في العالم...
لكنْ ليس من العالم

 

ديمتري أڤييرينوس

 

إني بلَّغتُهم كلمتك فأبغضهم العالم، لأنهم ليسوا من العالم كما أني لست من العالم. لا أسألك أن تُخرجهم من العالم، بل أن تحفظهم من الشرير.
إنجيل يوحنا 17: 14-15

 

في أكثر من لقاء مع أستاذنا ندره اليازجي مؤخرًا، كرر عبارة "أن نكون في العالم دون أن نكون منه"، مشددًا – كعادته – على وجوب "تطبيق أنبل المبادئ في أدنى العوالم على سلَّم الوجود وأكثفها وأصعبها".

إذ قلبنا مدلول كلٍّ من حرفَي الجر في عبارات الأستاذ اليازجي العميقة، نجد أنهم قلة بين الناس، على ما يبدو، مَن يفقهون معنى أن يكون الإنسان جزءًا لا يتجزأ من العالم بالمعنى الروحي للكلمة، لا بالمعنى "الانتمائي" الدنيوي السائد، في حين أن سواهم منخرطون في العالم، غارقون فيه، شأنهم شأن الغارق في مستنقع من الوحل، فلا يعون ما يجري عليهم. لقد كانت الحياة قديمًا تشبَّه بالدوران مع عجلة، حتى قيل إن الأمير قد يغدو خادمًا والحاجب وزيرًا! العالم الأرضي برمته، كالنملة العالقة بدولاب دائر، يرتفع وينخفض، ولا أحد على يقين من أن "سعادة" اليوم ستدوم غدًا. كذا فإن عجلة سمسارا samsāra في تراث الشرق الروحي ترمز، في جملة ما ترمز إليه، إلى حال الحيرة القصوى التي نعيش فيها في هذا العالم الدائم التقلب، حيث لا أحد مستثنى من فقدان ما يملكه، أو يتمتع به، أو يتلهف للحصول عليه.

من الرموز الأخرى المستعمَلة في التراث الهندي لوصف العالم رمز "خضم الحياة" (بهڤا-ساگرا bhava-sāgara): يقال في هذا البحر إنه محفوف بالمهالك، تثور فيه العواصف وتجول فيه أسماك القرش وغيرها من المخلوقات المفترسة؛ والحياة الدنيوية تشبَّه بالسباحة الشاقة في هذا الخضم. لكنْ حتى الذين يتفقون نظريًّا مع ما تدل عليه هذه الصور البيانية الموحية قلما يأخذون ضرورة إحداث تعديل ملموس في حياتهم على محمل الجد، فيواصلون العيش "يفترسهم" الخطر وكأنه غير موجود أصلاً. غير أن مكمن الخطر ليس في احتمال خسارة المال أو المنصب أو مكابدة الذل بعد العزة؛ أخطر الأخطار إنما هو الانجراف الأعمى في تيارات "خضم الحياة"، من غير أي وعي بما يحدث، وفقدان البوصلة المعنوية والقيمية والروحية.

وثمة وصف ثالث للحياة الدنيوية، تؤديه كلمتا بهڤا-روگا bhava-roga، "داء عضال": كما أن المرض يوهن خلايا الجسم كافة وينخر في صحته، فيؤدي في المآل إلى التلف والموت، كذلك فإن الانتماء الدنيوي إلى العالم هو مرض نفسي، قوامه الأوهام والتحريفات الذهنية، ويقود في المآل إلى التحلل الأخلاقي والعبثية. فمادمنا نعيش حالاً من الحيرة المتواصلة، تكاد الحصيلة أن تكون محتومة: فالتأرجح بين الأضداد، بين الآمال والمخاوف، يفضي لا محالة إلى اضطراب الذهن وإلى فقدان السلام الداخلي. وهذه، بدرجة قد تزيد أو تنقص، هي خبرة أغلب الناس من مختلف مشارب الحياة ومختلف الأوضاع في العالم. إن الأمل بالارتقاء في المجتمع، بكسب مودة الناس، بالصيرورة شخصًا مرموقًا، إلى آخر ما هنالك، إنما تترافق مع الخوف من الإخفاق والخسارة؛ ومن هذين الضدين الأساسيين – الخوف والأمل – تتولد سائر الأضداد الأخرى، كما تؤكد الـبهگڤدگيتا (4: 22). فالأمل المتحقق يقود إلى التهلل والزهو بالنصر، بينما الأمل غير المتحقق يؤدي إلى خور الهمة والإحباط؛ الذهن، إذ ذاك، يتقاذفه نفسيًّا السخط والرضا، فيبقى حائرًا أو جاهلاً من حيث اختبار قيمة الحياة ومعناها وغايتها القصوى، كما يشدد الأستاذ اليازجي أيضًا في تضاعيف مؤلفاته[1].

* * *

هناك وسائل عديدة يلجأ الناس إليها للتهرب من مشكلة التقلب من حال إلى حال، بين اليسر والعسر، بين الآمال والمخاوف. من أشكال الهروب هذه طلب الملذات الذي بات شديد الشيوع في أيامنا هذه: تجريب أطباق جديدة في المأكل، "موضات" جديدة في الملبس، اكتشاف بلدان وأماكن جديدة، إلخ. إن هذه النشاطات ليست سيئة بالضرورة، على أن يوازنها مبدأ الاعتدال ولا تبطِّنها القسوة أو عدم الاكتراث بحاجات الآخرين؛ لكن المشكلة في مهارب كهذه أنها تستبقي مشكلة الذهن الأساسية دون حل: الحيرة، البلبلة، القلق، إلخ. أشكال الهروب كلها تلهينا عن الحاجة إلى التفكر الجدي في الحياة وفي معناها العميق، لأن الإثارة الحسية تحيِّد الحيرة مؤقتًا وحسب، فلا تلبث هذه أن ترتد إلينا في عنف أشد من ذي قبل.

من أشكال الهروب الأخرى الانقطاع عن "العالم" وعن أعماله والقول: "لا أريد أن أشارك في هذه اللعبة!" وهكذا يعيش المرء حياته منغلقًا على نفسه، إما مستغرقًا في شؤون أسرته أو جاليته أو حتى "أمَّته"، وإما طالبًا الخلاص الفردي. كم من الناس، في أيام تفجُّر العنف والحيرة الهائلة هذه، هم من الانشغال بشؤونهم الخاصة بحيث يعيشون متناسين كل ما عداهم تمامًا. فلو لم يكن الأمر كذلك، لكان أغلب الناس انتفضوا على سياسات حكوماتهم الجائرة في حق شعوب بأسرها، ولثاروا على تصنيع أسلحة الدمار وانتهاك الغابات وإنتاج المحاصيل المعدلة جينيًّا GMO وغيرها من النكبات الصناعية والأبحاث "العلمية" الخطيرة المستشرية في العالم الحديث، ولاستطاعوا أن يضعوا لها حدًّا. لكن ثمة الكثير من الراحة في الأنانية والانصياع وإيكال أمر القرار إلى الآخرين "بالنيابة"؛ وبذا يفعل أغلب الناس ما يفعل سواهم، منساقين مع التيار، آملين، مع ذلك، نوال الأفضل. حياة المحاكاة والانصياع والخنوع قطعًا جزء من الحياة الدنيوية.

* * *

مهما يكن الطريق الذي يسلكه الناس، فإن الإعياء والسأم سرعان ما يدبان في نفوسهم بمرور الوقت. والعديد من المسنين قد اختبروا هذا الأمر، لا لأن من الصعب تقبُّل إعياء جسم يهرم وحسب، لكنْ بسبب الإحساس بنوع آخر من السأم أيضًا: فالخبرات الدنيوية كلها تغدو تكرارية، وبالتالي، مملة، فاقدة الرونق، باهتة، وحتى لا تطاق. لذا فإن بعض النساء والرجال، في العصور كافة ومن جميع الحضارات، اعتزلوا الدنيا في غابة أو جبل أو دير طلبًا للوحدة وحياة الصلاة والتأمل. ولكنْ في تلك الأماكن أيضًا – إذا جاز لنا الحكم على التقارير المنشورة بهذا الصدد –، نقع على الانفعالات والخواطر وردود الفعل نفسها التي نقع عليها في "الدنيا": كأنْ نجد، مثلاً، مختلف صنوف الغيرة بسبب أشياء تافهة، كنيل حظوة لدى رئيس الدير مثلاً، القلوب الكسيرة، التنافس وطلب النفوذ، إلى آخر ما هنالك[2].

إن حياة الاعتزال الديني لا تختلف كثيرًا عن الحياة الدنيوية إذا تخللها نمط الاشتغال الذهني نفسه. بيد أن أغلب الأديان يقول بأنك لا تستطيع أن تعيش في العالم من غير أن تتعلق بتيارَي التفكير والسلوك الدنيويين، فتبقى آمنًا، طاهرًا في الداخل. فالحضور البشري ذو الذهن المتمركز على الأنية متفشٍّ في كل مكان. حتى جبل إڤرست بات يغص بالنفايات البشرية، وأكثر الأماكن عزلة أضحت لا تخلو من الضجيج. ليس من السهولة بمكان اعتزال العالم المليء بالضغط، ولا الانتماء إليه كذلك. الجسم السقيم خاضع للضغط، شأنه في ذلك شأن الذهن الوخيم، بمخاوفه وآماله ويقينياته الكاذبة؛ وهذا الضغط يبلغ أوجه في العالم الحديث، بفلسفته التنافسية التي تشدد على الترقِّي الفردي. ومنه، فإن العديد من الناس باتوا يجدون الملاذ في العكوف على دراسة الأديان والتصوف أو على ممارسة اليوگا والزنْ والتأمل التجاوزي TM والبرمجة اللغوية-العصبية NLP إلخ، فيكثرون من حضور محاضرات والانخراط في "دورات" حول هذه الموضوعات، موهمين أنفسهم بأن هذه النشاطات، التي يرتزق منها "المعلمون" الجُدُد، سوف تحررهم من ضغوط العيش. فما العمل إذن؟

يتوهم الناس أن التقشف في العيش أو الانضباط يقتضي الاعتزال، لكن "التقشف"[3] يمكن العمل به أينما كنا. التقشف الجسماني يعني، فيما يعني، الاستقامة وكف الأذى والعفة؛ التقشف في القول يعني قول الكلمات الصادقة، غير الجارحة، التي تساعد على بلوغ معرفة النفس؛ التقشف الذهني يعني نفاذ البصيرة، وليد الخواطر النقية والذهن الصافي، الذي يقود إلى التأمل. يقول ج. كريشنامورتي:

التأمل عمل شاق. إنه يتطلب أرقى أشكال الانضباط – ليس الانصياع، ليس التقليد، ليس الطاعة، بل انضباط يأتي عبر الانتباه الدائم، ليس إلى الأشياء من حولك خارجيًّا وحسب، بل داخليًّا أيضًا. ومنه، فإن التأمل ليس نشاطًا عازلاً، بل هو فعل في الحياة اليومية يتطلب التعاون والحساسية والفطنة. فمن دون وضع أساس لحياة مستقيمة يصير التأمل هروبًا، وبالتالي، لا قيمة له أيًّا تكن. والحياة المستقيمة ليست التقيد بالآداب الاجتماعية، بل التحرر من الحسد والجشع والسعي إلى السلطة – وكلُّها يورث العداوة. التحرر من العداوة لا يأتي عبر نشاط إرادي، بل بالانتباه إليها عبر معرفة النفس. فمن دون معرفة نشاطات النفس، يصير التأمل مجرد استثارة حسية، وبالتالي، غير ذي مغزى يُذكَر.[4]

* * *

فلننظر الآن، باختصار، إلى ماهية عدم الانتماء إلى العالم. ليس المقصود من هذه العبارة، بالطبع، عدم الانتماء الفيزيائي، بل التحرر الداخلي وسياسة السلوك اليومي الحكيمة اللذان يحُولان دون الانقياد إلى اتخاذ مواقف واعتناق قيم ومعتقدات بتأثير من الضغوط، داخلية كانت أو خارجية. في كلا الـيوگا-ڤاسشتها Yoga Vāsishtha والإنجيل، نجد نصيحة العودة أطفالاً صغارًا: "مَن لم يقبل ملكوت الله مثل الطفل لا يدخله" (إنجيل مرقس 10: 15). لماذا؟ لأن الأطفال، عمومًا، سعداء بالفطرة. فحتى الطفل الذي تساء معاملتُه ينسى الإساءة أحيانًا ويحيا سعيدًا إذا أتيح له المجال لذلك. الأطفال لا يصارعون العالم، ولا ينخرطون في نشاطات دافعها الطموح أو الطمع، ولا في ألاعيب تضخيم الأنا؛ إنهم يكونون أنفسهم وحسب. في المقابل، فإن جوهر الحداثة يعبَّر عنه لدى الراشد في مواقف واعية أو غير واعية من الصراع والمواجهة. بطبيعة الحال، لا نتوقعنَّ من ملايين الناس على شفير الموت جوعًا ألا ينتفضوا ويصارعوا للبقاء؛ لكن الذين لا تواجههم ظروف بهذه الحدة، مافتئ فيهم شيء يصارع، على مستوى حاذق، طوال الوقت. بذا نجد نزاعًا مع البيئة، مع أفراد الأسرة، في أداء الواجبات المهنية، وبالأخص مع النفس. حتى الذين ينضمون إلى جمعيات خيرية أو تنظيمات أهلية (بات اصطلاح "المجتمع المدني" شديد الشيوع في الآونة الأخيرة) طيبة المقاصد تراهم لا يقدرون على الاستنكاف من الصراع؛ ثم، وقد أعياهم الصراع، يصارعون للتحرر من الصراع! ترانا لا نجرؤ على الهدوء، بل نصر دومًا على إنجاز شيء أو التخطيط لمثل هذا الإنجاز.

فهلا تساءلنا: فيمَ نتصارع؟ ولماذا يأتي الضغط من أعماق نفوسنا؟ أيكون أن الصراع الجسماني الذي ورثناه من ماضينا الحيواني لا يزال فاعلاً في دماغنا؟ لماذا يشعر الناس الذين عندهم ما يكفي من المأكل ويتمتعون بكل ما يحتاجون إليه أنهم "فقراء"؟ أيكون أن الذهن، بطبيعته، لا يستغني عن بلوغ شرط مختلف؟ في المجتمع الحديث، حتى الأطفال يُرغمون على التحضر، بعد تخرُّجهم من الجامعة، لاكتساب المزيد من المهارات، لتحقيق مردود أكثر فأكثر، لتحصيل مناصب أعلى فأعلى، مما يؤدي لا محالة إلى الصراع. يقول كريشنامورتي مخاطبًا تلامذة المدارس ومدرسيهم:

التربية حاليًّا – لسوء الحظ – تهدف إلى جعلك تنصاع لهذا المجتمع الاستحواذي، تدخل في قالبه، وتتكيف معه. ذاك كل ما يشغل بال أبويك ومدرسيك وما تنص عليه كتبك. فمادمت تنصاع، مادمت طَموحًا، استحواذيًّا، تفسد الآخرين وتحطمهم في سعيك لتحصيل المكانة والنفوذ، فأنت تُعتبر مواطنًا "محترمًا". إنك تُربى على الدخول في قالب المجتمع؛ لكن ذلك ليس تربية، بل مجرد عملية تُشرطك على الانصياع لنموذج ما. لكن الدور الحقيقي للتربية ليس أن تحولك إلى موظف أو قاض أو رئيس وزراء، بل أن تساعدك على فهم بنيان هذا المجتمع العفن في كلِّيته وتتيح لك فسحة النمو في حرية، بحيث تفلت منه وتخلق مجتمعًا مختلفًا، عالمًا جديدًا.[5]

وفيما بعد، يصارع المرء ليكون محبوبًا؛ وكلما زادت حاجة الناس المَرَضية إلى الحب أو الإعجاب أو الامتنان، تكون الضغوط في حياتهم أشد. إنهم يستهلكون طاقتهم في الرغبة والطلب، بدلاً من أن يكونوا أنفسهم محبين ولطيفين وخدومين، فيهدرون حياتهم في الصراع.

من غير أن نضع قائمة مستوفية بهذه الظواهر المَرَضية، حسبنا شيء من النظر الثاقب حتى ندرك أن صراع المرء لإثبات جدارته، للظهور ذكيًّا، للحصول على مزايا وامتيازات، للتقدم السريع، إلخ، – ما يُسمى "الطموح" – إنما هو عادة نفسانية مدمرة. ولكن لماذا نطلب الظهور بمظهر ما ليس منا؟ لماذا نبذل هذه الجهود كلها أصلاً؟ وهل من الممكن لنا أن نعمل ونحيا، يحدونا الحب وحده إلى عمل ما هو إبداعي وقيِّم، مفيد وخيِّر، من غير ما حاجة إلى الصراع في سبيل ذلك، أي من غير أي طموح؟ يقول كريشنامورتي أيضًا:

ماذا يحدث عندما تكون طَموحًا؟ تفكِّر في نفسك فقط، أليس كذلك؟ تكون عديم الرأفة، تنحِّي غيرك من الناس لأنك تسعى في تحقيق طموحك، تسعى في أن تصير شخصًا مرموقًا، فتوجِد بذلك في المجتمع النزاع بين الناجحين وبين المتخلِّفين عن الركب، فتنشب معركة دائمة بينك وبين الآخرين الساعين هم أيضًا في الحصول على ما تريد. فهل هذا النزاع منتج لحياة مبدعة؟ [...]

هل تكون طَموحًا حين تحب أن تفعل شيئًا من أجل ذاته؟ حين تفعل شيئًا بكيانك كله، لا لأنك تبتغي الوصول إلى منصب ما، ولا لتحقق مزيدًا من الربح، أو نتائج أعظم، بل ببساطة لأنك تحب أن تفعله – في ذلك، لا وجود للطموح، أليس كذلك؟ في ذلك، لا وجود للتنافس: فأنت لا تصارع أحدًا على المركز الأول. ألا ينبغي للتربية أن تساعدك على اكتشاف ما تحب حقًّا أن تفعله، بحيث إنك، من بداية حياتك إلى نهايتها، تعمل على شيء تشعر أنه يستحق العناء وله بنظرك مغزى عميق؟[6]

* * *

مادام الصراع عادة مستحكمة من عادات الأنية ego، فإن الناس، حتى حين يتمنون عدم الانتماء إلى العالم ويتشوقون إلى الحياة "الروحية"، ترى الذهن يستمر على عادته تلك، فيتحرق إلى لفت انتباه الـگورو guru (المعلم الروحي) أو نيل بركته، إلى تحقيق الاستنارة أو إيجاد الوسيلة الفضلى للتغلب على عيوبه إلخ – وبذا لا يكون في سلام مع نفسه أبدًا. لذا جاء في كتيب نور على الدرب: "لا يخدعنَّك قلبك في سهولة". فما أسهل على المرء أن يكون دنيويًّا فيما يوهم نفسه أنه "روحاني"[7]! في المقابل، عندما يعي المرء أن الذات الأنانية تقتات بالصراع واستعداء الناس، بالخواطر السلبية، بردود الفعل، بترصد عيوب الآخرين والكيد لهم، إلخ، ينحل التوتر في النفس ويستتب الهدوء في الذهن.

انتهاج حياة صحيحة، السلوك العفوي الصادق كالأطفال، إنما يعني عدم طلب المزيد، عدم الاقتتال، بل البقاء على الهدوء ورباطة الجأش، مهما حصل. لا يعلِّم كلٌّ من الرواقية والطاوية غير ذلك: عدم الاضطراب ataraxia، أي الطمأنينة العميقة، اللافعل wou-wei، أي العمل من غير جهد بالتناغم مع الأرض والسماء[8]. ألا ترشد الـبهگڤدگيتا إلى ذلك عينه حين تنصح للمرء بالعمل "راسخًا في اليوگا" (6: 18)؟ اليوگا ليس مجرد رياضة بدنية أو تمارين تنفسية، بل هو التحقيق التام للتناغم بين الأرض والسماء اللتين نحن جزء لا يتجزأ منهما. حين ينعدم الشعور بالصراع وتحل السكينة في نفوسنا (ما كان الأقدمون يسمونه شما shama)، فتنعكس هذه السكينة على كل ما نفعل أو نفكر فيه، يحصل تغير ملحوظ في علاقاتنا كلها وفي جوهر كياننا نفسه.

هناك أناس لامعون للغاية، ماهرون ومثقفون، يطرحون حلولاً متنوعة لمشكلات العصر الحالي الهائلة والمتفاقمة، لكن الدواء المطروح في الغالب أسوأ من الداء. إن شيوع استعمال الـProzac الشهير وغيره من المركبات الكيميائية المضادة للاكتئاب antidepressants مثال بليغ على ما نقول. لقد كان يُفترض فيها أن تخفف من حدة التوترات في المجتمع وتعين الناس على احتمال ضغوط الحياة، لكنها جلبت عليهم مشكلات جديدة، أهونها الإدمان. ومَن يدري إلامَ سيفضي المزيد من التلاعب بالجينات؟ أترانا أعجز من أن نجد حلولاً للنزاعات المحتدمة في العالم، أو نضع حدًّا لتلويث البيئة، أو نجتث شأفة الفقر الذي لا يحرم الناس من الغذاء وحسب، بل ومن فرص تنمية مستدامة لائقة بإنسانيتهم؟ أليس ذلك لأننا ضحايا الاضطراب القائم على الأنا والتوتر والنزاع، الدنيوي أساسًا، فنُسقط أوهامًا اعتبارًا من ذهن مبلبل، وبالتالي، مظلم؟ لا ريب أن الذهن الهادئ وحده يتصف بالوضوح، لا الذهن المضطرب. غير أن الذهن النرجسي أو المصاب بجنون العظمة يثق أشد الثقة بقدراته ومهاراته، فيفترض أن هذه البلبلة يمكن تبديدها في لحظة عجائبية بمجرد أن يتحول إلى موضوع مألوف؛ لكن هذا لا يحصل البتة لأن إدراكه ليس تامًّا ولا صحيحًا.

* * *

كيف لنا أن نحصل على هدوء عميق وحسٍّ بالتناغم الداخلي، وحدهما يكفلان العمل الحميد؟ قد يبدو الهدوء والعمل متناقضين، لكن هذا ليس صحيحًا. "اللاعمل في العمل والعمل في اللاعمل" الذي تتكلم عليه الـبهگڤدگيتا (4: 18) ينبع من ذهن صاف عميق؛ وكل ما عدا ذلك اضطراب وبلبلة ونشاط غير مثمر. لذا من الحيوي للعالم وللأفراد تعلُّم العمل اعتبارًا من حال هدوء، حال صفاء وسكينة، بدلاً من العمل والذهن يصارع. فما لم نتقصَّ هذا الأمر ونتحرر فعلاً من الانجراف الإجباري في تيار الدنيوية، لا يمكن للشقاء أن يتوقف.

لذا لا مناص لنا من التريث قليلاً لندرك كيف نشتغل – لا ماذا نفعل، لا كيف نجد حلولاً للمشكلات، بل كيف تشتغل أذهاننا. لعل مجرد عمل صغير نؤديه والذهن محقق للشرط السليم أنفع بكثير من أشياء كثيرة نؤديها والذهن متمركز على ذاته. ففي المحيط، حين تهب ريح عاتية، تتشكل في البداية مويجات صغيرة؛ لكنْ إذا ما واصلت الريح هبوبها، لا تلبث المويجات أن تتحول إلى أمواج ضخمة، قد لا تقوى على مقاومتها أمتن السفن. نحن جميعًا نصارع صراعًا محمومًا، تدفعنا إلى ذلك مطامح وضيعة وحاجات وهمية. وفي المجال النفساني، كما في المحيط، ثمة سيرورة تراكمية، كما نرى ذلك في الحشود الجماهيرية التي يلهبها حتى الهياج خطاب سياسي حماسي، أو ما إنْ يستبد ببعضها خوف حتى تسري عدوى الذعر فيها، فيتفرق الناس متراكضين شَذَرَ مَذَر، وقد يدوس بعضهم على بعض! العالم كله محكوم بهذا القانون: فصراعاتنا الصغيرة تتراكم، فما تلبث أن تتضخم، متحولة إلى صراعات مسلحة وحروب. لذا فإن حكماء مثل كريشنامورتي والدالاي لاما يقولون ما مفاده: "أنت مسؤول عن العالم بأسره"[9]. فحين لا نحيا في سكينة وسلام، فالعاقبة هي الحروب لا محالة، بكل مآسيها.

* * *

الحضور الفيزيائي في العالم ليس حائلاً دون تفتُّح الوعي والاستنارة، على أن يتحقق التناغم والسكينة الداخليين. البوذا التاريخي يولد في العالم في أزمنة الانحطاط الروحي، لكنه يظل مع ذلك بوذا (= مستنيرًا). فالبوذا، وإنْ كان في العالم، ليس من العالم أبدًا. إنه حرٌّ لأن وعيه خارج نطاق تأثير تيار كرما karma، بما أنه تجسيد حي للسلام. والكرما لا يتعلق فقط بالعمل المادي المجرد، بل يشمل أيضًا نوع الطاقة التي نستودعها هذا العمل. جوهر طاقة البوذا محبة وسلام، بينما الطاقة التي يولدها عوام الناس طاقة أنانية بدرجة أو بأخرى، فتتسبب في العنف على جميع الأصعدة. فحتى يحل السلام على العالم الشقي، يجب أن تخلو نفوسنا من جميع العوامل الهادرة للطاقة: الطموح والصراع والوهم والإحساس بعدم الأمان إلخ، تلك العوامل التي تُترجَم اجتماعيًّا إلى نزاع وفوضى. يقول كريشنامورتي:

بينما يرصد المرء ذلك يمكن له أن يرى أي هدر للطاقة هو. لذا على المرء أن يستخلص نفسه من هذه الفوضى الاجتماعية، من هذا الفجور الاجتماعي – ما يعني أن على المرء أن يكون وحده. مع أنك قد تحيا في المجتمع، فأنت لم تعد تقبل بنيته وقيمه – الوحشية، الحسد، الغيرة، روح التنافس – وبالتالي، أنت وحدك، وحين تكون وحدك فأنت ناضج.[10]

حين تتبدد أوهامنا، نصير دعاة سلام حقيقيين، وإنْ أبغضنا العالم، فنحيا في العالم دون أن نكون منه.

نسأل الآب القدوس، إذ ذاك، أن "يحفظنا من الشرير"...

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] راجع مثلاً: المحبة والوعي: حوار مع ندره اليازجي، بتقديم موسى د. الخوري، دار تساؤلات، دمشق، 2010، ص 104-106. (المحرر)

[2] Cf. Eugen Drewermann, Fonctionnaires de Dieu, Albin Michel, Paris, 1993.

[3] التقشف يؤديه بالسنسكريتية مصطلح تپس tapas، الذي يعني أصلاً استهلاك العناصر الفاسدة في النفس كافة.

[4] ج. كريشنامورتي، التأمل، بترجمة وتقديم ديمتري أڤييرينوس، معابر للنشر، دمشق، 2008، ص 24.

[5] ج. كريشنامورتي، "الحرية والمحبة"، سماوات: http://samawat.org/krishnamurti/think_on_these_things_3_freedom_love/. (المحرر)

[6] ج. كريشنامورتي، "دور التربية"، سماوات: http://samawat.org/krishnamurti/think_on_these_things_1_education/.

[7] راجع: ديمتري أڤييرينوس، "المادية الروحية والروحانية"، سماوات: http://samawat.org/editos/spiritual_materialism_spirituality_dna/.

[8] جاء في الـطاو-تُه-كنگ، 48: "تناقصْ فتناقصْ حتى تكف عن الفعل./ باللافعل ما من شيء إلا ويمكن القيام به".

[9] راجع مثلاً: ج. كريشنامورتي، "الطبيعة، الأكثرية والأقلية، المسؤولية"، سماوات: http://samawat.org/krishnamurti/nature_minority_responsibility/.

[10] ج. كريشنامورتي، "تغيير الموقف"، سماوات: http://samawat.org/krishnamurti/changing_attitude/.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود