|
دراسات آرامية
منذ أن وضع أبراهام غايغر كتابه ماذا أخذ محمد من اليهودية؟[1] عام 1833، سعى العلماء والباحثون إلى تتبُّع محتوى القرآن والعودة إلى مصادره اليهودية أو المسيحية. وبما أنَّ الأهمية والدور الذي لعبته الثقافة واللغة السريانية في التاريخ المبكر للإسلام كان معروفًا منذ زمنٍ طويل – جيفري في دراسته عن الكلمات الغريبة في القرآن كان قد زعم مسبقًا أنَّ حوالي 80% من الكلمات القرآنية كانت سريانية في الأصل[2] - خطت الدراسة تحت المراجعة خطوة حاسمة نحو الأمام. وكتاب لوكسنبرغ هو محاولة مميزة ومثيرة للاهتمام لقراءة النصِّ القرآني عبر عيون سريانية والتوصُّل إلى بعض النتائج المذهلة. إنه بمثابة عمل طليعي تمهيدي لما سيصبح فيما بعد تحقيقًا أكثر توسُّعًا وشمولية، بينما هو في شكله الحالي يشكِّل، حسب تعبير المؤلف نفسه، "مجرَّد محاولة لتفسير بعض المشاكل للغة القرآنية".
هناك نقطتان رئيسيتان انطلق منهما لوكسنبرغ في كتابه: الأولى، حقيقة أنَّ الثقافة السريانية، ومن ضمنها الأدب الديني باللغة السريانية، كانت واضحة خلال الفترة التي ظهر فيها الإسلام، حتى في شبه الجزيرة العربية[3]؛ أما النقطة الرئيسية الثانية فهي أنه خلال القرن الأول للنقل النصي للقرآن كان النص العربي معيوبًا ويحوي الكثير من الأخطاء، بمعنى أنه كان مكتوبًا من دون أيَّة نقاط أو علامات تنوين تميِّز بين القيم الصحيحة للعديد من الأشكال الرئيسية للحروف، في حين أنها في العبرية والسريانية مرتبطة بالفروق والاختلافات بين حروف س/ش šin/śin على التوالي، أما في النص العربي فحذف النقاط المميِّزة هو أمر مربك ومزعج جدًا. سبعة أحرف تصبح غامضة ومبهمة. حيث أنَّ كل اثنين منها يمثِّلان فونيمين مختلفين: د/ذ، ر/ز، س/ش، ص/ض، ط/ظ، ع/غ، ف/ق. وهناك حرف يشير إلى ثلاث فونيمات مختلفة: ج/ح/خ. وآخر يمكن أن يؤخذ بحدود خمسة فونيمات مختلفة: ب/ت/ث/ن/ي. فمن دون النقاط المميِّزة تلك، سيكون هناك اثنان وعشرون حرفًا غامضًا من الأبجدية العربية البالغ عدد حروفها ثمان وعشرين حرفًا. هناك خاصية مهمة ومحورية في القواعد الإملائية العربية المبكرة، وهي أنَّ حرف الياء "ي" من دون النقطتان سيؤدي وظيفة الحرف الصوتي "ألف ا" – ليس فقط أواخر الكلمات، كما هو معروف، بل أيضًا في أواسط الكلمات. وكما نسيت هذه الخاصية فيما بعد، تمت ترجمة هذه الحالات كإشارة إما على حرف صوتي "أ" أو "ي". وهذا يفسِّر الأشكال الغريبة للأحرف العربية مثل: "إبراهيم ibrāhīm" أو "شيطان šaytān"، التي كانت تلفظ بالأصل على الشكل التالي "أبراهام abrāhām" و"شايتِن šātān"، بنفس الأحرف الصوتية المستخدمة في مثيلتها السريانية، أو اللغة الأصلية التي تمَّ اشتقاقها منها. طبقًا لأطروحة لوكسنبرغ في كتابه إنَّ البدائل الإملائية المبهمة والغامضة حتى الآن مثل: "توراة" و"تورية" يجب أن تلفظ كلتاهما على الشكل التالي "تورة tawrā" بما أنَّ المقطع الأخير من الكلمة الثانية "ية yā" يجب أن يكون بدون تنقيط ولذلك يمثَّل بالتاء المربوطة "ة ā". إنَّ فكرة لوكسنبرغ الأساسية هي أنَّ هناك عدد غير قليل من الآيات الغامضة والمبهمة في القرآن يمكن في الحقيقة فهمها إذا افترض الباحث أنَّ هناك بعض الكلمات هي كلمات سريانية في الأصل تمَّت إساءة قراءتها ومن ثمَّ إساءة فهمها. حتى أنه في بعض الحالات يقدِّم محاولة إعادة قراءة السور بأكملها، والتي فجأةً – إذا ما تمَّت قراءتها على خلفيتها السريانية – يتبيَّن أنها عبارة عن نصوص متماسكة وواضحة. وهناك مثال واضح ومقنع تعامل معه لوكسنبرغ في كتابه[4] وهو (سورة الكوثر، 108): "إنَّا أعطيناكَ الكَوْثَرْ*فَصَلِّ لربِّكَ وَانْحَرْ*إنَّ شَانِئُكَ هو الأَبْتَرْ". التعبير "كوثر" يؤخذ عادةً على أنه مشتقٌ من الجذر "كثر"، ويترجم "الكثرة أو الوفرة"، بينما هو في الوقت نفسه من المفترض أنه يشير إلى أحد الأنهار في الجنة. على أيَّة حال، يميِّز لوكسنبرغ هذه اللفظة بالاسم السرياني " kuţārā" أو "kuttārā" بمعنى المواظبة أو الإصرار. ثمَّ هناك الفعل "نَحَرَ" الذي يمثِّل إشكالية ثيولوجية في نظرة محمد تجاه طقوس التضحية الوثنية، ومن الواضح أنه مجرَّد إساءة في الفهم للفظة السريانية " nğar" والتي تحمل معنى "الاستمرارية المتابعة" – حيث أنَّ "الحاء: ح" كان يقرأ "جيم: ج". أخيرًا، إنَّ التعبير الذي لا يخلو من الإشكاليات "أبتر abtar" يجب أن يعاد كتابته كـ "أتبر atbar"، حيث يشتقه لوكسنبرغ من الفعل السرياني "تبار tbar" الذي يعني "لكي يُهْزَم". فينتج عن ذلك نصٌّ مفهوم ومترابط، ويتلائم بشكل مثالي مع سياق ديانة جديدة صاعدة: (إِنَّا أعْطَيْنَاكَ مَزِيَّةَ الإِصْرَارْ*فَصَلِّ لرَبِّكَ وَثَابِرْ [في الصلاة]*إِنَّ شَانِئُكَ [الشيطان] هُوَ الأَبْتَرْ [المهزوم]). علاوةً على ذلك، كما يشير لوكسنبرغ، هذه الآيات تشبه الآيات التي جاءت في رسالة بطرس الأولى 5: 8-9[5]. قد يوافق البعض على هذه القراءة الجديدة التي قام بها لوكسنبرغ لهذه السور، ومع ذلك تبقى هناك بعض الشكوك المثارة حول بعض النقاط، كزعمه أنَّ الكلمة العربية "أعطى a'ţā" يجب أن تكون مشتقة من الفعل السرياني " ayti" الذي يعني "جَلَبَ". فهذا العَرض بالتحديد ليس فقط صعبًا ومُمَشكلاً من الناحية اللغوية، بل إنه أيضًا يفشل في أن يقودنا إلى فهم أفضل للنص القرآني، بما أنَّ معنى هذا الفعل العربي بسيطٌ جدًا. يمكن أن اسقاط كلام لوكسنبرغ نفسه على سورة "العلق، 96"، وهي تحدٍ آخر لكلِّ المحاولات التفسيرية التراثية والمعاصرة للنصِّ القرآني. كلمة "عَلَقْ alaq"، حسب أطروحة لوكسنبرغ، لا تشير إلى العَلَقة الدموية التي من المفترض أنَّ الله قد خلق منها بني البشر، بل يجب أن ترتبط مع اللفظة السريانية " ālōqā" أي العالق أو اللاصق، وهي أيضًا صفة للطين اللازب. الواقع أنَّ هناك دليل يدعم هذه الفكرة يمكن إيجاده في القرآن نفسه يثبت المسألة وببساطة: "إِنَّا خَلَقْنَهُمْ مِنْ طِيْنٍ لازِبْ" (الصافات: 11). ومع أنَّ لوكسنبرغ في أكثر دلائله إقناعًا هنا، يمكن للباحث أن يخالف البعض من استنتاجاته التي توصَّل إليها، كتفسيره للكلمة الأخيرة من هذه السورة "واقترب wa-qtarib" والتي تُفَسَّرْ "واحتفل بالقربان المقدّس"!. لكن الفعل "اقْتَرِبْ iqtarib" أي (اقتَرَبَ، قَرُبَ) لا يمكن تعريفه وربطه ببساطة – بالشكل الذي يقوم به لوكسنبرغ – مع الفعل "تَقَرَّبَ taqarraba" الذي هو في الحقيقة تعبير عربي-مسيحي يشير إلى الاحتفال بالقربان المقدَّس. الاستنتاج الرئيسي الذي توصَّل إليه لوكسنبرغ بعيدٌ جدًا: إنَّ التأثير السرياني على النصِّ القرآني في مراحله المبكرة أكبر مما كان مفترضًا حتى الآن. الكثير من التعبيرات المبهمة والغامضة في القرآن يمكن فهمها فعليًا إذا كان القارئ على إلمام باللغة السريانية، ثمَّ عن طريق إعادة قراءة النصِّ العربي التقليدي. وهذا يشير ضمنًا إلى أنَّ الموثوقية المفترضة للتراث الشفهي للقرآن تترك الكثير لكي يكون مرغوبًا. إنَّ حالات إساءة الفهم قد يكون منشأها هو الخطأ في قراءة المخطوطات العربية غير المنقطة. حتى أنَّ لوكسنبرغ يذهب إلى أبعد من ذلك بافتراضه أنَّ القرآن هو كتاب آرامي، وأنَّ اللغة الأصلية لقاطني مكة كانت خليطًا من اللغتين السريانية والعربية Syriac-Arabic Mischsprache. بإمكاننا هنا أن نخرج ببعض الملاحظات النقدية، والتي ليس المقصود منها الإنقاص من القيمة الكلية العامة لهذا الكتاب. في عبارة رائعة وردت في المقدمة يدافع الكاتب عن حذف الكثير من الملاحظات والإشارات الثانوية بما أنها "بالكاد لها أي دور في الأسلوب الجديد المتبع هنا" ويستجدي انغماس القارئ في تلك النواقص كالافتقار للفهارس، وستكون جيدة في طبعة ثانية تمَّت مراجعتها من الكتاب أو مجلد ثانٍ. وبالرغم من طلب المؤلف المتواضع، قد يميل القارئ النقدي والممحص إلى عدم الموافقة. في بعض الحالات من شأن ذِكرَ الدراسات الثانوية أن يغيِّر نتائج لوكسنبرغ وأفكاره. هكذا، على سبيل المثال، وعند التصريح ببعض السذاجة أنَّ المخطوط العربي يبدو أنه مشتقٌ من المخطوطة السريانية المكتوبة، فإنه يحتوي نفسه، بالإشارة إلى الدراسة التي أجراها غرومان، على المخطوطات والنقوش العربية[6] وكتيِّب باللغة العربية مكتوب بخط اليد الأنيق من عام 1968 (ص 15). مع ذلك، هذه النظرة طبعًا تمَّ تقديمها في الأدب المدرسي، إلا أنَّ تقديم لوكسنبرغ لوضع المسألة كان ناقصًا، فهو لم يذكر الدراسة المفصَّلة التي قدَّمها غروندلر[7] الذي قال إن النصَّ العربي تمَّ اشتقاقه من النبطية، ولا إلى المقالات المبكرة لهيلي الذي اقترح بدقة وتحديد أكبر أنَّ أصل النصِّ العربي يمكن إيجاده في التشكيلة المكتوبة للنصِّ النبطي[8]. في بعض المواضع يبدو وكأن لوكسنبرغ، عندما يجد زوجًا من الجذور المشتركة في اللغتين السريانية والعربية، يعلن ببساطة أنَّ الكلمة العربية مشتقة من اللغة السريانية، حتى وإن كانت غير معقولة من وجهة النظر التاريخية واللغوية. وهذه هي الحال، على سبيل المثال، مع الكلمة "طغى ţaġā" وجذرها السرياني " ţ'ā". وباعتماد مثل هذه المزاعم، بأيَّة حال، قد يهتم القارئ ضمنيًا بمسألة المواضيع الرئيسية في علم الفونولوجيا [علم الأصوات] التاريخية السامية: يفترض لوكسنبرغ أننا لا نملك اندماجًا لحرف "الغين: غ" و"الجيم: ج" في اللغة الآرامية، إلا أننا نلاحظ وجود فصل بين هذه الفونيمات في اللغة العربية[9]. في حين أنَّ لوكسنبرغ محق تمامًا في وجهة نظره تلك، فالقارئ الممحِّص والناقد معذورٌ في توقعه ومطالبته بتفسير وتوضيح هذه المسألة. في الختام، يحتوي كتاب لوكسنبرغ قراءة سيرو-آرامية للقرآن على كنز من الأفكار الأصيلة والملاحظات المثيرة للاهتمام، والتي لها طبعًا مضاعفات ونتائج رئيسية في طريقة فهمنا لظهور الإسلام. في حالات كثيرة، يحاول لوكسنبرغ إقناعنا بأطروحته الأساسية والتي يطلق عليها اسم "قراءة آرامية للقرآن". واقتراحاته في أغلب الأحيان تؤدي على تحصيل فهم أفضل للآيات القرآنية المنيعة والمستصعبة على الفهم، واقتراحاته تلك بذاتها هي إنجازات رئيسية وتحدٍّ صارخ في وجه مؤرخي الإسلام المبكر. جامعة ليدن، 2004 ترجمة: إبراهيم جركس
٭
Christoph Luxenberg
(ps.), Die syro-aramäische Lesart des Koran: Ein Beitrag zur
Entschlüsselung der Koransprache (Berlin: Das Arabische Buch, 2000),
ix + 311 pages. isbn 3 86093 274 8. [1] Was hat Mohammed aus dem Judenthume aufgenommen? [2] آرثر جيفري، المفردات الغريبة في القرآن، 1938. Arthur Jeffery: The Foreign Vocabulary of the Quran (Baroda: Oriental InstituteK 1938), pp. 27-28. [3] من أجل الاطلاع بشكل أوسع على الموضوع، راجع كتاب الثقافة السريانية خلال القرن السابع، بروك. S. P. Brock: Syriac Culture in the Seventh Century. Aram 1 (1989), pp. 268-280. [4] لوكسنبرغ، قراءة سيرو- آرامية للقرآن، ص 269- 276. [5] (7: واطرحوا عليه ثقل همومكم كلَّها، لأنه هو يعتني بكم. 8: تعقَّلوا وتنبَّهوا. إنَّ خصمكم إبليس كأسدٍ يزأر، يحول باحثًا عن فريسةٍ يبتلعها). بطرس، الرسالة الأولى، 5: 7-8. [6] Grohmann: Arabische Paläographie (1967- 1971) [7] بياتريس غروندلر، تطوُّر النصوص العربية: من العهد النبطي إلى القرن الإسلامي الأول طبقًا للنصوص المؤرخة. Beatrice Gruendler, The Development of the Arabic Scripts: From the Nabatean Era to the First Islamic Century according to Dated Texts (Harvard Semitic Studies, 43; Atlanta, GA: Scholars Press, 1993). [8] جون هيلي، الدور النبطي في تطوُّر النص العربي، 1990. John F. Healey, ‘The Nabataean Contribution to the Development of the Arabic Script’, Aram 2 (1990), pp. 93-98; idem, ‘Nabataean to Arabic: Calligraphy and Script Development among the Pre-Islamic Arabs’, Manuscripts of the Middle East 5 (1990–91), pp. 41-52. ومن أجل الحصول على نظرة مختصرة على الآراء المختلفة، راجع كتاب هيلي: التاريخ المبكِّر للنص السرياني. John F. Healey, "The Early History of the Syriac Script", JSS 45 (2000), pp. 55-67 (64-66). [9] انظر كتاب: S. Moscati: An Introduction to the Comparative Grammar of the Semitic Languages. Phonology and Morphology (Wiesbaden: Harrassowitz, 1969) 8.44-8.49. ومن أجل الاطلاع على موضوع الدمج والفصل بين الفونيمات بشكلٍ عام، أنوِّه إلى مراجعة كتاب تيودورا بينون: Theodora Bynon: Historical Linguistics (rev. edn; Cambridge University Press, 1983), pp. 47-53.
|
|
|