|
المسألة الدينية لدى هابرماس
يمكن أن تكون للأشياء السماوية أهميتها، لكن الشؤون الأرضية لا تقل عنها أهمية. فما هو موقف يورغن هابرماس من الدين؟ لا غرو أن الإنسان يعيش وحيدًا عن الأرض. لكن أن تستمر هذه الحياة في مكان ما آخر، أمر يمكن للإنسان أن يحلم به، لكنه ليس بالأمر المؤكد. ولهذا من الضروري أن يركز الإنسان على حياته الآنية والدنيوية، أما الباقي، الأشياء المتعالية، فبإمكانه أن يرمي بها، وبلا حرج، إلى قارعة الطريق. لكن هل يمكن ذلك فعلاً؟ في خطابه الذي ألقاه بمناسبة حصوله على جائزة السلام الألمانية في خريف 2001، بعيد أحداث الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية، أبرز هابرماس خلافه مع كل علمانية متطرفة. طبعًا إن العلمانية كانت وستبقى قصة ناجحة. فهي ساعدت على كبح جماح الأديان وخصوصًا رغبتها في السيطرة على السلطة السياسية، فإذا توقفت سلطة البابوات والكاردينالات وأنصارهم عن التدخل بشؤون الكتابة والبحث، فإن النتيجة ستكون لا ريب أفضل. ولحسن الحظ أن طريقة التفكير الورعة، التي تنتهي غالبًا إلى نوع من الطغيان للأسف، لم تعد لها سلطة على العقول، وما طورته هذه العقول هو ما يصنع عظمة أوروبا اليوم. وقد اصطلح على ذلك اسم التنوير أو الحداثة أو التقدم. ولزمن طويل ستفخر البشرية بهذا الإنجاز. إلى أن يلاحظ الإنسان بأن "هذا العالم المابعد ميتافيزيقي" هو نفسه بدأ يتحول إلى طغيان. درس تعلمته البشرية في القرن الحادي والعشرين، عصر مذاهب الخلاص، التي وصف هوركهايمر وأدورنو تحولها إلى أنظمة شمولية كجدل للتنوير. إنها للحقيقة لا شك فيها أن التنوير الذي لا يتمتع بروح نقدية تجاه نفسه، يصبح مرعبًا. ففي وجهيه القومي الاشتراكي والسوفياتي تحول التنوير إلى أنظمة مجرمة، لم ير العالم لها شبيهًا. فالطريق إلى الخلاص قاد مباشرة إلى مراكز الاعتقال النازية والغولاغ السوفياتي. عاش هابرماس، المولود سنة ألف وتسعمئة وتسعة وعشرين، هذا الرعب، وقد طبع ذلك كل تفكيره، وليس فقط هو وحده ولكن كل جيله. رالف دارندوف أو فالتر ينس ومارتين فالزر وغونتر غراس وزيغفريد لنس: فهم وآخرون تناولوا في كتاباتهم، وكل بطريقته، مآسي قيام وانهيار أيديولوجيات الخلاص وإذا ما كان لهذه الأيديولوجيات من دور إيجابي، فهو الآتي: لقد علمت العقل الغربي أن لا يؤمن بسذاجة بما يوحي به لنفسه. كيف يمكن كبح جماح العقل سياسيًا؟ أو الأفضل: كيف يمكن الحؤول دون أن تتحول الأفكار إلى أيديولوجيات متحجرة؟ والأجوبة التي قدمها كانت بمثابة هوية فلسفية لألمانيا ما بعد النازية. إن مبدأ: checks and balances، والذي يعني أن تراقب الأجهزة الدستورية لدولة ما بعضها البعض حتى لا يستحوذ جهاز منها على سلطة أكبر من الأجهزة الأخرى، سيرفعه هابرماس إلى مستوى القاعدة الأساسية لنظام الخطاب داخل المجتمعات الحديثة: يمكن افتراض كل شيء ودعم كل شيء، لكن عليه أن يعرض نفسه على النقد، أن يعرض نفسه على الرأي العام. كل شيء ممكن، لكن فقط إذا استمعنا لآراء الجميع. لا يتوجب على الموطنين أن يقبلوا بأوامر من فوق، وبدلاً من ذلك عليهم أن يتدخلوا في الشأن العام، وأن يعبروا عن مواقفهم في حوار شامل، يكون الهدف منه تحقيق الإجماع. إن الإجماع هو النهج الذي طبع أكثر من أي شيء آخر وعي ألمانيا بنفسها، حتى أنه يمكننا القول بأنه تحول إلى دين جديد للدولة الألمانية. في حين لم يعد الاعتقاد بإله واحد يلعب دورًا في ألمانيا. فالرب غادر أوروبا، وحتى الرعب الذي نشرته الديكتاتوريات البشرية لم يدفعه للعودة من جديد. وهو ما شعر به المسيحيون خصوصًا (فاليهود كانوا قد قضوا حتفهم)، وأضحت أصواتهم نادرة في الخطاب العام للمجتمع. وقد لاحظ ذلك هابرماس، الذي يصف نفسه كفيلسوف غير متدين، ولكن في وقت متأخر. فأول مرة يتحدث فيها عن ذلك كان في خريف 2001، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر بمناسبة تلقيه جائزة السلام الألمانية. لقد تحدث هابرماس في خطابه عن أمرين: الذعر الذي خلفته عمليات الحادي عشر من سبتمبر من جهة والانزعاج من نتائج التسطيح الثقافي في زمن انتشار وسائل الإعلام، والذي بدأ خصوصًا بظهور التلفزيون، فلم تكن الثقافة النقدية في الماضي لتنحط إلى مثل هذه الثرثرة العاطفية وهذه السفاهة المنفلتة التي نشهدها اليوم. وفي مثل هذه الوضعية، يرى هابرماس ضرورة أن نطرح قضايا ذات أهمية كبيرة. ومنها تلك المرتبطة بالشعور الأخلاقي، وهي التي يمكن التعبير عنها حسب هابرماس في لغة دينية. وهو ما يعني أنه حتى في المجتمعات العلمانية تبرز الحاجة إلى الإرث الديني: "إن العلمانية التي لا تدمر، تتحقق كترجمة". كترجمة للخطاب الديني إلى لغة دنيوية. في خطابه وفي كتاباته التي ظهرت بعد ذلك فسر هابرماس انهيار الدين كضياع لتقاليد ذات قيمة كبيرة، وخصوصًا بالنظر إلى ما أصبح يسمى بصراع الثقافات، والذي يمكن أن نصطلح عليه في لغة أقل عصبية بسوء الفهم السائد خصوصًا بين الغرب والشرق، والذي يرجعه هابرماس خصوصًا إلى واقع أن الغرب هو أكبر مستفيد من الحداثة وخصوصًا من إيجابياتها السياسية والمادية. في حين يتواجد الشرق في طريق طويل لم يصل بعد إلى هدف مرض: فقر وأنظمة مستبدة ومستوى تعليمي ضعيف، يقترب من الأمية. فمن هو مطرود من الأزمنة المعاصرة بهذا الشكل الكبير مثل بلدان العالم العربي، لا يمكنه إلا أن يشعر بخيبة أمل. ويمكن لخيبة الأمل هذه أن تتحول إلى غضب بالنظر إلى التجاهل الذي يعامل به الغرب بقية العالم. إنه يقدم نفسه كثقافة استهلاكية مادية مبتذلة ولا تقاوم وفي "شكل معياري مجتث". يظل الغرب فاقدًا للمصداقية "مادام لا يرى في حقوق الإنسان أكثر من تصدير مبادئ السوق الحرة، ومادام يترك الباب مشرعًا داخل بيته لتقسيم للعمل بين الأصولية الدينية والعلمانية الخالصة". وبذلك نرى لماذا يأسف هابرماس لحال الدين، وأيضًا من وجهة نظر علمانية. فليس عالم الأشياء فقط من يمنح الإنسان السعادة ولكن عالم الكلمات أيضًا، الكلمات الخيِّرة. لكن السؤال المطروح هو: هل الأديان فعلاً حامية للصدق؟ وهل يمكن الشعور بالحزن لأنها تعبر عن نفسها في خطاب متعال؟ ليس صحيحًا. لقد كُتب التاريخ الإجرامي للمسيحية، لكن الأديان الأخرى لم يكتب تاريخها حتى الآن. ومن السهل على الأديان أن تسقط في الأدلجة والأحكام المطلقة، وذلك هو المشكل الذي تواجهه المجتمعات المعاصرة، والمجتمع الدولي اليوم. فواجبها هو تحقيق انسجام بين الأيديولوجيات والمعتقدات المتنافسة، بشكل تبقى فيه دينية ولا تتحول إلى التنافس فيما بينها على المستوى السياسي. وهو أمر ليس بالمستحيل، " فالقيم المختلفة لا تقصي بعضها مثل الحقائق المختلفة". ووجود أديان متنافسة، تحاور ولا تحارب، يعود بالخير على هذه الأديان. لأنه في ظل أجواء مسالمة يمكن لهذه الأديان التفكير في قضاياها الأساسية ومنها قضية حياة الناس على هذه الأرض والاهتمام أكثر بالتقاليد، فهذا الاهتمام وحده قادر على تحقيق مصالحة بين التقليد والحداثة حسب هابرماس. وتقديم حوافز جديدة لقراءة جديدة للنصوص القديمة، وللقراءة النقدية لقناعاتنا الدينية وهو ما لا يمكن أن يحدث إلا إذا لم تكن الأديان مضطرة لمواجهة ضغوط خارجية ومضطرة لحماية وجودها، فحينها فقط لن تتكلس لا في اتجاه الداخل ولا في اتجاه الخارج. إن إعادة النظر بالتقاليد لا يعني البتة أن نتخلص منها، فهذا ما لا تريده الدولة العلمانية ولا الدولة ما بعد العلمانية، خصوصًا التي لا تعطي قيمة أكبر للتيار العلماني الخالص أو للإلحاد على حساب الدين، لأن دولة تفعل ذلك هي دولة مذهبية وإيديولوجية: "إن المحافظة على الحريات الأخلاقية نفسها تتطلب علمنة للسلطة السياسية، لكنها تمنع التعميم السياسي للرؤية العلمانية إلى العالم على الجميع". مازال جدل التنوير يلقي بظلاله حتى الآن. وسوف يلقي بها في كل الأزمنة. لكن كيف يمكن تجنبه؟ فقط عبر حوار على مستوى العالم، حوار يتمتع فيه المشاركون فيه بنفس الحق في التصويت. وإلى جانب ذلك سيظهر شيء آخر ألا وهو أن جمال الفكر في تعدده واختلافه، ومضات فكرية من كل أرجاء الكون، من الشرق ومن الغرب. ترجمة: رشيد بوطيب *** *** *** مجلة فكر وفن، عدد 92 السنة التاسعة والأربعون 2010 |
|
|