|
المشروع الفكري٭
حوار مع ندره اليازجي
ملحم رضوان: كتبت وشاركت في العديد من المحاضرات والندوات والمؤتمرات المعنية بالفلسفة وعلم النفس والعلم والحكمة لسنوات طويلة. في هذا الإطار، ما هي أبعاد مشروعك الفكري الذي علمت وتعمل على تحقيقه؟ ندره اليازجي: في مرحلة مبكرة من حياتي، إذ لم أكن قد تجاوزت السادسة عشرة من عمري، اختبرت تجربة فكرية تمثَّلت في إرادة حرة وواعية، أكَّدت، على نحو يقين، على ضرورة المعرفة والحياة المتسامية إلى تحقيق وجودي الإنساني والكوني. في تلك المرحلة الأولى، التي أمدَّتني بالمعرفة، وأعني الفرصة التي سنحت لي إمكانية الاطلاع على أنواع المعارف، أدركت الغاية العظمى التي سعيت وما زلت أسعى إلى تحقيقها في حياتي. في تلك المرحلة التأملية من حياتي، تيقنت أن الغاية الأسمى والمغزى الحقيقي لوجود الإنسان على كوكب الأرض يكمنان في الوعي الذي يشمل المعرفة، والمحبَّة والفضيلة. وفي سبيل تحقيق هذه الغاية، التي جعلتها هدفًا واقعيًا لتحقيق مثال إنساني يتسامى على نحو دائم، وجدت طريقي، واتخذت قراري الذي تضمَّن التأكيد على البحث عن الحقيقة في شمولية أبعادها ونطاقاتها والسعي إلى معرفة جوهرها. عندئذ، بدأت أطلع، على نحو متعمِّق، على المعارف الإنسانية العديدة والمتنوِّعة. ولما كنت قد جعلت من المثال الأخلاقي، الذي يشير إلى الواقع كما يجب أن يكون، غاية تتكامل في إطارها المعارف التي كنت أسعى إلى تمثُّلها واحتوائها لتصبح طاقة فاعلة في كياني، فإنني علَّمت نفسي أن أحيا في الواقع الاجتماعي. علمت أنه يجب علي أن أُحدث تأليفًا بينها يؤكِّد على وجود وحدة ضمنية وشاملة تجمع العقول البشرية في حقيقة واحدة. بدأت معرفتي تتحقَّق في الاختصاص الذي كنت أهيئ نفسي وعقلي له. وقد انتهى بي هذا التوجُّه إلى دراسة علم الاقتصاد والسياسة. ويؤلمني، ويُحتمل أن يسعدني أن أقول: إني لم أجد في هذا الاختصاص ما يحقِّق غايتي التي أردتها أن تكون دراسة وافية للمعارف الإنسانية التي تجعل من علم الاقتصاد والسياسة غاية وليس وسيلة. والحقُّ إني كنت أسعى إلى تلقيح هذا العلم بالقيم الإنسانية والأخلاقية. وبكلمة الأخلاق أعني الواقع كما يجب أن يكون. عندئذ، وجهت عقلي إلى دراسة الفلسفة بأنواعها فروعها واتجاهاتها التي وجَّهتني، بدورها، إلى دراسة علم النفس العام الذي انتهى إلى دراسة علم النفس التكامل وعلم نفس الأعماق الموحِّد للفعاليات والوظائف النفسية المتحقِّقة في كائن متوازن، ومتكامل وغير منقسم في جوهره وكيانه. ولما كنت أسعى إلى تحقيق ما دعوته "الحياة الفاضلة والمتسامية"، فقد درست القضايا اللاهوتية الكبرى، وتعمَّقت في فهم مضمون الوحدة الأصلية التي تتجلى في حكمة الأديان عامة وليس في طروحاتها الطقسية والشرائعية. ونتيجة لهذا الجهد المبذول باتجاه المعرفة والفضيلة، وجهت عقلي إلى دراسة الأساطير التي اعتبرتها، بعد فهم رمزيتها وسرِّيتها، الحكمة البدئية السابقة للعقل الفلسفي الذي بدأ يصنِّف وينمذج المعرفة المؤطرة ضمن منطق صاعد ومتماسك. وفي المرحلة الأخيرة من حياتي، أي منذ ما يقارب الثلاثين عامًا، أدركت أن معرفتي لن تكتمل إلا بدراسة فلسفة العلم. وبالفعل، انصب اهتمامي على دراسة العلوم العلوم عامة، والفيزيائية منها خاصة، الأمر الذي ساعد على تأسيس عقلانية متسامية تعاين الحقيقة التي تبحث عنها في التأليف الذي تُحدثه للمعارف الإنسانية. في هذه البيئة الفكرية التأليفية والشاملة، جعلت عقلي حديقة أزرع فيها جميع العلوم والمبادئ التي كوَّنت، وما زالت تكوِّن، مني إنسانًا أرى الإنسانية كلها في كياني، والكون كله في داخلي، وأسعى إلى تحقيق فضيلة عقلانية ووعي يرشدني إلى محبَّة الإنسان دون النظر إلى لونه أو عرقه أو عنصره أو قوميته أو مذهبه أو فكره أو معتقده. في محاضراتي، كما في مؤلفاتي، هدفت إلى تقديم وعرض أنواع المعارف التي ألَّفتها في كياني على نحو متكامل أو موحِّد. ولما كانت المعارف التي درستها وزرعتها في كياني متنوِّعة، فإن محاضراتي، بالتالي، أصبحت متنوِّعة. وعلى الرغم من تنوُّعها، سعيت جاهدًا إلى جمعها في نسيج واحد متنوع ألوان خيوط الحياكة. ومع ذلك، واجهتني صعوبات كثيرة تُرد إلى أن العقل العام السائد يصعب عليه الاعتراف بمبادئ العقول الأخرى وأنواع المعارف المتمايزة. هكذا، سعيت إلى رسم صورة جميلة تتكامل فيها أنواع الأشكال والألوان، وتتألف فيها المثالية الإنسانية. هذا هو ما قمت به ولا أزال مستمرًا بالقيام به وتطبيقه في الواقع الاجتماعي والإنساني. م. ر.: في ضوء ما ترجمت من الكتب الفلسفية والعلمية إلى اللغة العربية، أين تكمن الصعوبة في الترجمة، وهل يمكن القيام بترجمة صحيحة وموثقة؟ ن. ي.: لم أجعل مفهوم "الترجمة المباشرة" وحدها سبيلاً للتعبير عن فكري أو موقفي. وإن ما أقصده بمصطلح أو تعبير "الترجمة المباشرة" يكمن في عملية النقل، أي الترجمة المتحقِّقة على صعيد نقل مضمون كتاب وُضع بلغة معينة إلى الكتاب ذاته وقد وُضع بلغة أخرى. أما "الترجمة النوعية" أو غير المباشرة أو "الترجمة الفكرية" فإنها تشير إلى اقتباس الآراء والمبادئ والنظريات والعقائد والفلسفات والآداب والعلوم... إلخ، ودراستها على نحو تصبح واضحة في عقل المترجم، وتأليفها في كتاب أو نقد أو بحث أو شرح. هذا، لأن الباحث الذي يلمُّ بحقائق الدراسات الأخرى، العالمية والخاصة، يتأثر بهذه الدراسات، ويعبِّر عنها بعد أن يكون قد لخَّصها وفهمها وألَّفها على نحوٍ واع أو على نحو واضح في عمق كيانه. وعلى الرغم من أصالة الأعمال الفكرية التي يبدعها أحد الكتاب أو أحد الباحثين، لكن إبداعه وأصالة فكره لا بد أن يكون تعبيرًا مباشرًا أو غير مباشر عن مجموعة الأعمال الفكرية والفلسفية والعلمية والأدبية وغيرها، التي تأثر بها سابقًا وأمدته بالقدرة على التأليف. وعلى هذا الأساس، يتأثر الإنسان المبدع بالتيارات الفكرية العديدة التي درسها، ويترجمها على نحو معين إلى لغته الخاصة وإبداعه التأليفي الخاص. لما كنت أتجاوز مفهوم الترجمة النوعية أو الفكرية أو غير المباشرة إلى الترجمة المباشرة أو النقل، فإني أركز بحثي على المفهوم المعتمد لدى غالبية المترجمين أو غالبية الناس. وعلى الرغم من أنني لم أقم بقسط واف في نطاق الترجمة المباشرة، لكنني أستطيع أن أتحدَّث عن هذا المفهوم من خلال تجربتي في ترجمة أو نقل سبعة كتب من اللغة الإنكليزية والفرنسية إلى اللغة العربية. وعلى الرغم من المجهود الكبير الذي بذلته لتحقيق أو نقل "ترجمة مباشرة" دقيقة وواضحة ومعبِّرة، وعلى الرغم من اعتراف بعضهم بجدارة الترجمة واستيفاء حقها وتوافقها مع مضامين الكتب المترجمة، لكنني أعترف بأنني، بعد انقضاء فترة زمنية على هذه الترجمة، أدركت، أو بالحري اكتشفت، بعد إعادة قراءة ما قمت بترجمته، أنني لم أفِ الترجمة حقها الكامل. عندئذ، سألت نفسي: كيف تكون الترجمة تعبيرًا كاملاً لكتاب مترجم أو لفكرة مترجمة؟ ما هي العوامل التي تتألف في تكامل وتناسق لتحقيق ترجمة مطابقة للأصل؟ أدركت أن الترجمة المباشرة أو غير المباشرة تتطلَّب توافر المقومات الثلاثة التالية: 1. إتقان اللغة الأجنبية موضوع الترجمة واللغة العربية موضوع التعبير، واستيعاب اللغة الأجنبية في نطاق الإتيمولوجي والفيلولوجي، على نحوٍ يتحقَّق المعنى المضمون في الكتاب المترجم ونقله بأمانة وصدق. 2. بالإضافة إلى امتلاك ناصية اللغة، التي يسعى المترجم إلى نقل موضوع الكتاب، يبرز عنصر جديد يتمثَّل في فهم عميق لموضوع الكتاب ومحتواه الذي يريد المترجم وضعه في صيغة جديدة يعبِّر عنها في لغة أخرى، فلكي يترجم أحدهم محاورة سقراط، على سبيل المثال، فلا بدَّ وأن يكون قد قرأ ودرس تلك المحاورة، وأدرك مضمون العديد من محاوراته، واستوعب مضامينها. هذا، لأن معرفة أو فهم ما جاء في تلك المحاورة، التي يسعى إلى ترجمتها، مرهون بفهم مضامين محاورات أخرى ألَّفها سقراط. وهكذا، لا تتوافر الترجمة الدقيقة والكاملة، ولا يتجلَّى وضوحها إلا بتوافر مماثل لفهم البنية الفكرية الكاملة لمحاورات سقراط. والحقُّ إن تعمقي بدراسة مفكر أو عالم قمت بترجمة عمل من أعاله، جعلني أكثر قدرة على إعادة ترجمة ذلك العمل. وهكذا، يضاف الفهم المعمَّق لكلِّية أعمال المفكر أو الكاتب إلى إتقان اللغة موضوع الترجمة واللغة موضوع النقل والتعبير. 3. يقتضي مفهوم الترجمة الأخذ بعين الاعتبار مستوى الوعي الذي يتميَّز به المترجم، إن كانت عملية الترجمة مباشرة أو غير مباشرة، حرفية أو معنوية. هذا، لأن مستوى الوعي يعيِّن وضوح الترجمة ويقرر دقتها أو صحَّتها. والحق إن المترجم الذي يتميَّز بمستوى وعي رفيع، وواسع، وواضح وعميق، يكون أكثر قدرة من غيره على تمثُّل الأفكار التي يسعى إلى ترجمتها والتعبير عنها بفكر واضح، ولغة واضحة وأسلوب جلي. يؤسفني أن أقول: ثمة ترجمات مباشرة أو غير مباشرة، أساءت إلى مضامين الكتب موضوع الترجمة نتيجة لمستوى وعي المترجم المتدني، أو نتيجة لوجهة نظره الضيقة التي يقحمها أثناء القيام بالترجمة أو نتيجة لسوء فهمه لموضوع أو عدم تقبُّله له أو عدم الاعتراف بوجهة نظر الآخر. ولهذه الأسباب، يجب على المترجم أن يتصف بقدرة عقلية شاملة لما يريد ترجمته. م. ر.: ما هو الدور الذي تؤديه الترجمة في بناء النسيج الفكري والثقافي العربي؟ ن. ي.: يمكنني، وأنا أتحدَّث عن الدور الذي تؤديه الترجمة للبناء الفكري والثقافي العربي، أن أقول: إن الترجمة الواعية، الماثلة في العناصر الثلاثة المذكورة في الإجابة السابقة، سبيل هام لنقل التراث الحضاري والثقافي والعلمي والأدبي والفكري والفلسفي إلى شعب معيَّن أو إلى شعوب معينة. ولما كنت أعترف بتفاعل التنوُّع الحضاري واتصال الخصائص الفكرية والثقافية والحضارية والعلمية التي تتميَّز بها أمة من الأمم، ونقلها أو ترجمتها إلى لغة أمة أخرى، فإنني أعترف أيضًا بأهمية الترجمة لتحقيق تواصل وتفاهم بين الشعوب. وهكذا، يتصل الخاص مع العام، وتلتقي العقول، التي كوَّنت ثقافتها الخاصة، مع العقول الأخرى التي كونت خصوصيتها الذاتية. في هذا التواصل والاتصال والانفتاح العقلي تُبنى الجسور بين الحضارات والثقافات. وعلى هذا الأساس، يصبح العقل الإنساني منفتحًا على التيارات الفكرية المتنوِّعة، ويتراجع التعصُّب وضيق الأفق الفكري. ومن الأهمية بمكان أن أقول: تحتفظ الثقافة بخصوصيتها، وتسعى إلى توسيع أفق هذه الخصوصية لتمتد وتتسع إلى خصوصية الثقافات الأخرى. وبالفعل، يساعد هذا الاتصال والتفاهم والانفتاح على تعميق هذه الخصوصية لسبب أصيل هو أنها تقتبس من المآثر الخاصة الأخرى، وتتوسع على نحو امتداد إلى تلك الخصوصيات... تلك هي الفائدة التي ترجوها الأمة التي تسعى إلى حياكة خيوط نسيجها الثقافي، وإلى هذه العبارة أضيف ما يلي: لا يتحقَّق هذا الأمر إلا في نطاق عقل منفتح، مكوِّن وقادر على الاعتراف بالتنوُّع. م. ر.: عالجت مقولة الإنسان في كيانه وجوهره وحقيقته. كيف فهمت جوهر الإنسان وحقيقته؟ وكيف لأي إنسان أن يعي جوهر نفسه وحقيقة كيانه؟ ن. ي.: في فصل من فصول مؤلف من مؤلفاتي، تحدثت عن المعرفة بوصفها سبيلاً إلى التكامل، وأكدت أن هذا التكامل هو تكامل الوظائف النفسية في مجال حيوي هادئ ومتوازن تتحقَّق فيه معرفة النفس. وعلى هذا الأساس، تبدأ هذه المعرفة من سؤال يطرحه الإنسان على نفسه، ويتمثَّل في المقولات الثلاث المتصلة: من أنا وما أنا؟ لماذا وُجدت وكيف؟ ما الغاية من وجودي، أي ما الغاية التي يجب عليَّ تحقيقها؟ بالإضافة إلى هذا التساؤل الثلاثي البعد والموحد في مضمونه، يريد الإنسان أن يعرف كل ما يمت إلى وجوده بصلة ليتسائل من جديد: هل أنا كائن محدود أم غير محدود؟ هل أنا مجرَّد فرد محتجز ضمن غلافات قوقعة مركزية الأنا، أم أنا كائن قادر على تجاوز فرديتي إلى كيان أعلى وأسمى؟ هل أنا كائن حُتِّم عليه البقاء مقيَّدًا بإشراطات عديدة تقلِّص وجودي إلى اللاشيء أم أنا كائن حرٌّ يفعل فيه الوعي الذي يساعده على الانعتاق الدائم من الأسوار النفسية الانفعالية التي تحيط بذاته على نحوٍ تكتمل فيه الحياة والوعي الكوني، ويأبى أن يكون غير مكتمل؟ ألا يشير كياني إلى أنني كائن عارف يتميَّز بعقلانية متساوية على نحو دائم؟ في هذه المقولة، تتوطد معرفة النفس التي هي المدخل إلى معرفة الطبيعة والكون والحياة، وكل ما يتصل بالوجود إلى ما لا نهاية. يؤلمني أن أقول: إن الإنسان يعجز عن فهم ومعرفة حقيقة جوهره ما لم يكن قادرًا، بعقلانية وعيه، أن يتحرَّر من الإشراطات والانفعالات العديدة والكثيرة التي وُضعت له لتكون قيودًا تحول دون تحقيق كيانه. فما من شيء وضعي إلا ويؤكِّد على لاعقلانية الوجود، ويشير إلى النقص المهيمن على كيانه ووجوده، وإلى التفاهة واللاجدوى والعبث. ونادرة هي المبادئ التي تساعده على السمو إلى ما هو أعلى وأسمى. وفي هذا السياق، علمت أن الإنسان يتأرجح بين مقاومة سالبة تتجسد في الإشراطات التي تشده إلى الأدنى، إلى ما يحرمه أو يجرِّده من القيمة والمعنى، ومقاومة إيجابية ترفعه إلى الأعلى، أي إلى الشعور بالقيمة والمعنى. عندما أتعمق في تأمل وجودي وفهمه ووعي كياني، أعلم أنني كائن تتمثَّل فيه الحياة الطبيعية والكونية بأسمى طاقاتها، وأدرك أنني كائن أرضي وكوني في آن واحد. وعندما أتأمل الوجود الذي أحياه، وأعاين العمق المستقر في كياني، أعلم أن الحياة تستحق الجهد، وأن المعرفة هي السبيل الوحيد للولوج إلى محراب الحقيقة. وعندما أعلم أنني غاية بذاتي ولست مجرَّد وسيلة، أفهم أن الغايات العادية والبسيطة، التي تسعى إلى تحقيقها النفوس المحتجزة ضمن قوقعة الأنا، لا تقلل من أهمية وجودي ولا تُلقي بي في أحضان الإحساس بالنقص وعدم الشعور بالقيمة والمعنى في حال عدم الحصول عليها. وعندما أعلم أن الطبيعة والكون بذلا طاقة كبرى ليُبدعا وجودي، أعلم، في الوقت ذاته، أنني الغاية العظمى التي سعى الكون إلى تحقيقها، وبالتالي، أعتبر نفسي غاية الغايات. في هذه الصورة الإيجابية المتكاملة في أبعادها، أعي الحقيقة في جوهرها. وفي هذه الصورة، أشاهد العمق والاتساع اللذين يتميَّز بهما وجودي. وإذ أتأمل هذا العمق والاتساع، أعاين الحقيقة الكونية والأرضية ممثلة في كياني. وفي هذه الحالة، لا تشكِّل الآراء السلبية، التي تهدف إلى تقليص وجودي واختزاله إلى اللاجدوى والعدمية، أي قيمة أو معنى. وعلى غير ذلك، يتسع وجودي وكياني ويتعمقان انطلاقًا من مركزية الأنا إلى مركزية الأسرة والعائلة، إلى مركزية الفئة، إلى مركزية المجتمع، إلى مركزية العالم وإلى مركزية الكون. في هذا العمق والاتساع، أعرف نفسي وأفهم كياني، وأستدعي كل معرفة علمية كانت أم أدبية أم نفسية أم اجتماعية أم فلسفية... إلخ، لتحقيق هذا العمق والاتساع. وعندئذ، أعلم أنني لا أشكل جزءًا معزولاً أو فردًا معزولاً عن اتصالية الوجودات والكيانات لسبب هو أن الجزء يمثل الكلَّ المقلَّص على نحو يكون الكلُّ كامنًا فيه. وهكذا، أمثل الوجود وأفعل في هذا الوجود بوعي لتحقيق الحياة، الأمر الذي يدعوني إلى إجلال الحياة في كياني، وإجلال نفسي، والسعي إلى تحقيقها في عملية المعرفة الصاعدة إلى الوعي الكوني. وفي هذه الصورة، التي رسمتها لنفسي ورسمتها أيضًا للطبيعة والكون في كياني، أجد القيمة والمعنى المضمونين في وجودي. م. ر.: لما كنت تتبنَّى فلسفة التأمل لفهم العالم والكون، فإنني أسأل: هل ترى أن الإنسان في عصر المدنية العدوانية قادر على التأمل؟ ن. ي.: يجدر بي أن أميِّز بدقة بين كلمة التأمل وكلمة الشرود أو الذهول وكلمة التداعي. تشير كلمة الذهول أو الشرود إلى تعليق أو توقف العقل عن عملية التفكير أو المحاكمة الواعية خلال فترة زمنية قد تكون مؤقتة أو مستديمة. ويتجسد هذا الذهول أو الشرود في حالات عديدة كالغضب أو الانفعال الشديد أو الاكتئاب أو النشوة الطاغية المتجاوزة لعتبة معينة، أو الإحباط أو الحيرة الزائدة عن حدها،... إلخ. تشير كلمة التداعي إلى عدم قدرة العقل على الربط بين الأحداث أو الحالات النفسية بحيث أنه يفقد الصلة بينها لعدم قدرته على التركيز. وإضافة إلى ذلك، تعني هذه الكلمة عودة العقل أو اتجاهه إلى ذكريات الماضي وأحداثه على نحو انتقال من ذكرى إلى أخرى أو من حدث إلى حدث دون أن يكون قادرًا أو راغبًا في إحداث صلة بينها. وفي هذه الحالة، يعجز العقل عن التركيز الدقيق أو يتخلى عنه على نحو يكون كالسائح الذي ينتقل من بلد إلى آخر، لكنه يعجز، في النهاية، عن ربط ما شاهده في هذه البلدان، أو إحداث الصلة بينها ليكوِّن صورة تجمع بين المشاهد أثناء الانتقال. هكذا، يكون التداعي عودة إلى ذكريات الماضي واستحضار أحداثه دون التركيز على حدث معين، الأمر الذي يشير إلى سياحة العقل في تلك الأحداث دون التركيز على إحداها. يمكنني الآن أن أتحدَّث عن التأمل في تمايزه عن مفهومي التداعي والذهول أو الشرود. والحق إن التأمل يتحقَّق على مستويين: المستوى النفسي والمستوى العقلي. وفي هذين المستويين، يكون الإنسان قادرًا على التركيز على موضوعه النفسي أو العقلي. وهكذا، يرتبط التأمل بالتركيز ليكون الحلقة الأخيرة الناتجة عن العقل الباحث والفاعل في عملية التفكير. يشير التأمل الناشط، على نحو تركيز على مستوى العقل، إلى تركيز العقل على موضوعه. وفي هذا المنظور، يُقصي العقل أو يُسكت كل انشغال أو انفعال يعوق عملية التركيز. والحق إن هذا التأمل-التركيز يتطلَّب جهدًا كبيرًا. وحقيقة الأمر أن العقل يهتم أو ينتبه إلى أمور عديدة تشغله. ويمكنني أن أشبِّه انشغال العقل بهذه الأمور العديدة بالدائرة التي تصل إليها إسقاطات أشعة مختلفة عديدة. وبالمثل، تصل إلى العقل تيارات أو أحداث عديدة، تأتيه من العالم الداخلي، أي النطاق النفسي، ومن العالم الخارجي. وفي حالة التركيز، يجب على العقل أن يستبعد جميع الانشغالات والانفعالات ليكون قادرًا على توجيه فعاليته إلى الموضوع الذي يريد أن يتأمله، بمعنى أن يتعمق في فهمه له. وإذ يقُصي العقل ضجيج جميع الانفعالات والانشغالات الأخرى، يصبح قادرًا على التركيز التأملي للموضوع الخارجي أو للشعور الداخلي أو للفكرة التي يريد تحقيقها. وعلى سبيل المثال، لا يكون الطالب قادرًا على التركيز أثناء الدراسة إن كان عقله منشغلاً أو منفعلاً بأمور تحول دون استيعاب عقله لما يسعى إلى فهمه، ولا يكتمل تأمله المركز أو فهمه لموضوع دراسته إلا بعد تهدئة انفعاله أو استبعاد انشغالات باله وتوجيه إرادته إلى موضوع دراسته، أي بعد أن يُسكت الضجيج الناتج عن هذه الانفعالات ليكون قادرًا على تأمل موضوعه المتصل بالتركيز. يتمثَّل التأمل الحقيقي في إحداث توافق بين المستويين، العقلي والنفسي. وفي سبيل فهم هذه العلاقة المتوافقة والمتكاملة بين المستويين، أقدم المثل التالي: الشمعة وشعلتها، أي الشمعة وضياؤها الناتج عن اشتعالها. نفترض وجود حالتين أو وضعين يتفاعلان لإحداث إضاءة حقيقية، مركَّزة وثابتة للضوء المنبعث من الشمعة، هما: الشمعة المضيئة التي تمثل العقل، والنطاق أو الوسط المحيط بهذه الشمعة المضيئة الذي يتمثَّل بالنفس. فلكي تضيء الشمعة، بكامل ضياء شعلتها وطاقتها، يجب أن يتحقق ضياؤها في وسط أو محيط أو نطاق هادئ وغير مضطرب يساعد على ثبات الشعلة المضيئة واستمرار ثباتها أي تركيز ضيائها. وإذ ما تعرَّض هذا الوسط لاضطراب، كالنسيم الذي يعصف بها، فإن اضطرابًا مماثلاً يحدث لضياء الشمعة. عندئذ، تفقد الشعلة المضيئة هدوءها أو ثباتها واستقرارها، أي تركيزها، تمامًا كما تفقد قدرتها على الإضاءة الواضحة. وعندئذ، تضطرب نتيجة للاضطراب الذي أحدث الخلل في الوسط المحيط. عندما نشبِّه العقل بالشمعة المضيئة، نعلم أن العقل يتألَّق بطاقة قدرته الكاملة على التفكير المركَّز في وسط نفسي هادئ ومتوازن في وظائفه وأبعاده، وهادئ ومركَّز تمامًا كما تتألق الشمعة المضيئة في وسط أو نطاق هادئ ومستقر. هكذا، يتمثَّل العقل بالشمعة المضيئة، وتتمثَّل النفس بالوسط الهادئ المستقر الذي لا يسمح بتشتت العقل أو عدم تركيزه. في هذا المنظور، ندرك المعنى الحقيقي للتأمل على المستوى النفسي والعقلي. والحق إن الإنسان المبدع متأمل يركز طاقته النفسية والعقلية على موضوع إبداعه. إنه عقل هادئ ونفس هادئة. ولا يتوافر الكمال لتحقيق الإبداع، أو بالأحرى، لا يكون قادرًا على الإبداع إلا في وضع متكامل على المستوى النفسي والمستوى العقلي. هذا، لأن الإبداع في العلم، وفي أي موضوع إبداعي آخر، لا يتحقق إلا في عقل يركز طاقته الفكرية على موضوع البحث، ويحيا أو يتألق في وسط نفسي هادئ ومستقر لا تعكره الانفعالات والانشغالات. في هذا المجال، يسعدني أن أقدم المثال التالي المعبِّر عن التأمل في حالة القراءة أو المشاهدة أو السمع لكي نفهم حقيقة التأمل الذي يشير إلى التعمُّق في الموضوع: - أعيد النظر في ما أقرأ، وأتأمل الموضوع في عمقه نتيجة لتركيز عقلي في وسط هدوء نفسي يساعد العقل على التركيز. - أعيد النظر في ما أرى وأشاهد، وأتأمل الموضوع في عمقه بعد تركيز عقلي ونفسي هادئ وواضح وخال من الانفعالات، يساعد العقل على التركيز. - أعيد النظر في ما أسمع، وأتأمل الموضوع بعد تركيز عقلي وهدوء نفسي يساعد العقل على التركيز. في هذا الفهم المعمَّق لمفهوم التأمل، قررت أن أحيا وأتمثل هذا التأمل المركز في النطاقات الفكرية الشاملة، وذلك لكي أتألق في حياة نفسية وعقلية متوازنة، وفي وسط حدسي ومنطقي منسجم ومتكامل. في هذا الفهم المعمَّق، أصبحت مدركًا لحقيقة التأمل العقلي في نطاق العلم الذي يشير إلى أن العالِم إنسان يركز عقله، ويتأمل نتائج هذا التركيز ليؤلف النظرية التي يسعى إلى تحقيقها. في نطاق التقنية، يركِّز التقني عقله في تأمل إبداعي ليطوِّر ميكانيكية العمل إلى ديناميكيته. لذا، كان التأمل، الذي هو تركيز العقل على موضوعه الداخلي أو الخارجي في وسط نفسي هادئ، الوسيلة الوحيدة المؤدية إلى الإبداع في أي نطاق فكري. م. ر.: هل ترى أن الحياة، في زمننا الحاضر تتيح لنا فرصة التأمل؟ ن. ي.: نعم، بالتأكيد. عندما نجرد مفهوم التأمل من انفعالية الذهول أو الشرود أو التداعي، ندرك أنه عملية عقلية ناشطة وفعالة حتى في أكثر الأوقات والأحداث اضطرابًا كتلك التي نحياها ونعاني منها في الوقت الحاضر. م. ر.: كيف تفهم مبدأ الغنوص في إبداع شخصية مستقرة على الصعيد النفسي والعقلي؟ ن. ي.: ذكرت في سؤالك عبارة الاستقرار على الصعيد النفسي والعقلي. والحق إن ما سعيت إلى شرحه وتوضيحه سابقًا يشير إلى هذا الاستقرار. لذا، لا بد من تحقيق استقرار على الصعيد العقلي والنفسي، وذلك لكي يكون الإنسان متوازنًا ومتكاملاً في كيانه. في سبيل توضيح أمثل لكلمة الغنوص، أقول: الغنوص هو العرفان، أي المعرفة المتسامية إلى الوعي. وإذا ما تحقَّق التوازن والتكامل على صعيد العقل والنفس، استطاع الإنسان أن يسمو بمعرفته، علمية كانت أم فلسفية أم أدبية... إلخ، إلى مستوى العقل الواعي أي العرفان الذي يساعده على الاستغراق في حقائق الأشياء والمواضيع والكيانات، والولوج إلى مستوى النفس المطمئنة التي تساعده على السمو إلى مستويات أعلى في نطاق المعرفة. في هذا المنظور، أشاهد الإنسان العارف، أي إنسان الغنوص والعرفان الذي يتألَّق في كيان متوازن ومتكامل على مستوى النفس والعقل. عندما أتأمل مقولة العرفان بعقل مركِّز، أي عندما أركِّز كياني على صعيد التوازن النفسي والعقلي، أدرك أن المثالية الشرقية قد دعت، في فلسفتها أو حكمتها، إلى العرفان الذي يتحقق في الكيان المتكامل أو المتحد على الصعيد العقلي والنفسي. والحق إني، في مؤلفاتي، تحدثت عن علم نفس الأعماق أو علم النفس التكاملي. وقد تبيَّن لي أن أصول أو جذور أو ينابيع هذا العلم مضمونة في علم النفس الشرقي الذي يدعو إلى التكامل والتوازن، وذلك لكي لا ينقسم الإنسان إلى قسمين أو أكثر. فقد سعت الحكمة الشرقية، أي العرفانية، إلى إنجاز علم نفس متكامل في أبعاده ووظائفه، ومتحد في كيان الإنسان. في هذا المفهوم أو المقولة، تصبح شخصية الإنسان مستقرة على نحو تتوازن فيها فعالياتها ووظائفها. م. ر.: ثمة أخطار وتحديات تتهدد الثقافة العربية. ما هو دور المثقف العربي في مواجهة هذه الأخطار والتحديات؟ ن. ي.: أرى أنك في هذا السؤال ذكرت كلمات تجسدت بالتحدي والخطر والتهديد. في هذا السياق، أرغب في التعليق على هذه الكلمات لأوضح الغاية المقصودة من ذكرها، أي المعنى الحقيقي المضمون فيها. يؤكِّد توينبي على دور التحدي في عملية بناء الحضارة الإنسانية. والحق إن الوجود الإنساني المميز بعقل يدرس ويحاكم هو وجود متحدٍّ. لقد وُجد العقل في وجود طبيعي مُعطى، مفتَرض ومسَّلم به على نحو وجود بالقوة وبالإمكان تبرره فلسفة الضرورة، ويجب عليه أن يحوله إلى وجوب، أي إلى ما يجب أن يكون. وبالفعل، يشكل التحدي الطاقة الفاعلة لتحقيق وجود أفضل يتجاوز المفهوم السلبي للقدر والحتمية. وفي هذا المنظور، أقول: إن فهم كلمة تحدي، بوصفها تنشيطًا وتفعيلاً لطاقة كامنة تسعى إلى الفعل والتطبيق، يُلغى الخوف أو التهديد أو الخطر الذي نُلحقه بهذه الكلمة. هذا، لأن الثقافة أو الحضارة، في حقيقة جوهرها، لا تتعرض للخطر إن كانت فعلاً إنسانيًا يتبناه العقل المنفتح والمكوِّن في مضمار تنشيط الطاقة عبر إرادة حرَّة وواعية. في هذا السياق، أطرح على نفسي السؤال التالي: هل نتمتع أو نتميَّز بثقافة حقيقية قادرة على مقاومة أو تجاوز ما ندعوه الأخطار والتهديدات والصعوبات؟ هل نمثِّل ثقافة حضارية فاعلة في شمولية الثقافة الإنسانية، وفي المبادئ الحافلة بالقيمة والمعنى، والعقل المنطقي والعلمي؟ هل نمتلئ، في عمقنا، بثقافة تقف في وجه تلك التهديات والأخطار والتحديات المزعومة التي يضخمها الخوف من المجهول؟ في دراسة وضعتها، وحملت عنوان السمات العامة للإنسان المثقف والحضاري تحدثت عن "العقل المكوِّن" و"العقل المنفتح". في نطاق العقل المكوِّن، ذكرت ما يلي: يجب ألا يبقى عقل الإنسان المثقف والحاضري منطويًا في غلافات "العقل المكوِّن". هذا، لأن الواجب والضرورة يقضيان بأن يعيد العقل المكوِّن النظر في أكثر الثوابت الفكرية والعقائدية التي أشرطته ليصبح عقلاً منفتحًا. وفي نطاق العقل المنفتح، ذكرت ما يلي: يتفاعل العقل المنفتح، وهو عقل مكوِّن، مع العقول المكوِّنة والمنفتحة الأخرى. فهو يأخذ منها ويعطي على نحوٍ يُبدع منه عقلاً فاعلاً في المجال الإنساني، أي في تنوعات الفعاليات العقلية. أعود من جديد إلى مفهوم التحدي والتعرُّض للخطر والتهديد، لأقول: ما من ثقافة، شرقية كانت أم غربية، إلا وتتعرض لتحدًّ من نوع معين أو لعدم اعتراف بها أو عدم تقدير لها... إلخ. لكنها لا تعبأ للخطر أو التهديد والتحدي المتخيَّل والزائف لسببين: 1. لأنها ثقافة تحافظ على خصوصيتها العرفانية والحضارية المتمايزة والمثمرة. 2. لأنها قادرة على احتواء وتمثُّل التمايزات الثقافية العرفانية والحضارية الأخرى. في هذا المنظور، أستطيع أن أتحدَّث عن دور المثقف العربي، وأقول: يجب على هذا المثقف، الذي يتميَّز بعقل مكوِّن، أن يتمثَّل التمايز الخاص بعرفانه وحضارته وثقافته أولاً، ويتخلَّى عن الدعوات السلبية والسلفية التي تبقيه محتجزًا في نطاق العقل المكوَّن الذي يرفض التطوُّر، ويخاف من الانفتاح ثانيًا. وكذلك، يجب عليه أن يتفاعل مع العقول المكوِّنة الأخرى على نحوٍ حضاري يتمثَّل في إحداث توفيق بين خصوصية حضارته وثقافته وخصوصية الحضارات والثقافات الأخرى ليؤكِّد على شمولية وكونية العقل الإنساني الذي يعترف بالتنوع الثقافي والحضاري ثالثًا. م. ر.: إلى أي حد نستطيع أن نتحدث عن فلسفة عربية أصيلة؟ ما هي ملامح وسمات هذه الفلسفة؟ ن. ي.: يؤسفني أن أقول: إن العقل العربي شغل طاقته الفكرية بالإجتهادات الخاصة بقضايا سلفية، ووضع حدًا لتطوره في مجال الإبداع، وأعاق تقدمه على نحوٍ جعله عاجزًا عن الإبداع على نحو عقل مكوِّن وعقل منفتح. ولما وجد العقل العربي، الذي يسعى إلى الإفصاح عن ذاته في تكوين متقدِّم، عاجزًا عن تحقيق تكوينه، لجأ إلى التصوُّف. ومع ذلك، وقفت الإجتهادات العقائدية الخاصة من العقل العارف والمكوِّن، ومن العقل الصوفي، موقفًا حذرًا أو رافضًا، الأمر الذي أدى إلى تراجع الفكر الفلسفي المحب للحكمة والباحث عن الحقائق الأرضية والكونية. إذا ما أغلفنا الصعوبة الكبرى التي عانى منها، وما زال يعاني منها، العقل العربي الهادف إلى تكوين فلسفة تأخذ بمبادئ التقدُّم القائمة في عملية التكوين المتطوِّر والانفتاح، علمنا أننا نصطدم بصعوبة كبرى أخرى تشير إلى تغليف أو احتجاز العقل الفلسفي الباحث في ثنايا القضايا والمشاكل والأمور التي تمت إلى السلطة بصلة. وفي هذا السياق، نعلم أن العقل الفلسفي الحرَّ قد أُلزمَ أو أجبر واضطر إلى خوض معركة ثنائية في موقفها العدائي من العقل الباحث. فقد خرج مندحرًا أو محبطًا. وأدرك أن القضايا والمسائل المطروحة لم تكن تمت إلى العقل الفلسفي الباحث عن الحقائق بصلة. وهكذا، تجرَّد العقل العربي من كونه عرفانيًا، إذ لم يعد يطرح القضية الفلسفية على بساط البحث، ولم يعد يتحدَّث عن جوهر المعرفة والحقيقة الإنسانية المتطوِّرة إلى مستويات عليا في نطاق الوعي. هكذا، أصبحت الفلسفة نوعًا من الدعابة أو مجرَّد دروس أو محاضرات تُلقى في المدارس أو الجامعات دون أن تكون فعالة في النطاق الإنساني. لقد فقد العقل العربي محبته للحكمة. ثمة صعوبة أخرى حالت دون تكوين عقل فلسفي باحث في حقيقة الحياة تمثَّلت بعدم أو قلة اطلاع المفكرين العرب على المنجزات والنظريات العلمية التي تمت إلى الفلسفة العلمية بصلة. ولما كان العلم، في الوقت الحاضر، عودًا إلى الفلسفة المثالية ومحاولة جريئة لبعث الحكمة بمفهومها الشامل، فإن الإنسان يعجز عن أن يكون فيلسوفًا أو عالم نفس ما لم يكن عارفًا بالمبادئ العلمية النظرية. يمكنني أن أخلص إلى النتيجة التالية: لتكون الفلسفة العربية أصيلة، يجب على العقل العربي أن يكون مكوِّنًا، ومنفتحًا، وضالعًا في العرفان، ومطلعًا على النظريات العلمية التي هي، في مضمونها، فلسفة أو حكمة مطروحة على مستوى التجربة والاختبار. وفي هذا المنظور، يستبعد العقل العربي كل ما يعيقه عن تحقيق الغاية العظمى من وجود الإنسان والممثَّلة بالمعرفة الكامنة في العقل الباحث. م. ر.: في إطار مفهوم الشمولية الإنسانية، حسب ما ورد في كتابك مدخل إلى المبدأ الكلِّي، كيف ترى مفهوم حوار الحضارات؟ ن. ي.: الشمولية الإنسانية مبدأ كوني يكمن في الإنسان. ثمة وحدة تضم أعضاء ووظائف النفس في تفاعل حميم وكلِّي. وهكذا، ندرك كيف يفعل كل عضو في الجسد لذاته، أي كيف يقوم بوظيفته لذاته تمامًا كما يؤدي الوظيفة ذاتها لكلِّية الجسد ضمن كيان واحد. عندما نأتي إلى بحث الشمولية الإنسانية في المجتمع والعالم، ندرك أن ما ينطبق على الكلِّية أو الشمولية الإنسانية الفردية، ينطبق، بالمثل، على الكلِّية أو الشمولية الاجتماعية والعالمية. فكما يوجد جسد واحد يجمع الأعضاء العديدة والمتنوِّعة في تفاعل ومتكامل، كذلك يوجد كوكب أرضي واحد، هو جسد واحد، يضم تنوعات الأوطان والأقاليم والشعوب. في هذا المنظور، نعترف بوجود إنسانية واحدة تنسحب بكليتها وشمولها على جميع الشعوب عبر تعدُّد أنواعها وأعراقها وألوانها وثقافاتها. لذا، توجد إنسانية واحدة تتنوَّع وتتعدَّد في مستويات وصياغات التعبير عن كياناتها المتآلفة في حقيقة إنسانية واحدة. في ما يتعلق بالكلِّية أو الشمولية الكونية التي يبحث عنها العلم ويعترف بها أنصار وحدة الوجود التأليفية، أجد نفسي مندفعًا إلى القول: في الوقت الحاضر، يحاول العلماء أن يبلغوا، في دراساتهم وبحوثهم، المستوى العلمي الذي يؤهلهم لإبداع وصياغة قانون واحد يشمل، على نحو يضم ويجمع ويوحد، جميع القوانين الفيزيائية وغيرها في حقيقة واحدة أو قانون واحد. وفي هذا البحث الرصين والدؤوب، يدرك علماء الفيزياء والرياضيات والفيزياء الفلكية أن الحقيقة تشير إلى وجود قانون فيزيائي ورياضي هو قانون كوني وكلِّي وشامل يشمل جميع القوانين الجزئية والفردية الأخرى. وبالمثل، يسعى الاختصاصيون بالجسد الإنساني إلى تأسيس نظرية متكاملة وشاملة. وعلى هذا الأساس، يهدف أولئك العلماء إلى معالجة جسد الإنسان ككيان واحد غير قابل للتجزئة والانقسام، ويعرضون عن معالجة العضو على حدة. إنهم يؤكِّدون عدم وجود العضو المعزول عن كلِّية الجسد، وعدم وجود العقل المعزول عن كلِّية العقول الإنسانية، وعدم وجود الشعب المعزول عن كلِّية الشعوب. عندما نتحدَّث عن الحضارات والثقافات، نتحدَّث في الوقت ذاته عن الإنسانية المتكاملة في العالم. وفي هذا التكامل، نجد التنوُّع والتعدُّد القائمين في الوحدة الإنسانية الشاملة وفي وحدة الكائن البشري. في هذا التنوُّع القائم في الوحدة الكلِّية للبشرية عامة، تزدهر الحضارات والثقافات وتلتقي على صعيد الفعالية الإنسانية التي تشير إلى توحيد الأهداف وتلاقي الغايات. وفي كتابي التنوُّع الحضاري والثقافي ووحدة العقل الإنساني قدمت الأمثلة الثلاثة التالية والمعبِّرة عن الوحدة التي تتخلل التنوعات وتنبثُّ فيها: 1. نهر الإنسانية الذي تصبُّ فيه الروافد الحضارية المتنوِّعة والمتعدِّدة. في هذا المثل، يتحقَّق التنوُّع الحضاري والثقافي في كيان إنساني متكامل ومتآلف. وهكذا، يكون لكل حضارة أو ثقافة وجودها الخاص والعام في نهر الحضارة الإنسانية الكلِّي والشامل. 2. تتميَّز الحديقة، التي تزدهي بأنواع الورود أو الزهور، بجمال أكثر بهاء من الحديقة التي تزدهي بجمال نوع واحد من الورود أو الزهور. وهكذا، تضم حديقة الورود العالمية، وهي شمول وكلِّية الحضارة الإنسانية، جميع الورود أو الزهور، أي جميع الحضارات. وهكذا، يتألَّق الجمال في تنوُّعه. 3. قوس القزح الواحد الذي يتشتت إلى تنوعات ألوانه، يرمز إلى الضوء الواحد المنبث في العالم الأرضي إلى تنوعات ألوانه. هكذا، تتنوع الحضارات والثقافات في نطاق إنساني واحد. وهكذا، تكون الكثرة أو التعدُّد في الوحدة تمامًا كما تتجلَّى الوحدة من خلال التنوع والكثرة. وهكذا، يعترف الإنسان المتكامل في كيانه، والمجتمع المتكامل في كيانه، بالتكامل القائم في كيان المجتمعات الإنسانية، والمعبَّر عنه بالوحدة الإنسانية ولقاء الشعوب، في وجودهم، في عالم واحد. حاوره: ملحم رضوان ٭ الحوار السادس من كتاب: المحبة والوعي: حوار مع المفكر ندره اليازجي، حاوره ملحم رضوان، تقديم موسى ديب الخوري، دار تساؤلات، دمشق، 2010.
|
|
|