|
الحجب الملوَّنة للعدوانية
إنه العنف، حديث المربِّين والسوسيولوجيين منذ بداية قرن العولمة هذا. صاخب لدى الشبيبة، هامس لدى سواها. الفرق بين الجيلين ينحصر بلا شك في طريقة التعبير، لا في وجود الانفعال ولا في غياب التعبير. فالعنف يكره الصمت. وللعنف لغته. قد تكون "مثقَّفة" وقد تظل بدائية. وله حروفه. تغزو سلام العين ألوان صارخة أو سلام الأذن موسيقى كأنها الفؤوس. وله استحالاته. فهو الشكل الذي يصير فيه الخوف عدوانية، أو – إذا أحسن تصريفه – قد يستخدمه الحبُّ نفسه ليجعل من الوصال حمَّى تصهر العاشقين. بين العنف والإحساس بالحرية، علاقة شديدة الالتباس. كشفها يذهب بنا إلى جذور الظاهرة. الأمر نفسه نراه عندما نتساءل عن علاقته بالحب. العنف يخيفنا إذا اقترب، فلا نستطيع أن نفهم لغته إلا بعد أن يغيب. لكن بعض المواقف لا تسمح بهذه الأريحيَّة. ومنها حالة الشباب الأجنبي، وخصوصًا العربي، في إحدى مدارس برلين، التي ستروي قصتها السطور الآتية، ثم تبتعد عنها كي تراها في سياق ثقافي–اجتماعي أكبر. فإذا كان العنف هو أكثر أصوات التعبير صخبًا، فلعل علينا كي نفهمه أكثر أن نصغي إلى أصواته الهادئة أو أن نتأمل ألوانه.
بورتريه: الانفعال خطًا ولونًا. 1 "إن السير على مبدأ العين بالعين سيجعل كل العالم أعمى". لست أدري من اكتشف هذه الحكمة الغاندية واختار لكتابتها – لأسباب تربوية بلا شك – جدار هذه المدرسة بالذات التي اشتهرت بكل شيء ما عدا النزعة الحمائمية. اسمها "مدرسة رتلي"، بضم حرف الراء وإمالته، وهي بلا شك المدرسة الوحيدة في التاريخ الألماني التي يستنجد طاقم التدريس فيها رسميًا بالمسؤولين، معلنًا أنه قد أسقط في يده ولم يعد يدري ماذا يفعل، وأنه لا يرى حلاً لهذه المدرسة بسوى غلقها. في رسالة الاستغاثة تلك، التي نشرتها في ما بعد مجلة "دير شبيغل" وأحدثت ضجة لم تهدأ حتى الآن، يصف المدرِّسون قاعات دروس تطير فيها "الأشياء" من المقاعد في اتجاه المعلِّمين. أما هؤلاء فهم لا يدخلون صفوفهم من دون أن يحضِّروا أجهزتهم الخليوية لطلب الشرطة عند اللزوم. من العبث استدعاء أولياء الأمور لأنهم لن يأتوا. إذا جاؤوا، لا يمكن التكلم معهم لأنهم لا يفهمون الألمانية. أما العقاب فقد تحوَّل حافزًا بدلاً من أن يكون رادعًا. ذلك أن التلاميذ أصبحوا يتباهون بضخامة العقوبة التي تُفرَض عليهم، ويروحون يستعرضونها بين أقرانهم في شوارع الحي... الخ. هناك حل واحد ذكرته الرسالة، غير الغلق، هو تغيير "التركيبة النسبية" للتلاميذ باعتبار أصولهم. ثمة ما يقارب خمسة وثمانين في المئة منهم أجانب، بينهم خمسة وثلاثون في المئة عرب، وخمسة وعشرون أتراك ... إلخ.
الكائن الخرافي يحرس "مدرسة رتلي". المجلة الشهيرة نفسها، "دير شبيغل"، تحدثت إلى فلهلم هايتماير، الذي شهرته أبحاث معهده في بيلفلد حول العنف والصراع الاجتماعي، وخصوصًا ظاهرة العنف لدى الشبيبة النازية الجديدة، والتي أدت إلى تأسيس مدرسة سوسيولوجية خاصة تدعى "مدرسة بيلفلد". سألته المجلة عن تشخيصه لحالة "تلاميذ رتلي"، فبدأ بالسبب الاجتماعي المعروف، فهم في مستوى تعليمي يجعل آفاق مستقبل مهني مقبول، بحسب معايير سوق العمل الألمانية، معدومة عمليًا، مما يولِّد ليس الإحساس بالفشل فحسب، بل الخوف من المستقبل أيضًا. لقد فقدوا إمكان السيطرة على اتجاه تطوُّرهم، إن لم يكن اليأس من إمكان ذلك التطور أصلاً، كأشخاص منتجين اجتماعيًا. المراهق يتخلَّص من خوفه الذاتي بزرعه في عيون الآخرين. وعندما يرى هذا الخوف في عيونهم، وهم السلطة التي ينبغي أن يخافها في الواقع الفعلي، أقصد المعلِّمين، يتعملق في داخله الإحساس بالسلطة والقوة المفقودين واقعيًا. إن العنف هنا ليس فقط نتيجة سلبية لوضع عائلة عربية مهاجرة معزولة وغير فعَّالة وغير منتجة اجتماعيًا، إنما له مفعول إيجابي لا شك فيه بالنسبة إلى المراهق. إنه حل لمشكلة "تحقيق الذات" المستحيلة في وسط العائلة أو لدى المعلِّمين، بالحصول على نتائج مدرسية جيدة مثلاً. المراهق في هذه المرحلة يحتاج إلى "الاعتراف" بأهميته وبضرورة وجوده وبأنه محبوب ومحترم. وهذا لا يتوافر إلا في الشلَّة أو العصابة التي يجمع أفرادَها عجزُهم عن الاندماج في العائلة والمدرسة، ومن ثم حرمانهم من حب هاتين المؤسستين و"اعترافهما". العنف يؤمن لهؤلاء، لا إعادة الإحساس بالذات الفعَّالة فحسب، بل بالحب أيضًا. من دون أن ننسى "النعم" الأخرى للوجود في الشلَّة العنيفة، مثل إشباع الجوع إلى الانتماء، والتمتع بهويَّة مرهوبة بدلاً من هوية العائلة الممزَّقة أصلاً، وهوية المجتمع التي لا تزال غريبة. إن وجودهم "يعبِّر" عن نفسه أخيرًا، تعبيرًا لا يمكن أن يكون هادئًا. إنهم لا يملكون لغة التعبير الهادئ، فهم ليسوا أعضاء في أوركسترا المجتمع.
زرت هذه المدرسة ثلاث مرات، اثنتين منها بدواعي العمل مع أولئك المنحرفين، والثالثة لكتابة هذا المقال. الجديد الذي وجدته هو لوحة علَّقها بعض عقلاء الحي بلا شك على التمثال الضخم للكائن الخرافي الذي "يحرس" مداخل المدرسة. اللوحة تطلب من التلاميذ، لا علامات جيدة، بل فقط "أن يتفاهموا". أي أن تتوقف معارك الشوارع فيما بينهم. ذلك الكائن الخرافي الذي يشبه الضفدع، ليس إلا واحدًا من آلاف الأمثلة التي ينبغي أن "يعبِّر" من خلالها الشباب، أو يعبَّر لهم (بفتح الباء). إنها الجمالية البديلة التي لم تكتف بالقطع مع المبادئ الشكلية القديمة، كالتناسب والمنظور مثلاً، والتي ظلت تُحترَم حتى بداية القرن العشرين، بل تخطت ذلك إلى القطع مع الجمال المعياري قبل كل شيء. وإذا كان من المغري أن نسمِّيها "جماليات الأزمة"، فعلينا ألا ننسى أنها استمرت في الوجود، بل ازدهرت، في أوقات الرخاء أيضًا. 2 لكننا، وبشيء من الوقاحة التنظيرية، يمكن أن نعمِّم وندَّعي أن "التعبيرية" الألمانية بشكل عام تعود إلى المشهد الفني بقوة. كما يمكن للمتأمل في ما يُعلَّق على حيطان المعارض ويُنصَب في قاعاتها، أن يستنتج الألوان القوية والقطع مع كل المعايير التقليدية، هنا في بلد الفلسفة المثالية! العدد الأخير من مجلة art الفنية يحمل عنوان "سرُّ كيرشنر" ويتعرَّض لا لشيخ التعبيريين الألمان، إرنست لودفيغ كيرشنر، وسرُّ عشيقاته من القاصرات اللاتي كان يزوِّر أعمارهن، ولا لكونه كان ينشر تعليقات حول أعماله هو بإسم فرنسي مستعار فحسب، ولكن يتعرض لحقائق أخرى أكثر أهمية ولا علاقة لها بفضائح البورجوازية، منها مثلاً أنه ليس ثمة من يجادل في مركزية فن كيرشنر في الثروة الذهنية الألمانية، ولذلك تنتصب إحدى كبرى لوحاته عمال المعادن يوم الأحد، في مجلس الحكومة (المستشارية). اختار اللوحة المستشار الاشتراكي الديموقراطي هيلموت شميت وحافظ على وجودها كل من تلاه من محافظين واشتراكيين ديموقراطيين. هناك معرض متنقل يدور الآن في ألمانيا لمئة وسبعين عملاً من أعماله التي قاربت السبعمئة، قبل أن ينتحر عام 1938. كما أن ثمة معرضًا ثابتًا يحمل الاسم نفسه الذي أطلقه على فريق عمله، الذي ضم في جملة من ضمَّهم، إريش هيكل وأوتو موللر وبش شتاين وشمت روتلوف، واسم المعرض الجسر Brücke بالألمانية.
إلى هذا المعرض بالذات ذهبتُ، حيث أسلمت نفسي لرياح "التعبير" ثلاث ساعات كادت خلالها الدوائر والألوان الخافتة تختفيان من مخيلتي لتحتل الزوايا الحادة والألوان الصاخبة مكانهما. بعدها أحسستُ بأنني أفهم بعض الظواهر الغريبة التي تجري هنا بطريقة أفضل، في مقدمها كنيسة الحي نفسه التي صممها معماري ينتمي إلى المدرسة نفسها، كما يمكن الزائر أن يقرأ في وثائقها، حيث تختفي الدائريات والأقواس وتصبح الكنيسة برجًا مضلَّعًا "يكسر" السماء بدلا من أن يلامسها. منها مثلاً، الحقيقة التي أذهلتني عندما زرت قاعة المعارض الضخمة "مبنى مارتن غروبيوس"، حيث تعرض أعمال فريدا كاهلو. لقد احتجت ساعة كاملة لأحصل على بطاقة بسبب الكم الهائل من الحضور. فهل هو قلب الفنانة يراه المشاهد بشكله التشريحي ويكاد يسمعه في كثير من لوحاتها التي معظمها بورتريهات شخصية يصبح فيها الألم طبلاً ترتجُّ لصوته الأرض لا نايًا يثير الحنين الرومنطيقي، كما في الموروث؟ أم هي تلك اللوحات الانتحارية، ومنها اللوحة التي اختيرت للإعلان عن المعرض، حيث تلتف أغصان شجرة حول عنق الفنانة ويتدلى من عنقها طائر ميت كقلادة؟ أيًّا يكن الدافع للاهتمام بالرسامة المكسيكية، وعلى رغم الاختلاف في التكنيك والأسلوب الفني بين كاهلو الأقرب إلى السوريالية وكيرشنر التعبيري، فقد قرر الناس أنهما، هما بالذات من "يعبِّر" عنهم، في أيام الأزمة هذه. إنهما يصرخان، يستفزَّان الحس المباشر، يشهران عدوانية الجمال، العدوانية الملوَّنة. الأول مستمتعًا والثانية متألمة. هل نستغرب بعد ذلك إذا قرأنا عن الانتشار الكبير لثقافة الجنس السادو–مازوخي إلى درجة أن رجال الأعمال أصبحوا من أهم زبائنه؟ هكذا يمكن أن نفهم أيضًا من أي زاوية يقرأ جمهور الـ"فايس بوك"، نيتشه هذه الأيام. فبحسب إحصاءات مجلة التسايت Die Zeit يهتم بنيتشه حوالي المئة وخمسين ألفًا من زبائن ذلك "المقهى الاكتروني"، وليسوا كلهم سطحيِّين على رغم أن أكثريتهم من الشباب كما نتوقع، بينما لا يتجاوز الاهتمام بشيلر الألف وأربعمئة، على رغم أن العام الماضي كان عام شيلر كما نعلم. نعم، إنها إرادة القوة التي تحدث عنها نيتشه، ربما وبالضبط بسبب الإحساس بفقدانها. القانون النفسي نفسه الذي أشار إليه السوسيولوجي هايتماير، وإن في سياق آخر. أو هكذا تبدو الأمور لمن يسلِّم نفسه لتيار التداعي.
3 لكن المسألة قد تتخذ بعدًا أوسع إذا بقينا في إطار فكرة "العودة إلى التعبيرية". تنقل المجلة الفنية المشار إليها أعلاه جزءًا من "المانيفستو" الذي أعلنه كيرشنر، وهو كما يأتي: "ينتمي إلينا كل من يعكس ما يدفعه إلى الخلق الفني عكسًا مباشرًا وغير زائف." إنها دعوة إلى تمزيق كل الأقنعة وإعادة الاعتبار إلى الانفعال الأول. يبدو أن هذه الجملة الأخيرة يمكن أن تلعب دور "الملاط الذهني" الذي يربط ظواهر معاصرة "معلمنة" من المستحيل جمعها بدونه. عندها يصبح من الممكن أن نتحدث عن قاسم مشترك بين فن كيرشنر وفريدا كاهلو، وقصة السفاح المصري الأخيرة في لبنان وما تبعها سحلاً وصلبًا وتصويرًا بعد الصلب، وعودة نيتشه ليصبح أكثر الفلاسفة شعبية في أوروبا، وطغيان الفقه الوهابي، وفتاوى مشايخه على الإنترنت وفي الشارع، ووصول أوقح الفاشيين المتعصبين إلى رتبة وزير خارجية في اسرائيل، وانتشار ظاهرة القتل العشوائي في المدارس الثانوية "الراقية" في أميركا وأوروبا على أيدي مراهقين مدجَّجين بالسلاح، وعودة ازدهار إنتاج أفلام مصاصي الدماء؟ أخيرًا، هل نبالغ كثيرًا إذا شطَّ بنا التفكير في سياق اللحظة الفكرية نفسها، فعنَّ على بالنا مغني "الراب" الذي استغنى عما كان أساس الأغنية، كما فهمتها البشرية حتى الآن، أي الموسيقى والشعر، فصارت موسيقاه إيقاعًا إلكترونيًا يختاره من الكومبيوتر بضربة واحدة على لوحة "اللاب توب" وصار شعره وصلة طويلة من السباب والشكوى، أو حتى "اللايدي غاغا" مثلاً، حيث الدرجة الأخيرة في اختصار الأداء الغنائي إلى تعرٍّ، والتي أصبحت من الشهرة بحيث سمَّت فرقة جديدة نفسها "أنتي غاغا". أو، أخيرًا، تلك الموسيقى المعدنية Heavy metal التي ألغت حتى الإيقاع؟ 4 لقد انتهت التداعيات السالفة بالموسيقى المعدنية، أي بما يقتل كل إحساس بالحياة. أي بعكس ما يريده التعبيريون. لعل هذا التناقض هو تناقض مرحلة الأزمة نفسها التي نعيشها. لكن مجتمعًا قرر أن "يعبِّر" عن انفعالاته لا أن يكبتها، يستطيع، حتى في أسوأ أزماته، أن يوظِّف "عدوانيته الملوَّنة" لبثِّ الحرارة في حبِّه ولبثِّ الحياة في حريته، وهو المتهم بأنه بارد في الأول ومتصلِّب في الثانية. وهذان، الحب والحرية، هما بالذات، بحسب السوسيولوجي هايتماير، ما يبحث عنه المراهقون العرب في " مدرسة رتلي" البرلينية. برلين *** *** *** النهار
|
|
|