|
العقلانية والتراث العربي الإسلامي
ما هو السبب الذي يجعلنا نصدرعنوانًا نحكم فيه على كون ابن رشد شخصية فلسفية بحاجة إلى إعادة القراءة، حتى نجعل منه موضوعًا متجددًا؟ في الحقيقة، إن كل الدراسات التي تمت حتى الآن حول ابن رشد، وكل ما يتعلق بفلسفته، إنما تندرج بين خانتين ضيقتين، وهما: - أولاً: سياق الحديث عن الرشدية اللاتينية وآثارها في الفكر الأوروبي الوسيط، وردود فعل الكنيسة الكاثوليكية عليها. - ثانيًا: سياق الصراع بين التقليديين والتحديثيين حول نموذج الدولة الحديثة وعلاقتها بالدين وعلاقة الدين بالعلم، وعلاقتهما معًا بالسلطان السياسي. وفي إطار تعرضنا لفلسفة ابن رشد لابد من التعرف على المضامين الفكرية لفلسفته وعلاقة ذلك بعصره وبيئته الثقافية والحضارية وأهميته في ذلك كله. لكن، ما هي الدوافع التي جعلت المهتمين بفلسفة ابن رشد يصدرون عليه أحكامًا أحادية الجانب؟ ردًا على هذا التساؤل يمكن القول إنَّ الأصل الإيديولوجي لاستخدامات ابن رشد، في السياقين المذكورين، يعود إلى أرنست رينان في كتابه المعروف ابن رشد والرشدية Averros et I’Averroisme، والذي ترجمه عادل زعيتر إلى العربية في الأربعينيات من القرن الماضي. وقد حددت هذه البداية مسار النقاش حول ابن رشد وفلسفته لأكثرمن نصف قرن، فقد وُضِع في مواجهة الغزالي صاحب تهافت الفلاسفة بحسبان الغزالي ممثلاً للتقليدية الدينية المحاذية للعلم والعقل، والآخر – ابن رشد – ممثلاً للتقدم والتعقلن والاحتيال على التقليدية الدينية. هذا هو المعنى الذي طبقه الأستاذ محمد عاطف العراقي – النزعة العقلية في فلسفة ابن رشد – عنوان كتابه الذي يحاول فيه أن يثبت أن مذهب ابن رشد كان مذهبًا عقليًا. إن حضور ابن رشد، على مستوى الساحة الثقافية، دائمًا متجدد، ولذا يصبح الجو مهيأ لقراءة موضوعية شبه مكتملة لفلسفته، وإن لم ينف ذلك إمكانيات التفسير والتقدير. إننا من الوهلة الأولى سنحكم على أن المذهب العقلي عند ابن رشد كعنوان يبدو عنوانًا جديدًا مبتكرًا، لأنه لم يكتب فيه القدماء ولم يتعرضوا له، لأن الحديث عن المذهب كالمثالية والواقعية والعقلية والطبيعية، وغير ذلك من هذه الألوان الجديدة التي درجت على أقلام فلاسفة منذ الفلسفة الحديثة (القرن السابع عشر)، كل ذلك لم يكن معهودًا من قبل. وتلك هي محاولة، ولعلها أول محاولة، لتطبيق فلسفة المذاهب على تاريخ الفلسفة الإسلامية، استخلص منها صاحبها أن مذهب الفيلسوف الإسلامي ابن رشد، شارح أرسطو، يمكن أن يقال إنه مذهب عقلي. إن هذا النوع من التفكير يحتاج إلى منهج في البحث يختلف عن كثير من المناهج السائدة في دراسته، وذلك حتى يبدر لنا الفكر الإسلامي في صورة دقيقة محددة تتناسب وحقيقة الدور الذي أداه في مجال التراث الإنساني. صورة تبرز لنا الفكر العربي فكرًا حسب طبيعته وتكوينه، لا صورة تدخل في تحديدها معالمها قوالب محددة جامدة بحيث تطغى هذه القوالب على صورة هذا النوع من الفكر كما أراد له أصحابه أن يكون في الإطارالموضوع لهذه الدراسة: 1. "ابن رشد" يعد الفيلسوف الوحيد الذي حطَّم آراء الغزالي، ذلك الرجل الذي غدت الفلسفة عنده وهمًا وضلالاً، فانقضَّ على الفلسفة والفلاسفة يشبعهم هجومًا. ولكن هذا الهجوم الذي لم يقم على إساس ثابت سرعان ما تساقط وتهافت وأصبح سرابًا، بعد ذلك البناء الفلسفي الشامخ الجبار الذي أقامه ابن رشد، وأصبح بذلك صاحب الطريق المفتوح طالما أنه أنكر محاولة الغزالي السلبية برغم خصبها وعمقها. 2. وهناك جانب آخر من أعظم جوانبه هو محاولة تقديمه "أرسطو" للفكر الفلسفي خاليًا من الأخطاء والشوائب التي عرضت لفلسفته من شروح الشراح ونظريات سابقيه من فلاسفة الإسلام. فلو لم يقدم لنا ابن رشد في المجال الفلسفي سوى هذا الجانب لكان هذا وحده يكفيه فخرًا. إنه جانب خصص له ابن رشد جزءًا هامًا من تفكيره الفلسفي وقد أعانه على الوصول به إلى الحقِّ عقليته الناقدة الدقيقة. وتبدو نزعته العقلية في صوره أخرى ولكنها أكثر شمولاً وتحديدًا هي تفرقته المشهورة بين الأقوال الخطابية والجدلية والبرهانية وسعيه للوصول إلى البرهان الذي هو عنده أسمى صور اليقين. وأنه بدون فهم للمغزى الذي يكمن وراء هذه التفرقة، فإننا لن نستطيع فهم ودراسة ابن رشد كما ينبغي أن يُفهم ويُدرس، بل قد نقع في أخطاء لا حصر لها تؤدي الى وضع ابن رشد في قوالب تقليدية جامدة محددة تحديدًا خاطئًا. فهو الذي قال: "إن الحكمة هي النظر في الأشياء بحسب ما تقتضيه طبيعة البرهان". لقد ذكرت في مقدمة هذا المقال أنه في إطار تعرضنا لفلسفة ابن رشد في وجهها العقلي، فلا بدَّ من التعرُّف على المضامين الفكرية لفلسفته وعلاقة ذلك بعصره. هل حقيقةً أن حياة ابن رشد في حدِّ ذاتها تمثل الاتجاه العقلي؟ نقول إن من الإمور التي كان لها تأثير كبير في مجرى حياة ابن رشد اتصاله بالخليفة أبي يعقوب يوسف أبي محمد عبد المؤمن بن علي القيسي الكرومي صاحب المغرب، وكان هذا الخليفة يجمع بين أمرين: التفقه في الدين والورع والتقوى من ناحية، وطموحه إلى تعلم الحكمة والفلسفة من ناحية أخرى. وقد أراد "أمير المؤمنين" قراءة فلسفة أرسطو، بيد أنه كان يشكو من قلق عبارته أو عبارة المترجمين عنه، فأبلغ هذه الرغبه إلى ابن طفيل غير أنه لكبر سنِّه واشتغاله بالخدمة وصرف عنايته إلى ما هو أهم، استدعى ابن رشد وأبلغه رغبة أمير المؤمنين وقال له: لو وقع لهذه الكتب من يلخصها أو يقرب أغرضها بعد أن يفهمها فهمًا جيدًا لقرب ما أخذها على الناس، فإن كان فيه فضل قوه لذلك فافعل، وإني لأرجو أن تفي به لما أعلمه من جودة ذهنك وقوة نزوعك إلى الصناعة. لكن هل قام ابن رشد فعلاً بشرح كتب أرسطو أو تلخيصها قبل انتداب ابن طفيل له؟ قدر كبير من الشك. ما هي النكبة التي تعرض لها ابن رشد وأبعادها؟ فمرَّد تلك النكبة الصراع بين المفكرين الأحرار وغلاة الفقهاء، إذ لا يعد الفقه مسؤلاً عما حدث لابن رشد لأنه، في جملته، لا يتعارض والنظر العقلي، وكان ابن رشد نفسه فقيهًا. وكذلك لم تغفل نظريته في اتفاق العقل والشرع، بل اعتمدت عليه كمبرِّر للدفاع عن النظر العقلي ومحاولة التوفيق بين العقل والدين... ففي الشرح الأكبر يتناول ابن رشد كل فقرة من فقرات أرسطو ويوردها كاملة ويوضحها جزءًا جزءًا، وتسرد المناقشات النظرية على هيئة استطرادات. ويقسِّم كل كتاب إلى مباحث، والمباحث إلى فصول، والفصول إلى فقرات وعبارات، فهو لا يكتب الشرح أو التفسير إلا بعد إيراد نص أرسطو. وبذلك يتميَّز النص تميزًا تامًا عن الشرح أو التفسير. وقد يكون ابن رشد قد تأثر في منهجه هذا بمفسري القرآن، فهم يوردون النص مستقلاً، ثم يفسرونه ويعلقون عليه بعد ذلك. مرحله الشرح: تمر بثلاثة مراحل هي كالتالي: النص المطروح يكون لأرسطو – مرحلة التفسير – ثم مرحلة التعليق عليه... وفي الشرح الأوسط يورد نص كل فقرة بكلمتها الأولى فقط ثم يشرح الباقي دون أن يميز بين ما هو خاص به وما هو خاص بأرسطو. فهو يذكر النص مميزًا بكلمة قال Dixit وهو يعني بذلك أرسطو؛ وإذا كان ابن رشد يأتي بكثير من الأمثلة من عنده إلا أنه لا يزال متبعًا النص الأصلي ومتقيدًا به. وفي التلخيص يتكلم باسمه الخاص دائمًا دون أن يعرض مذهب أرسطو بنصه بل مضيفًا حادثًا، وهو يبحث في كتبه الأخرى عما يكمل فكرته. بهذه الشروح التي قام بها ابن رشد أصبح يسمى باسم الشارح. وقد كان لشروحه شأن عظيم في ترويج فلسفة العلم الأول في الأوساط الفلسفية واللاهوتية في الغرب. حتى أن شروحه قد انتشرت بين رجال الدين رغم أنهم كانوا يرون في مذهبه خطرًا يهدد العقيدة. فما مغزى إعجاب ابن رشد بأرسطو إلى هذه الدرجة التي تبينت فيما سبق؟ مثلاً نجد أن ابن رشد في تفسيره لـما بعد الطبيعة لأرسطو، حين بحث رأي أرسطو في مشكلة قدم العالم، يتطرق إلى إيراد رأيه في هذه المشكلة مبينًا وجه تفضيله لأرسطو على غيره. كيف كان رده على ابن سينا والغزالي؟ بالنسبة لرده على ابن سينا، كان الغزالي قد ظن أنه رد على فلسفة أرسطو. فإن ابن رشد يجيء ليقرر أن كثيرًا من هذا الرد خاطئ، لأن الغزالي استند فيه على رأي ابن سينا لا رأي أرسطو الحقيقي. وهذا يدل على أن ابن سينا لم ينقل رأي أرسطو كما ينبغي أن ينقله ويفهمه. أما بنسبة لرده على الغزالي، على حسب ما يذكره في كتابه تهافت الفلاسفة (ص، 60)، فإنه يقول: "فلما جال أرسطو برأيه غير مستند إلى كتاب منزل ولا إلى قول نبي مرسل ضل في الطريق وفاتته أمور لم يصل عقله إليها". فتعرض الغزالي إلى مثل هذه الأشياء على هذا النحو من التعرض لا يليق بمثله. فإنه لا يخلو من أحد أمرين: إما أنه فهم هذه الأشياء على حقائقها فساقها هنا على غير حقائقها وذلك من فعل الأشرار، وإما أنه لم يفهمها على حقيقتها فتعرض إلى القول فيما لم يحط به علمًا وذلك من فعل الجهَّال، والرجل يجلُّ عندنا عن هذين الوصفين. ولكن لا بدَّ للجواد من كبوة، فكبوة أبي حامد هو وضعه الكتاب، ولعله طرأ إلى ذلك من أجل زمانه ومكانه. (تهافت التهافت، ص 33، 43، 99). لذلك أراد ابن رشد الكشف عن قصور أقوال الغزالي في تهافته عن البرهان واليقين، وهذا ما تكشفه عنه عبارته: إن الغرض من هذا القول أن نبين الأقاويل المثبتة في كتاب التهافت في التصديق والأقناع. وقصور أكثرها عن مرتبة اليقين والبرهان... لكن، ما هو اتجاهه الخاص؟ على هذا الأساس نفسه هاجم من ينكر أهمية الفلسفة والفلاسفة، وقال: إنه لا ينبغي أن نشوِّش دعاوى الفلاسفة كما يفعل الغزالي. فإن العالم بما هو عالم إنما قصده طلب الحقِّ لإيقاع الشكوك وتحيير العقول: أما الفلاسفة فإنهم لا يقصدون الغلط بل الحقَّ: "وإذا أخطأ الفيلسوف في إصابة الحق فليس يقال فيه إنه ملبس، والفلاسفة معلوم من أمرهم أنهم يطلبون الحق فهم غير ملبسين أصلاً". ما هي طبيعة كل من المعرفة الحتمية والمعرفة العقلية عند ابن رشد؟ ترتكز نظرية ابن رشد في المعرفة، كما هو الحال عند أرسطو، على المقارنة الأساسية بين الوجود المحسوس والوجود المعقول، والصعود من الأول إلى الثاني. وقول الفلاسفة إن الكليات موجودة في الأذهان لا في الأعيان يراد بها أنها موجودة بالفعل في الأذهان لا في الأعيان، ولا يقصد منه الذهاب إلى أنها ليست موجودة أصلاً في الأعيان، بل إنها موجودة بالقوة وليست موجودة بالفعل، ولو كانت غير موجودة أصلاً لكانت كاذبة، وهذه الفكرة هي التي تجعل ابن رشد عقليًا لأن الكليات لها وجود ذهني فهو من العقليين. هذا كله يدلُّ على أن تفسير ابن رشد للصلة بين المحسوس والمعقول يتضمن نقده لوجود كليات مفارقة، فإذا كان يعتقد بضرورة الارتفاع من المحسوسات إلى المعقولات ومن الجزئيات إلى كلياتها، فإنه يرى من الضروري نقد القول بوجود كليات مفارقة، إذ أنها لا تستطيع تفسير المعرفة الإنسانية، كما لا تستطيع نظريات الفيض تفسير وجود الموجودات، إذ يجب تفسير وجودها بالقول بالمادة والصورة لا بوجود شيء خارج عنها. ما هي مشكلة الاتصال في فلسفة ابن رشد؟ فالكلام عن مسألة الاتصال يرتبط بالكلام عن العقول التي قسَّمها ابن رشد ثلاثة أقسام هي: الهيولاني، والملكة، والفعَّال. وهو المخرج له من القوة إلى الفعل. وحديثه عن الفعَّال هو الذي وصفه بأنه أشرف من الهيولاني، وأنه في نفسه موجود بالفعل عقلاً دائمًا سواء عقلناه نحن أم لم نعقله، وأنه أيضًا صورة محضة إذا حصلت لنا فقد حصل ضرورة معقول أزلي. كل ذلك يرتبط بمسألة الاتحاد أو الاتصال. العقل والوجود. مشكلة قدم العالم؟ المنزع العقلي في موقفه من الصراع بين أهل القدم والحدوث بالنسبة لأزلية العالم، إذا أريد الكشف عن المنزع العقلي لابن رشد في هذا المجال لا بدَّ من تتبع رده على الغزالي الذي ذهب إلى أن جماهير الفلسفة قد اتفقوا على القول بقدم العالم، فإنه لم يزل موجودًا مع الله تعالى، ومعلولاً له، ومساوقًا له غير متأخر عنه بالزمان مساوقة المعلول للعلة مساوقة النور للشمس، وأن تقدُّم الباري عليه كتقدُّم العلة على المعلول، وهو تقدم بذات والرتبة لا بالزمان. بل ذهب إلى تكفيرهم لقولهم بهذا القدم سواء من ناحية الأزلية أو الأبدية والقول بأن الجواهر كلها قديمة. اتفاق العقل والشرع والتوفيق بين الدين والفلسفة حاول الفلاسفة الإسلاميون التوفيق بين الدين والفلسفة وذلك لاعتقادهم أن الدين والفلسفة يساند كل منهما الآخر في كل المسائل الجوهرية. وإن بدا بينهما تعارض فإنه ليس حقيقيًا، وإنما نشأ نتيجة لسوء فهم كليهما. وإن كانت هذه المشكلة تعدُّ هامة بنسبة لفلاسفة المشرق، إلا أنها كانت أكثر أهمية لفلاسفة المغرب، وقد يكون مرد ذلك هجوم الغزالي على الفلسفة والفلاسفة، حتى اعتقد أنها لن تقوم لها قائمة بعد هذا الهجوم العنيف. وكان من أهم المحاولات في هذا المجال محاولة ابن طفيل ومحاولة ابن رشد، وإذا كان ابن رشد قد استفاد من محاولات فلاسفة المشرق كالفارابي وابن سينا إلا أنه كان أكثر من استفادة من معاصره ابن طفيل. فيما تمثَّل مذهب ابن رشد؟ كان أكثر الفلاسفة اهتمامًا ببحث هذه المشكلة، فقد ترك لنا الكثير من المؤلفات التي نتعرَّض لبحثها، وأهمها فصل المقال ومنهج الأدلة وتهافت التهافت. هذا بالإضافة إلى بعض الإشارات التي بثها في تضاعيف تلاخيصه وشروحه على أرسطو، والتي لا تخلو من دلالة عميقة. الغرض من هذا البحث هو الفحص على جهة النظر الشرعي، هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع أم محظور أم مأمور به إما على جهة الندب وإما على جهة الوجوب. وهذه الأحكام مستقاة من الفقه، فإن فُهم من الحكم الشرعي الجزم وتعلُّق العقاب بتركه سمي واجبًا، وإن فُهم منه الثواب على الفعل وانتفى العقاب مع الترك سمي ندبًا، والنهي أيضًا إن فُهم منه الجزم وتعلق العقاب بالفعل سمي محرمًا ومحظورًا، وإن فُهم منه الحثُّ على تركه من غير تعلق عقاب بفعله سمي مكروهًا. فتكون أصناف الأحكام الشرعية الملتقاة من هذه الطرق الخمسة: واجب ومندوب ومحظور ومكروه ومخيَّر فيه وهو المباح. والإيجاب طلب الفعل طلبًا جازمًا، والندب طلب الفعل طلبًا غير جازم. والتحريم طلبُ الكفِّ عن الفعل طلبًا جازمًا. والكراهية طلب الكفِّ عن الفعل طلبًا غير جازم، أما المكروه والمندوب داخلان تحت المباح، إذ المكروه لا يأثم فاعله، ولو أثم لكان حرامًا، ولكن يؤجر تاركه، والمندوب إليه، لا يؤثم تاركه ولو أثم لكان فرضًا، ولكن يؤجر فاعله. وإذا كانت الفلسفة عبارة عن النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، وأن الموجودات تدلُّ على الصانع لمعرفة صنعتها، وكما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم، فإن هذا يؤدي إلى القول بأن الشرع قد دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل، وتطلب معرفتها به. وإذا تقرر أن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها، وكان هذا الاعتبار ليس شيئًا أكثر من استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه، وهذا هو القياس أو بالقياس فواجب أن تجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي. ويبين أن هذا النحو من النظر الذي دعا الشرع إليه وحث عليه هو أتم أنواع النظر بأنواع القياس وهو المسمى برهانًا. فيجب إذن تبرير اللجوء إلى القياس العقلي بالقول بأنه كالقياس الشرعي في مجال الدين. فإذا كان القياس الشرعي إلحاق الحكم الواجب لشيء ما بالشرع بالشيء المسكوت عنه لشبهة بالشيء الذي أوجب الشرع له ذلك الحكم وهو مايعرف بقياس الشبه أو العلة جامعة بينهما، وهو ما يعرف بقياس العلة. فإن القياس المنطقي قول إذا وضعت فيه أشياء أكثر من واحد لزم شيء ما آخر اضطرارًا بسبب وجود تلك الأشياء الموضوعة بذاتها. ولا بدَّ من معرفة القياس البرهاني بالذات، إذ الفحص عن القياس إنما هو من أجل الفحص عن البرهان، والمنفعة الحاصلة عنه حدوث العلم البرهاني في جميع الموجودات على أتم ما في طباعه أن يحصل للإنسان. ولا بد من معرفة وجود مخالفة للقياس البرهاني الجدلي والخطابي والمغالطي حتى يمكننا إدراك مزايا القياس البرهاني على غيره من أنواع الأقيسة، بل لا بد من دراسة شروط المقدمات في الأقيسة، وذالك لأن هذه الأشياء تتنزَّل من النظري منزلة الآلات من العمل. فكما أن الفقيه يستنبط من الأمر في التفقه في الأحكام وجوب معرفة المقاييس الفقية وأنواعها، وما منها قياس وما منها ليس بقياس، كذلك يجب على العارف أن يستبطن من الأمر بالنظر في الموجودات وجوب معرفة القياس العقلي وأنواعه. وإذا اعترض معترض قائلاً إن هذا النوع من النظر في القياس العقلي بدعة إذ لم يكن في المصدر الأول، فنقول إن النظر أيضًا في القياس الفقهي وأنواعه قد استنبط بعد المصدر الأول وليس يُرى أنه بدعة، فكذلك يجب أن يكون اعتقادنا في النظر في القياس العقلي. بيد أن طباع الناس متفاضلة فمنهم من يصدِّق بالبرهان، ومنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية تصديق صاحب البرهان إذ ليس في طباعه أكثر من ذلك، ومنهم من يصدق بالأقوال الخطابية تصديق صاحب البرهان بالأقاويل البرهانية. وهذا يقوم على نظرية المعرفة، إذ هناك ثلاثة أنواع من المعرفة: خطابية، جدلية وبرهانية. وكل نوع من هذه الأنواع يناسب طائفة من الناس. ففريق البرهان يعتمد على الأدلة البرهانية، وهذه الأدلة تبدأ من المبادىء الأولية للعقل وهي واضحة بذاتها، ويستنتج منها – بسلسلة من القياسات الدقيقة المرتبطة ببعضها البعض ارتباطًا وثيقًا – نتائج تشترك في الوضوح والبداهة، وفي يقين المقدمات. وفريق الجدل يعتمد على الأدلة الجدلية، وهذه الأدلة مساوية في دقة صورتها للأدلة البرهانية، لكن مقدماتها ليست بديهية بإطلاق، بل راجحة قليلاً أو كثيرًا. وفريق الخطابة يعتمد على الأدلة الخطابية التي تقوم على العاطفة أكثر من قيامها على العقل. وهذه التفرقة بين الطبقات الثلاث أو بين أنواع الأدلة تؤدي إلى نظريته في التأويل، فالنظر البرهاني إن أدى إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما، فإن ذلك الموجود إما أن يكون قد سكت عنه الشرع أو تعرض له. فإن كان من النوع الأول فلا تعارض، إذ إن هذا سيتيح لنا السير في الطريق البرهاني دون أن يعترض أحد بالقول بأن الشرع قد خالفه. وهذا النوع المسكوت عنه هو بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام، فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي. أما من جهة النوع الثاني، فإن الشريعة إذا نطقت بشيء فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقًا لما أدى إليه البرهان أو مخالفًا، فإن كان موافقًا فلا قول هناك وإن كان مخالفًا طلب منا تأويله. ومعنى التأويل إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه أو سببه أو لاحقه أو مقارنه أو غير ذلك من الأشياء التي عددت في تعريف أصناف الكلام المجازي. وإذا كان الفقيه يفعل هذا في كثير من الأحكام الشرعية، فأولى بصاحب العلم بالبرهان أن يفعل ذلك. فإن الفقيه عنده قياس ظنِّي والعارف عنده قياس يقيني. فلا يصحُّ من جانب الفيلسوف الوقوف عند ظاهر الآية، بل واجبه تأويلها... ونحن نقطع قطعًا أن كل ما أدى إليه البرهان، وخالفه ظاهر الشرع، أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي. وهذه القضية لا يشك فيها مسلم ولا يرتاب بها مؤمن، وما أعظم ازدياد اليقين بها عند من زاول هذا المعنى وجربه وقصد هذا القصد من الجمع بين المعقول والمنقول. بل نقول إنه ما من منطوق في الشرع مخالف بظاهره لما أدى إليه البرهان. فإن اعتبر الشرع وتصفحت سائر أجزائه وجد في ألفاظ الشرع ما يشهد بظاهره لذلك التأويل، أو يقارب أن يشهد. ولهذا أجمع المسلمون على أنه لا يجب حمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها، ولا خروجها كلها عن ظاهرها بالتأويل. فالعبرة هنا بالبرهان إذ هو أسمى صور اليقين، ولا غرابة في ذلك لأنه طريق الفلاسفة، ولهذا يجب رفعه على طريق أهل الظاهر، بل إخضاع هذا الظاهر للبرهان. ويؤكد هذا الاتجاه إلى القول بأن للشرع ظاهرًا أو باطنًا. فالسبب في ورود الظاهر والباطن في الشرع اختلاف فطر الناس وتباين قرائحهم في التصديق، والسبب في ورود الظواهر المتعارضة تنبيه الراسخين في العلم على التأويل الجامع بينهما. ويدل على ذالك قوله تعالى: "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آياتٌ محكماتٌ هن أم الكتاب وأخر متشابهاتٌ فأمَّا الذين في قلوبهم زيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم". (الآية 7، سورة آل عمرآن). هذا بالإضافة إلى أنه لا بد أن يكون هناك فرق بين أهل العلم وغير أهل العلم. وقد وصف الله تعالى أهل العلم بأنهم المؤمنون به، وهذا إنما يحمل على الإيمان الذي يكون من قبل البرهان. ولا يتم ذلك إلا مع الإيمان الذي وصف الله به العلماء خاصًا بهم، ويجب أن يكون بالبرهان، وإذا كان بالبرهان، فلا يكون إلا مع العلم بالتأويل، لأن الله قد أخبر أن لها تأويلاً هو الحقيقة، والبرهان لا يكون إلا مع الحقيقة. ولكن ما هو موقفنا من اجماع المسلمين على ظاهر معين؟ هل يصح لنا التأويل أم لا؟ فإن قال قائل إن في الشرع أشياء قد أجمع المسلمون على حملها على ظواهرها وأشياء على تأويلها، وأشياء قد اختلفوا فيها. فهل يجوز أن يؤدي البرهان إلى التأويل أي إلى تأويل ما أجمعوا على ظاهره أو ظاهر ما أجمعوا على تأويله؟ قلنا: أما لو ثبت بالإجماع بطريق يقيني لم يصح، وإن كان الإجماع فيها ظنيًا قد يصح. فهنا ظاهر من الشرع لا يجوز تأويله. فإن كان تأويله في المبادىء فهو كفر وإن كان فيما بعد المبادىء فهو بدعة. وهنا أيضًا يجب على أهل البرهان تأويله وحملهم إياه على ظاهره كفر. وتأويل غير أهل البرهان له وإخراجه عن ظاهره كفر في حقهم أو بدعة. إن كان من أهل البرهان، فقد جعل له سبيل إلى التصديق بها بالبرهان، وإن كان من أهل الجدل فبالجدل، وإن كان من أهل الموعظة فبالموعظة. أما الأشياء التي لا تعلم بالبرهان، فقد ضرب الله للعامة أمثالها وأشباهها ودعاهم إلى التصديق بتلك الأمثال إذا كانت تلك الأمثال يمكن أن يقع التصديق بها بالأدلة المشتركة للجميع، أعني الجدلية والخطابية. وهذا هو السبب في انقسام الشرع إلى ظاهر وباطن. فإن الظاهر هو تلك الأمثلة المضروبة لتلك المعاني، والباطن هو تلك المعاني التي لا تتجلى إلا لأهل البرهان. وفرض الخواص هو التأويل، وفرض الجمهور هو حمل الآيات على ظاهره، إذ ليس في طباعهم أكثرمن ذلك. وبهذا كله يمكن فهم العبارات التي قد يستخلص منها البعض أن ابن رشد يقدم الشرع على العقل. فإذا كان ابن رشد يقول: إن الفلسفة تفحص عن كل ما جاء في الشرع، فإن أدركته استوى الإدراكان، وكان ذلك أتم في المعرفة، وإن لم تدركه علمت بقصور العقل الإنساني عنه، وأن الشرع فقط هو الذي يدركه. فإن هذا يعني أنه في حالة اتفاقهما كان ذلك أفضل، أما في حالة اختلافهما فإن هذا الاختلاف ليس مراده قصور العقل بإطلاق، بل هذا القصور مبعثه أن الشرع ينادي أساسًا بالنواحي العملية التي لا غنى عنها للجمهور، ولا يمكن الإسراف في تأويلها بالنسبة للجمهور... هذا هو تفسيري لنظرية ابن رشد في اتفاق العقل والشرع، نظرية تقوم في مبدئها وفي منتهاها على تفضيل أهل البرهان. إذ إنهم أهل الحكمة. ولا تخالف في أي جزء من أجزائها المحددة الواضحة منطق العقل وبرهانه. فما دمنا قد نادينا بالتأويل، فإن هذا التأويل كفيل بحلِّ الخلافات التي قد تبدو في أول الأمر بين الفلسفة والشرع. إذ التأويل أصلاً منزع عقلي، وهو من أهم المطالب العقلية. ويجدر بي القول بأنه قد نشأت خلافات كثيرة حول هذه النظرية، وقد بدأت هذه الخلافات بذهاب الرشديين اللاتينيين إلى أنه يقول بالحقيقة المزدوجة أو الحقيقة ذات الوجهين. وعلى أساس هذه الاعتقاد قامت الخلافات وكثرت الأراء وتشعبت، واعتقد كل فريق من المفكرين والمؤرخين برأي يخالف فيه الفريق الآخر في قليل أو كثير. فمنهم من يذهب إلى أنه قد وقف موقفًا عقليًا إلى أقصى حد حين ذهب في نظريته عن اتفاق العقل والشرع إلى أن الوحي غير ضروري وخاصة بالنسبة للفلاسفة، ومنهم من يذهب إلى أنه لا يوجد في كتاب فصل المقال وجهات نظر تتعارض مع البرهان. ومنهم من يرى أن نظرية التوفيق هذه فاسدة لأنها تنطوي على عدة مبادىء خاطئة إنما تميِّز بين العامة والخاصة، وبالتالي تجعل الدين اثنين. ولما كان إيمان الخاصة هو الحق، كان إيمان العامة ضلالاً، وأنها تقضي على الفيلسوف بمجاراة العامة ظاهرًا وكتمان ما يرى باطنًا، وهذه هي الزندقة بنفسها. وهذا الرأي أحسبه خطأ، إذ لا تجعل نظرية التوفيق الديني اثنين، بل تريد الصعود بالدين إلى مستوى الفهم البرهاني له، فهناك أدلة خطابية جدلية وبرهانية ولكل نوع من الأدلة طبقة خاصة من الناس، والتأويل كفيل بحل ما ينشأ من خلافات بين الفلسفة والدين. ومنهم من ذهب إلى أن رأي ابن رشد يؤدي إلى القول بأن الفيلسوف حين ينظر في الدين يسلِّم بصحته في مجاله الخاص بحيث لا تصطدم الفلسفة بالدين بتاتًا. أما الفلسفة فهي أسمى صور الحق وهي في الوقت نفسه أسمى دين، لأن دين الفلسفة معرفة كل ما هو موجود، وهذا الرأي فيه إنكار للدين، فالدين الماوي الحق لن يرضى بأن يقر الفلسفة بالمكان الأول في ميدان الحقائق. والخطأ في هذا الرأي هو القول بأن ابن رشد يقول بإنكار الدين إذ لكلٍّ من الدين والفلسفة قضاياها، والقول بوجود أدلة خطابية وأدلة برهانية لا يمكنه أن يؤدي إلى إنكار الدين، طالما أننا منعنا التأويل البرهاني عن أصحاب الأدلة الخطابية. ومنهم من يذهب إلى أن المذهب الفلسفي الذي استخلص من كتابه فصل المقال هو بالنسبة للفلاسفة مذهب عقلي بلا قيد ولا شرط. فالبداهة والعقل والفلسفة تكتفي بنفسها، أما الدين فلا يتجه إلا إلى العامة، فيقدم لهم الحقائق الفلسفية في رموز وصور وأمثال لها تأثير على قلوبهم ومس مشاعرهم وتحريك إرادتهم. فلا يجوز أن نتساءل ونقول: هل ابن رشد والفلاسفة بصفة عامة عقليون ثم نجيب على هذا السؤال بنعم أو لا. إنهم عقليون فيما يتعلق بالفلسفة، وإنهم يضعون العقيدة فوق العقل فيما يتعلق بعامة الناس. فللعامي والجمهور، الدين كما هو لأنه ضروري في حالته هذه لحفظ النظام الاجتماعي. وللفيلسوف دين العقل والبرهان الذي يستطيع به أن يشترك في حياة العقل وأزليته. ومنهم من يذهب إلى أن ابن رشد يُعدُّ غير عقلي حين يتعلق الأمر بالعامة الذين لا يطيقون النظر والأدلة البرهانية، وعقلي حين يتعلق الأمر بأهل النظر العقلي والفلسفة. ومنهم من يذهب إلى أن ابن رشد من الخطأ أن تنسب له تلك الازدواجية التي نسبت إليه قديمًا بالنظر إلى تفهُّم أقوال الشرع، فهو لا يقول بالازدواجية، وتمييزه بين الباطن والظاهر طريق إلى توحيد المعنى، وكل شريعة في نظره كانت بالوحي فالعقل يخالطها والعلم المتلقى من قبل الوحي إنما جاء متممًا لعلوم العقل. ومنهم من يذهب إلى أن ابن رشد يجعل الدين تابعًا للعلم، لا العلم تابعًا للدين، وتفسير ذلك أن التوفيق الذي كان يريده ابن رشد بين الفلسفة والدين مبني على دعامتين: 1. الدين قسمان: ظاهر وباطن. فالخاصة تعلم بالباطن والظاهر، والعامة يجب أن لا تعلم إلا بالظاهر. 2. يجب تأويل الظاهر الذي لا يوافق العقل إلا متى كان هذا المبدىء، أي الأصول الكبرى. ورجال الدين لاتروقهم هذه القسمة، وهذا التأويل، ذلك أن الدين يخرج بهما عن شرعه ويكون مثله مثل جسم مرتبط بجسم آخر، وهو العلم في كل تغيراته العقلية وتحولاته الجدلية... فالدين متى صار عقليًا لم يعد دينًا، بل أصبح علمًا. إن الدين هو الإيمان بخالق غير منظور وآخرة غير منظورة، ووحي ونبوة ومعجزات وبعث وحشر وثواب وعقاب، ولكنها غير محسوسة وغير معقولة ولا دليل عليها غير ما جاء في الكتب المقدسة. فمن يريد فهم هذه الأمور بعقله ليقول إن دينه عقلي ينتهي إلى رفع ذلك كله لا محالة، فلا يمكن أن يوجد في العالم "دين عقلي" إلا إذا كان ذلك الدين يثبت بأدلة عقلية مبنية على الامتحان والتجربة والمشاهدة: نفس الإنسان الخالدة، والآخرة، وبعث الأجساد، والثواب والعقاب، وعالم الغيب والحق سبحانه وتعالى. بيد أن هذا فيما أرى قد يكون صحيحًا لو لم يلجأ ابن رشد إلى التأويل – ولكنه كما تبيَّن – نادى بقانون للتأويل يقوم على فكرة وجود فئات ثلاثة يتبعون ثلاثة أصناف من التصديقات. ويمكن النظر إلى الدين من زاوية عقلية إذا اتبعنا منهاج التأويل، وقصرناه على أهل البرهان دون غيرهم من الفئات الأخرى. وأخيرًا يجدر بي القول بأنه من الخطأ الظن بأن ابن رشد قد تكلم عن العلاقة بين العقل والشرع حاصرًا نفسه في دائرة الشرع، أو واضعًا فكره في قوالب جدلية، بل مُعْلنًا لمبادىء عقلية برهانية يؤمن بها هو. وعلى هذا تكون نظرية التوفيق هذه نظرية تساوق مبادىء العقل مساوقةً تامةً. ويمكنني أن استخلص من هذا كله القول بوجوب بحث فلسفات المسلمين على أساس لا يقوم فحسب على مجرد توفيق بين الدين والفلسفة حتى لا تبقى مغلقة محصورة في نطاق ضيق. أي لا نركِّز جهودنا في بيان: هل هذا الفيلسوف مؤمن أم لا؟ وهل فلسفته تتفق مع الدين أم لا؟ وإنما يكون هدفنا بيان مدى معقولية رأيه في النظرية التي يبحثها. وانتهي من هذا كله إلى القول بأن جمهرة المؤلفين والمؤرخين إذا كانوا قد وجهوا اهتمامهم إلى نظريات التوفيق بين الدين والفلسفة، فإن الأصوب من ذلك والأجدى فيما يبدو استخلاص ما في فلسفتهم من منازع عقلية دون التركيز على مسألة التوفيق بين الدين والفلسفة. وبهذا يتم الصعود إلى البرهان بعد تجاوز كل أدلة خطابية أو كلامية في مجال الفكر الفلسفي في حدِّ ذاته كفكر فلسفي. *** *** *** المراجع المعتمدة: 1. محمد عاطف العراقي، النزعة العقلية في فلسفة ابن رشد، دار المعارف، مصر، 1968.
ملحوظة: راجع كتاب د. محمود قاسم، ابن رشد: الفيلسوف المفترى عليه. ملحوظة: يوجد في فلسفة ابن رشد عنصران أساسيان هما مذهب أرسطو والعقيدة الدينية، وسيتبين كيف وضع كلاً منهما في موضعه على أساس إيمانه بالبرهان، وعلى ضوء اتجاهه العقلي، ليس في نظريته في اتفاق العقل والشرع فحسب، بل في جميع نظرياته في الوجود والمعرفة وغيرهما. ملحوظة: معنى التأويل مأخوذ من تفسير ما بعد الطبيعة لابن رشد، ج 3، ص 8. ابن رشد يبدأ كل نظرية من نظرياته بالإشارة إلى آراء بعض من سبقوه، ودراسة هذه الآراء دراسة موضوعية، ثم يقوم بنقدها. وعلى كل فإنه يبدو أن محاربة التأويل هدفها تقديم الشرع على العقل ومحاولة دحض عملية التوفيق نفسها، فابن تيمية مثلاً يقول: "إن كون الشيء معلومًا بالعقل أو غير معلومًا بالعقل ليس صفة لازمة لشيء من الأشياء، بل هو من الأمور النسبية الإضافية. وقد يعلم الإنسان في حال ما بعقله ما يجهله في وقت آخر. والمسائل التي يقال عنها إنها قد تعارض فيها العقل والشرع، جميعها مما اضطرب فيها العقلاء، ولم ينفقوا فيها على القول بأن العقل يوجب كذا". موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول، ص 81. ويقول أيضًا: "إن الناس لو ردوا إلى غير الكتاب والسنة من عقول الرجال ومقاييسهم وبراهينهم لم يزدهم هذا الرد إلا خلافًا واضطرابًا وشكًا وارتيابًا" . المصدر السابق، ص 83. ويقول أيضًا: "إنه لو قيل بتقديم العقل على الشرع، وليس العقول شيئًا واحدًا بينًا بنفسه ولا عليه دليل معلوم للناس، بل فيها هذا الاختلاف واضطراب لوجب أن يحال الناس على شيء لا سبيل إلى ثوبته ولا اتفاق الناس عليه". المصدر السابق، ص 82. ٭ الفكر العربي المعاصر، العدد 140 – 141، ربيع-صيف 2007. ٭ كلية العلوم الاجتماعية، قسم الفلسفة، وهران، الجزائر.
|
|
|