ذلك أنها تفاصيل فحسب، أما العبور فمسألة أخرى. النهار |
|
|